ركعَ الرَّجلُ أمامَ الشاهد الحجري، باسطًا ذراعَه، مُصوِّبًا السيفَ إلى صدرِه.
قال بصوتٍ خافتٍ وهو يتمتم:
“لقد أوفيتُ بالوعدِ على أكملِ وجه. فإن رأيتِ أنّي أحسنتُ…….”
ثمَّ حرَّكَ يدَه بلا تردُّد. طُعنةٌ واحدة، فتمزَّقَ الجلدُ واخترقَ اللَّحمَ بصوتٍ مكتوم.
كُوْم.
هوى الرَّجلُ على جانبِه.
أحاطَ به وهجٌ ذهبيٌّ مرارًا، غير أنّه—على خلافِ المرّاتِ السّابقة—أخذ يبهتُ ببطء، حتّى تلاشى في نهايةِ المطاف.
اقتربَ الموت.
لم يجرؤ الرَّجلُ أن يمدَّ يدَه المُلوَّثة إلى الشاهد، فاكتفى بأن يمسحَ الزَّهرةَ البيضاءَ النّابتةَ إلى جوارِها، هامسًا بما تبقّى من كلمتِه الأخيرة:
“……التفِتي إليَّ مرّةً واحدةً فقط، يا ييرينا.”
—
كانَت إمبراطوريّةُ ڤيستيوس أشدَّ إمبراطورياتِ القارّةِ القديمة بأسًا.
ولو طُلِبَ من الكاتبِ أن يختارَ واحدًا من أباطرتِها ممّن خلّدهم الذِّكر، لقال إنّه الإمبراطورُ السابعُ والثلاثون روشان ڤيستيوس.
وُلدَ وريثًا شرعيًّا للإمبراطورِ السّابق، غير أنّه—لسببٍ ما—سُلِبَ العرش، فراحَ يجوبُ ساحاتِ القتالِ في سنٍّ غَضّة.
قيل إنّه امتلكَ بأسًا خارقًا حتّى لُقِّبَ برسولِ الموت.
وكان يُروى أنّه كلّما هوى بسيفِه مرّةً سقطَ مئةُ عدوٍّ مع وهجٍ ذهبيّ، فظنَّ الكاتبُ أنّه ممّن نالوا بركةَ الحاكمِ آنيشا، ربّةِ النّور.
ولأنّ ذلك العصرَ كان لا يزال يشهدُ بقايا قوى الحاكمِ في القارّةِ القديمة، فالأغلبُ أنّ هذا الظنَّ صائب.
أببركةِ آنيشا كان أم بغيرِها، فقد نجحَ روشان ڤيستيوس في استعادةِ العرش.
وما إن اعتلى السُّدّةَ حتّى اتّخذَ ييرينا روكزينتا، الابنةَ الثّانية لماركيزِ روكزينتا، إمبراطورةً له، وتدورُ حولَ ذلك كثيرٌ من الأحاديثِ الطريفة.
ومن بينِها ركّزَ الكاتبُ على سجلٍّ يفيدُ بأنّ الإمبراطورةَ ييرينا ڤيستيوس لم تكن في الأصلِ ابنةَ بيتِ روكزينتا، بل أسيرةً سابقة.
وبالنّظرِ إلى الملابساتِ الكثيرة، بدا هذا الاحتمالُ راجحًا.
حبٌّ مع أسيرة.
عبارةٌ رومانسيّة.
غير أنّ التوغُّلَ في سجلّاتِ الأسيرةِ المفترضة—التي يُرجَّح أنّها الإمبراطورةُ ييرينا—يثيرُ الشكَّ في رومانسيّةِ الأمر.
فمن غزا بلادَها، ومن قتلَ أهلَها، لم يكن سوى زوجِها، الإمبراطورِ روشان ڤيستيوس.
لا يُعرَفُ ما جرى بينَهما على وجهِ الدِّقّة، غير أنّ حبَّ الإمبراطورِ لزوجتِه كان مفرِطًا بلا شكّ، بدليلِ أنّ لهما ثلاثةَ أبناء.
ويخمّنُ الكاتبُ أنّ الإمبراطورةَ، وقد قُدِّرَ لها هذا المصيرُ القاسي، لعلّها قبلتْه وعاشتْ خاضعةً له.
ويرتبطُ موتُ الإمبراطورِ روشان ڤيستيوس ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورةِ ييرينا.
فبعد وفاةِ زوجتِه، عهدَ بشؤونِ الحكمِ إلى وليِّ العهد آنذاك، الإمبراطورِ كايرو ڤيستيوس، وسلّمه—عقبَ غزوِ مملكةِ أناسيا—معظمَ صلاحياتِه.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى لقيَ روشان ڤيستيوس حتفَه.
والأدقُّ أن نقول: إنّه اختارَ موتَه.
إذ انتحرَ الإمبراطورُ روشان ڤيستيوس أمامَ قبرِ الإمبراطورةِ ييرينا، غارسًا السيفَ في قلبِه بدقّة.
ويُقال إنّ الدّمَ الذي سالَ من قلبِه وجَرى على نصلِ السيف كان أسودَ اللّون.
— من تاريخ القارّةِ القديمة، الفصل الرابع عشر.
الخاتمة
‘الزّمنُ قاسٍ.
فالإنسانُ، الذي لا يملكُ خلودَ الحاكم، يُدفنُ في لحظة.
إمبراطوريّاتٌ عظيمة، وأباطرةٌ حكموا، وقادةٌ ذاعَ صيتُهم، لا يخلّفونَ سوى آثارٍ قصيرة.
أمامَ الزّمن، ينهارُ كلُّ شيءٍ كالرّمل. وهكذا تذوي إمبراطوريّةُ ڤيستيوس.
فالذين عبروا البحارَ الثّلاثة هربًا سيعودونَ قريبًا، وحينَها تحلُّ أزمةٌ جديدة بالقارّةِ كلّها.’
انتهت صرخةُ أمراة عمياء.
كانت معلّقةً على المحرقة، وقد حُكمَ عليها بالهرطقة، فالتهمتْها النّيرانُ في لحظة.
لكنّ النّاسَ لم يعلموا أنّ السّاحرةَ التي أحرقوها كانت قدّيسة.
—
وكما تنبّأتِ السّاحرة، عادَتِ الأجناسُ الغريبةُ التي هربتْ عبرَ البحارِ الثّلاثة بعد ألفَي عام.
“وَحْش! إنّه وَحْش!”
“أيُّ وَحْشٍ هذا؟ هيه! ألستَ تشبهُ البشرَ هنا؟
جرّب أن تكلّمَهم.”
صارت القارّةُ تُعرَفُ بالقارّةِ القديمة، أمّا القارّةُ التي عبرتْ إليها الأجناسُ الغريبة فدُعِيَتِ القارّةَ الجديدة.
وكانَ سكّانُ القارّةِ الجديدة—من البشرِ وسائرِ الأجناس—أبرعَ من سكّانِ القارّةِ القديمة في وجوهٍ شتّى.
فقد امتلكوا قوى الحاكمِ التي رحلتْ معهم.
وعلى خلافِ أهلِ القارّةِ القديمة، لم يفقدوا حمايةَ الحاكم، فاستعملوا السِّحرَ بحرّيّة.
سفنٌ تطيرُ في السّماء، ماءٌ يهطلُ متى شاؤوا، أقلامٌ تتحرّكُ بلا يدٍ بشريّة.
تسلّلَ الخوفُ إلى عيونِ أهلِ القارّةِ القديمة.
“اطردوا الشّياطين!”
“باسمِ الحاكم، اقذفوهم في البحر!”
فالخوفُ الجديدُ لا بدَّ أن يجلبَ الصِّراع.
نهضتِ المعابدُ في شتّى الأقاليم، لكنّ القادمين من القارّةِ الجديدة أثبتوا، بأمّ العين، أنّ الحاكم التي يخدمونها تقفُ إلى جانبِهم.
أمامَ سحرِهم، انهارت معنويّاتُ القارّةِ القديمة، وأُعلِنَ الاستسلام.
غير أنّ بعضَهم أبى القبول، فاندلعتْ حروبٌ صغرى وكبرى طالَ أمدُها.
وبعدَ مئتي عامٍ فقط، وضعتِ الحربُ أوزارَها.
وكالعادة، كان ثمّةَ منتصرٌ ومهزوم.
وعلى المهزومِ أن يخضعَ لقوانينِ المنتصر.
ورغمَ كثرةِ اللّغط، اعترفَ أهلُ القارّةِ القديمة بالقارّةِ الجديدة وقبلوها رويدًا.
ومضى الزّمنُ، زمنٌ طويل.
غدتِ التسمياتُ مجرّدَ ذكرى، وعادَ العالمُ يُدارُ—كما كان في سالفِ الدّهور—بقوّةٍ منحتها الحاكم: السِّحر.
—
“أُمّي…….”
كانت ييرينا تختبئُ خلفَ ستارٍ، ترتجفُ خوفًا.
كانت عائلتُها على شفا الموت، بسببِها هي.
في عصرٍ يُقاسُ فيه كلُّ شيءٍ بالسِّحر، كان لزامًا على أبناءِ النُّبلاءِ امتلاكُ القوّةِ السِّحريّة.
وفي هذا البلدِ خاصّة، كان الأطفالُ النُّبلاءُ الذين لا يُظهِرونَ سحرًا حتّى سنِّ العاشرة يُعدّونَ مغضوبًا عليهم، فيُستعبَدونَ ويحيَونَ حياةً بائسة.
كثيرٌ من النُّبلاءِ تخلّوا عن أبنائِهم بلا تردُّد، بحجّةِ تلويثِ دماءِ العائلة.
لكنّ عائلةَ ييرينا كانت مختلفة.
فعلى الرّغمِ من مجدِها وقوّةِ سحرِها، أحبّوا ابنتَهم التي لا سحرَ لها.
وتحمّلوا الخطرَ، فادّعَوا كذبًا أنّ لديها سحرًا.
غير أنّ الأمرَ انكشفَ حين بلغتْ ييرينا العشرين.
وأُجبِرتِ العائلةُ على الاختيار: تسليمُها ونيلُ عقابٍ خفيف، أم الفرارُ مخاطِرين بكلِّ شيء.
‘سأذهبُ أنا. توقّفوا.
سيهلكُ الجميعُ إن استمررنا.’
قالت صاحبةُ الشأن إنّها ستقبلُ العبوديّة.
لكنّ عائلتَها هزّتْ رؤوسَها رفضًا.
تخلّوا عن اللّقبِ والثّروة، وقرّروا الفرارَ فورًا.
غير أنّهم، على مشارفِ الحدود، لحقَ بهم أساقفةُ برجِ السِّحر المكلَّفون باعتقالِ النُّبلاءِ عديمي السِّحر.
سارتِ الأمورُ نحو الأسوأ، لكنّ والدي ييرينا لم يتخلَّيا عنها.
أطلقوا تعويذةَ حماية، وحاولوا الذّودَ عنها حتّى النّهاية.
‘إذا وصلوا إلى هنا…… فماذا حلَّ بإخوتي؟’
كان إخوتُها يواجهونَ الأعداءَ خارجَ القصر.
ووصولُهم إلى هنا يعني……
اغرورقتْ عينا ييرينا الزّرقاوان مرّةً أخرى.
“كفى مقاومةً، أيّها الكونت.
أليسَ هذا بيتَ ويستدر ذائعَ الصّيت؟ أتفنونَ كلَّ شيءٍ من أجلِ شخصٍ غيرِ مؤهَّل؟”
“مهما قلتَ، لن أُسلِّمَ ابنتي!”
صرخَ أبوها، غير أنّ وجهَه كان شاحبًا، وقد أوشكتِ الحمايةُ أن تنهار.
رأتْ ييرينا أمَّها تلقي نظرةً دامعةً نحو الستار.
نهضتْ ييرينا، ترتجفُ.
‘لا. لا أستطيعُ أن أدعَ والديَّ يموتان بسببي.’
كانت تعرفُ قسوةَ العبوديّة.
ولو أُخِذتْ، لآلتْ إلى قصرِ الأميرِ الرّابع، الذي طالما لاحقَها.
تذكّرتْ عينيه البنفسجيّتَين الكئيبتَين، فقشعرَّ بدنُها اشمئزازًا.
لكنّ الأشدَّ رعبًا كان موتَ والديها بسببِها.
مدّتْ يدَها لتزيحَ الستار، فإذا بمجموعةٍ تقتحمُ القاعة.
اتّسعتْ عيناها حين رأتْ دبوسَ الرّداء بنقشِ الصّقرِ الذّهبي.
‘فرسانُ الأميرِ السّابع؟’
كان لكلِّ أميرٍ فرسانُه، وأشهرُهم فرسانُ الصّقرِ الذّهبي للأميرِ السّابع.
لكن لماذا يقفونَ أمامَ والديها؟ ولماذا يواجهونَ أساقفةَ برجِ السِّحر؟
ارتبكتْ ييرينا، وكذلك والداها.
ثمَّ وقعَ ما هو أعجب.
إذ انتصبَ الفرسانُ في وقفةِ احترامٍ لرجلٍ دخلَ لتوِّه.
‘آه…….’
خُصَلٌ سوداءُ منسدلةٌ، وعينانِ تتّقِدانِ بحُمْرةٍ عميقةٍ.
عرفتْه من فوره.
إنّه الأميرُ السّابع، سيّدُ فرسانِ الصّقرِ الذّهبي، وأحدُ أبرزِ المرشّحين للعرش.
‘لماذا الأميرُ السّابع هنا؟’
كانت قد رأتْه مرّاتٍ من بعيد.
عينان بلونِ عينَي الإمبراطورِ الأوّل، وبرودٌ لا مبالاة.
وحين حدّقَ فيها في آخرِ مأدبةٍ حضرتْها، قبلَ انكشافِ سرِّها، شعرتْ بقشعريرة.
وحين التقتْ به الآن، عادَ ذلك الإحساس.
نظرتْ إليه من خلالِ شقٍّ في الستار.
وفجأةً، التقتْ عيناهما.
تراجعتْ مذعورةً، وأسقطتِ الستار.
“حتّى لو كنتَ أميرًا، لا يحقُّ لك هذا!
التحقيقُ في غيرِ المؤهَّلين من شأنِ برجِ السِّحر!”
ثمَّ أضاءَ المكانَ وميضٌ مبهر.
‘هذا……!’
كان نورًا ذهبيًّا ساطعًا.
رفعتْ ييرينا ذراعَها تقي به بصرَها، مدركةً أنّ سحرًا عظيمًا قد استُعمِل.
خبا النّورُ ببطء، ومدّتْ يدٌ كبيرةٌ الستارَ بلطف.
سقطتْ ييرينا جالسةً، متوقّعةً القبضَ عليها.
لكنّ الذي وقفَ أمامَها كان رجلًا بعينين كالياقوت.
“ها أنتِ تلتفتينَ إليَّ أخيرًا.”
قال الأميرُ السّابع كلامًا لم تفهمْه.
ابتسمَ برفق، فتحوّلَ بردُ ملامحِه إلى دفءٍ كوهجِه الذّهبي.
هدأ ارتجافُها شيئًا فشيئًا.
انتظرَ بصبرٍ حتّى استقرَّ نفسُها.
وحين صفا بحيرُ عينيها، انحنى بعمق، ومدَّ يدَه بأقصى درجاتِ التّهذيب.
وقال:
“لا تخشي شيئًا؛ فهذه المرّة سأصونُكم جميعًا، أنتِ وعائلتُكِ، وأعِدُكِ وعدًا لا يخون.”
-نهاية القصة الرئيسية-
︶ ⏝ ︶ ୨♡୧ ︶ ⏝ ︶
بتوفيقٍ من الله، اكتملت ترجمةُ هذا العمل.
وأترك في ختام هذه الرحلة كلمةً أخيرة،
لا على هيئة وداع، بل بوصفها امتدادًا لما بدأناه معًا.
أُغلق هذا العمل اليوم،
غير أنّ أثره سيظلّ مقيمًا في داخلي؛ في سهراتٍ طالت، وفي فصولٍ عشتُها لا كمترجمةٍ فحسب، بل كشاهدةٍ على نموّ الحكاية، وعلى تحوّلها من نصٍّ مكتوب إلى ذاكرةٍ حيّة لا تُطوى.
التعليقات لهذا الفصل " 101"