1
طار رأسُ الملك في الهواء كقمرٍ مطفأٍ اقتُلِع من عليائه، وتناثر دمه في قوسٍ مائلٍ على العرش الذهبيّ.
وانشقّت العباءة الزرقاء ذات المهابة عند موضعها الأعلى، حيث خطّ السيفُ المستقيم مساره المروّع، ثم هوى الجسد المكسوّ بالوشاح على الرخام بصوتٍ مكتوم، كأنّه اعترافٌ متأخّر بنهاية ملكٍ عاش متعالِيًا فوق الجميع.
سقط التاج الذهبيّ، المصوغ على هيئة قرون غزلانٍ نبيلة، من الرأس الذي تبع الجسد بقليل.
ارتطم بالأرض الرخامية ارتطامًا خفيفًا لا يليق بثقله، ثم دار في دائرةٍ صغيرة قبل أن يهدأ عند قدم الغازي الشرّير—روشان بيستيوس، وليّ عهد إمبراطورية بيستيوس، شقيق الإمبراطور وخليفته في الحكم، والقائد الأعلى لتلك الحرب التي جعلت مملكة سيداس جحيمًا متّقدًا.
“أيُّها الوغد!”
صرخت الملكة الجالسة إلى جوار العرش الذي كان يشغله ملكها، وسالت دموعٌ ملوّثة بالدم على وجنتيها وشَعث رأسِها.
خرج من جسدها النحيل صراخٌ لا يُتصوَّر، موجّهٌ إلى الغازي، يختلط بالبكاء ونشيج الفقد.
وطِئت الملكة—التي جاوزت منتصف العمر—الأرض الملطّخة بدم زوجها الذي رافقته عمرًا كاملًا، واستلت خنجرًا مزخرفًا من حضنها.
لم يكن ذاك الخنجر الصغير، المرصّع بجواهر نفيسة، يوحي بأنّه قادر على إزهاق روح.
لكن نصله الخفي كان حادًّا على غير المتوقّع… تمامًا كالقسوة التي ارتسمت على ملامح الملكة.
تطلّعت إلى رأس الملك الملقى جانبًا، ثم اندفعت في تحدٍّ أحمق نحو الغازي الذي يقف فوق بِركة الدم التي صنعها.
“ذبحتَ أبناءي… والآن تقتل زوجي.
سآخذك بيدي… لتحاكَم!”
كانت حركتها حادّة بقوة اليأس، غير أنّها في النهاية امرأة نبيلة لم تحمل سيفًا قط؛ عاشت عمرها تمسك الزهور والجواهر، لا الحديد والدم.
لم يبدُ على فرسان روشان—الذين وقفوا غير بعيد عنه—القلقُ من اندفاع امرأةٍ لم تعرف القتال يومًا؛ فهم يعرفون قدرات سيدهم جيّدًا.
وكان واضحًا أنّها ستُطرَح أرضًا بسيفٍ رُويت شفرته بدم زوجها قبل أن تلامس مدى سيدهم.
لكنّ أمرًا غريبًا حدث.
على الرغم من تقدّم خنجر الملكة، بقي الغازي واقفًا كتمثال داكن، لم يتحرّك قيد أنملة.
ولم يُدرك فرسانه أنّ حال سيدهم غير مألوفة إلا حين مدّت الملكة ذراعيها.
حينها فقط اندفعوا.
كان سيدهم يحمل سيفًا طويلًا تحت عباءته السوداء كلون شعره، لكن طرفه كان متجهًا نحو الأرض، وقبضته مرتخية هادئة.
ولوهلة، بدا وجهه قريبًا من هدوئه المعتاد… غير أنّ الذين يخدمونه عن قُرب عرفوا الحقيقة:
‘إنّ سيدنا… ليس على حاله.’
كانت عينا روشان الحمراوان تتّقدان بنورٍ غريب.
“موتي!”
رفعت الملكة الخنجر بكلتي يديها، فيما كانت نظرات الغازي تتجنّبها تمامًا.
كان ينظر وراءها… إلى العرش الذي جلس عليه الملك قبل لحظات من قطع رأسه.
“صاحب السمو!”
اندفع فريدريك من عشيرة روديتا—أحد أقرب رجال روشان، مع نوكس وهايدن—وطعن الملكة برمحه الممهور بشعار عشيرته: رأس قرش المطرقة.
شقّ الرمح جنب الملكة، فتدفقت منها الحياة الحمراوات، وسقطت كما سقط زوجها، قبل أن يكتمل صراخها الأخير.
حاولت، وهي تترنّح قرب رأس الملك المقطوع، أن ترفع عنقها بصعوبة، وعيناها الزرقاوان تغليان شعورًا بالغضب والوجع وهي تنظر إلى الغازي الذي داس بلادها، وقتل زوجها وأبناءها جميعًا.
“آه!”
كان نوكس—الذي طالما تبِع روشان بولهٍ أعمى—يحدّق إليها بنية القتل، قبل أن يصل متأخرًا خلف فريدريك.
وفجأة… قفز جسد صغير من خلف العرش.
“يا سموّ الأميرة!”
تبع ذلك صوتُ امرأةٍ عجوز، متأخّرٌ وخائف.
لكن الشابة التي كانت مختبئة خلف العرش اندفعت نحو أمها الساقطة دون تردّد.
“إلى أين؟!”
زمجر نوكس، قابضًا على سيفه، وهو يتذكّر كيف اقتربت الملكة أكثر من اللازم من سيده في الهجوم الأول.
لم يكن ليسمح بتكرار ذلك.
لكن حين وقعت عيناه على وجه الأميرة… توقّف.
بياضٌ صافٍ، شعرٌ ذهبيّ متموّج، وعينان زرقاوان كبركة سرية في عمق غابة.
على الرغم من دموعها وذهولها، لم يخفت جمالها… بل ازداد حضورًا مأساويًا.
‘هذه هي الأميرة التي تحدّثوا عنها…
حقًّا ليست فتاة عادية ليقال إنّها سبب الحرب.’
أخفى إعجابه، وعضّ شفته ليستعيد رباطة جأشه.
لكن قبل أن يتحرك، سبقهم سيده.
رفع روشان ذراعه، فأوقفهم جميعًا.
تحوّلت الأنظار إليه، لكن عينيه ظلّتا معلقتين بالشخص نفسه… بالأميرة.
كان يراقبها منذ اللحظة التي سقط فيها رأس الملك.
“أ… أمي…”
بفضل إشارة روشان، وصلت الأميرة إلى أمها، واحتضنت جسدها النازف.
وكان واضحًا أنّ حياة الملكة لا تكاد تبقى منها إلا دقائق.
“استفيقي… أرجوكِ، أمي!”
لكن صوت الملكة كان مخنوقًا بزبد دموي سدّ حلقها.
ولم يصدر عنها سوى خوارٍ متقطع.
“يي… ييري…نا… يا طفلتي… المسكينة…”
لم تستطع نطق اسم ابنتها كاملًا، لكن همسها كان يتشبّث بالحياة لأجلها.
قرأت الأميرة حركة فم أمها، فهزّت رأسها بعنفٍ، وهي تصرخ: “لا… لا!”
كان المشهد قاسيًا إلى درجة جعلت هايدن—المعروف ببروده—يميل رأسه قليلًا.
“لا تذهبي… لا تتركيني وحدي…”
لكن توسلات الأميرة لم تمنع النهاية.
سقط رأس الملكة ويدها، وتحوّل جسدها إلى زرقة باهتة.
عيناها ظلّتا مفتوحتين بحزنٍ لا قرار له، وعلى ابنتها خوفٌ لم يُدفَن.
هزّت الأميرة جثمان أمّها مرارًا، وكل حركة تُظهر بجلاء الفاصل الموحش بين الحياة والموت.
“آآآه!”
صرخت صرخةً تمزّق السكون، ثم انهارت تبكي بعنف، وارتجف جسدها الصغير فوق أمّها كعصفور بلّلت المطرُ ريشَه.
كان الغازي—قاتل الملك والملكة—يراقبها بصمتٍ طويل، حتى إذا انحنت تبكي فوق جسد أمها، مدّ ذراعه.
أصدر القفاز المعدنيّ الملطّخ بالدم طقطقةً وهو يقترب منها، في حركة غامضة مهدِّدة.
شعرت الأميرة بالظلّ يحوم فوقها، فالتفتت غريزيًا.
والتقت عيناها الزرقاوان بعينيه الحمراوين للحظة خاطفة… لكنها كانت كافية ليتبدّل شيءٌ فيها.
لم يتغيّر صفاء اللون، لكن حدقتيها جمدتا، وانطفأت الحياة في بؤبؤيها شيئًا فشيئًا.
شعر روشان بقشعريرةٍ أولى في حياته…
اقترب من عينيها، لكن قبل أن يمسّهما… انطبقت جفونهما، وانهار نورها الأزرق.
سقطت الأميرة مغمًى عليها.
وأعاد الغازي يده إلى جانبه، مستقيمًا.
“… خذوها للطبيب، ثم احبسوها في مكانٍ مناسب.”
قالها بصوت خافت، فتردّد نوكس لحظة قبل أن ينحني.
اقتيدت الأميرة—غنيمة حربٍ، وأسيرة في قصرها—إلى غرفة ضيوف ضيقة بعد أن سُلبت غرفتها الأصلية.
وفي المساء، انحنى الطبيب أمام روشان المحتل لغرفة الملك الميت.
“يا صاحب السمو… لن نعلم بدقّة حتى تستفيق الأميرة…
لكن… كما توقعت… أصاب عينيها شيء غريب.
يبدو… أنّها فقدت بصرها.”
كانت ييرينا سيداس—أميرة المملكة المقهورة—قد غدت عمياء.
أما الساحر الأعمى…
فرفع رأسه، والدم يسيل من محجريه المحترقين، وأطرافه المكسورة تتصلّب على نحو غريب.
كان يشعر بها… فوقه… في موضعٍ تغمره شمس دافئة… سيدته وعشيقته السابقة.
‘هيلينا…’
ناداها وهو يسكب سيلًا من الدم الأسود من فراغ عينيه.
ثم بصق على قدميها.
كان بصاقه أسودَ فاسدًا، من دمه الميّت.
‘أنتِ… وبناتكِ من بعدكِ… ستصبحن مثلي، أيتها الأميرات.
اللعنة ستسري فيكنّ…
تفقدن البصر… وتغرقن في دموعٍ لا تنضب…
وفي النهاية… تخنقن أنفسكن بأيدكن.’
اندفعت لعنته من أعماقه الفاسدة، فيما كانت الأميرة المتألقة تصغي إليه بصمتٍ مبهم.
هل كان ذلك بقايا ذنبٍ لأنها تخلّت عن أكثر خدمها وفاء؟
أم شفقةً على ذلك العاشق الذي انحدر إلى الحضيض بسببها؟
مهما كان، فقد كانت واثقة:
لا لعنة تستطيع كسرها بعد أن نزعت قوته السحرية وأصبحت ساحرة جبّارة.
لكن البصاق الأسود الملتصق بماسة حذائها الأبيض… لم يُمحَ.
وقبل أن تبلغ ذروة مجدها على العرش الذي طالما رغبت فيه…
أصبحت عمياء.
وهكذا بدأت اللعنة.
— الأميرة المتألقة من الفصل السابع—
Chapters
Comments
- 5 منذ 20 ساعة
- 4 منذ 20 ساعة
- 3 - كانت الفَجيعةُ مُروِّعةً. منذ يومين
- 2 - الأميرة العمياء. منذ يومين
- 1 - المُقدمة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 1"