رؤية أثر التعب على رجلٍ طالما بدا مثال الكمال، كان في حدّ ذاته أمراً يدعو إلى الدهشة.
“الأمرُ لا يتعلقُ بمئاتِ الأعوامِ فحسبْ…… كيفَ لها ان تقضي زمناً لا يُطاقُ؟”
أزحت بصري قليلاً، ثم أطلقت تنهيدةً، وشددت على عنقي كأنني أستجمع قواي، قبل أن أحكّ وجنتي.
كان هذا أمراً ينبغي أن نتعمق في التفكير فيه، لأجل سيلينا، ولأجل جيرون ويلبريد على السواء.
‘آلاف السنين؟’
أدرت عينيّ متفكرة في عمري الذي عشته، ثم تخيلت أن أعيش آلاف السنين القادمة.
ومجرد الخيال وحده كان زمناً مهولاً لا يجرؤ لساني أن يصفه.
“لِمَ ذلك؟”
“……نحن بشر.”
ولما فتح جيرون ويلبريد فمه كأنه يودّ البوح بشيء، لوّحتُ بيدي الصغيرة برفق.
“بلى، ما قاله أبي…… أنّ روحي هي ذاتها روح سولوم، قد فهمته، وإن لم أستوعبه بعد.”
لا زال الأمر غير واقعي البتة، لكنني قبلته على الأقل.
“غير أنّ الحقيقة تبقى، أنني نشأت بشرية وكبرت بشرية.”
تمتمتُ وأنا أقرن أصابعي بعضها ببعض، أنقرها بخفة.
“ربما أستطيع الصمود لقرون. لكن آلاف السنين…… وربما أكثر، ذاك أمر عسير ما لم يكن المرء قد عزم عزماً لا يتزعزع.”
ثم همستُ باعتذارٍ لطيف.
“اعذرني…… لكنني على الأرجح سأموت قبل ذلك بكثير. فطالما أن سولوم كان بشراً، فلن يُكتب لي أن أعيش هذا الطول المفرط من العمر.”
“إنها قسوة بالغة على سيلينا.”
“……لديّ يقين أنني أستطيع أن أجعلها لا تشعر بالضيق. ومع ذلك ترفضين؟”
“وما معنى أن لا تُشعرها بالضيق؟”
“سيأتي يومٌ يثقلها طول العمر. لكن إن كانت الذكريات تؤلمها، أستطيع أن أمحوها دورياً. وإن شاءت وضعتها حيث تهوى. ولأنها تألف الناس وتهاب الوحدة، أستطيع أن أدمجها بين البشر متى شاءت…….”
كلما طال حديثه، ازداد وجهي تشوهاً بكراهةٍ كدت لا أحتملها.
أخفيت ملامحي بين كفيّ.
للمرة الأولى شعرت في عظامي أن هذا الرجل كائن متفرّد قد خرج تماماً من دائرة الإنسانية.
“أفهم سبب قلقك، لكن القضية الجوهرية ليست هنا، أليس كذلك، يا أبي؟”
“……وما هي إذن؟”
“بماذا أجابت سيلينا على عرضك؟”
“قالت. لا. ليس في طاقتها أن تعيش زمناً كهذا. ثم…….”
تجعد وجه الرجل الذي عُرف دائماً بسمته الوقور وابتسامته الهادئة.
وانعوج السكين بين قبضته.
“قالت. كفى ظلماً بي، وأوقف ذلك. امحُ ذاكرتي، وإلا فلا تَعُد أمامي أبداً.”
“……وهل كان هذا جوابها بعد أيّ إغراء عرضتَه؟”
“كل ما فعلته أنني كشفت لها قلبي. ثم فكرت أن أجعلها رفيقتي.”
“رفيقة؟”
“الشيطان لا يتخذ سوى رفيقةٍ واحدة. وإن ماتت، جاز له أن يتخذ غيرها، غير أن الأصل أن يشترك كلٌّ منهما في أطول عمرٍ بينهما.”
لكن أيُّ عمرٍ أطول من عمر الشيطان؟ لا ريب أنه هو المختار.
‘ثم يقول. إن ماتت، يتخذ غيرها؟ أي هراء هذا؟’
مسحت جبيني بضجر.
“هل أصارحك القول؟”
“قولي ما شئتي.”
نقرتُ بالشوكة على الطاولة مراراً ثم تكلمت.
“اعذرني، لكنني أنا نفسي أرفض عرضك. ولا أظنّك تجهل كيف عاملتَ الماركيزة فيما مضى.”
“……قد اعتذرتُ.”
“اعتذرتَ، واعتذرتَ مراراً، لكنها لم تقبل، أليس كذلك؟”
“…….”
سكت جيرون ويلبريد تحت وقْع كلمتي.
فحبّه كان عبئاً ثقيلاً على الماركيزة.
هي امرأة رقيقة الطبع، عادلة النفس، على النقيض التام من جيرون ويلبريد.
والأعجب أن قلبيهما قد تلاقيا أصلاً.
امرأة تكتفي بالقليل، تُسرّ بالصغير، وتفيض حساسيةً وحناناً.
ورجل شيطاني جاف، يكاد يخلو من أي شعور، مثلي تماماً.
ولولا أمران، لما امتدّت علاقتهما.
أولهما، أنّها ظلّت ترعاه طوال تلك السنين.
وثانيهما، أنّها لمّا ألقت بكل شيء وراء ظهرها، عندها فقط استيقظ جيرون ويلبريد على شعوره متأخراً، فتشبث بها.
“أفهم أنّك لا تفكر بمنطق البشر.”
قلت ذلك وأنا أحدق فيه ثم أطلقت تنهيدة طويلة.
“لكن حتى لو كنتُ مكانها، لما اخترتك. لا أستطيع أن أضع مستقبلي بين يديك.”
“……لِمَ؟ هل أخطأتُ في شيء؟”
“لعل خطأك كان منذ البداية، حين أضعتَ أول زرٍّ في ردائك. ثم…… أفعالُك الغريبة تلك.”
وعلى الرغم من أنني كنت أتحدث بلسان لا يليق بطفلة صغيرة، فإن جيرون ويلبريد لم يسخر ولم يستنكر.
وهذا ما أعجبني فيه.
فلأنه قد شهد الكثير، لم يعد يحكم بما يراه ظاهراً.
“أفعال غريبة؟”
“كأنك تنسى دوماً…… قل لي يا جيرون، لِمَ بدأت تعامل الماركيزة بلطف؟”
“ذاك لأن…….”
لكنه توقف فجأة.
ولعله تذكّر الآن أنها قد ماتت، ولذلك تبدّل.
“أفما فكرتَ كم كان مخيفاً لها أن يتغير سلوكك فجأة؟”
“……مخيف؟ لم أهددها، ولم أُكرهها على شيء. إنما…….”
“إنما كنتَ تعرف كل ما وقع. بينما هي لا تعلم شيئاً.”
أجبتُه باقتضاب.
هذا النوع من الحوارات غريب عليّ منذ زمن، لكنه لازم.
ولو لم أبالِ بمصيره، لما تدخلت أصلاً، سواء وقع في اليأس أو خيّب الأمل، أو حدث بينه وبين الماركيزة ما حدث.
لكن العدوّ الحقود يبقى في نهاية المطاف صديقاً. والمودة تنشأ حتى من كرهٍ عتيق.
لم يعد بوسعي أن أنظر إلى جيرون ويلبريد كعجوز مزعج ثقيل الظل.
ولم يعد بوسعي أن أغضّ الطرف عن شقاء سيلينا العطوفة.
“لا تخادع نفسك، يا جيرون. ما دمتَ تخفي ماضيك لتظفر بسيلينا، فمصيرك الفشل.”
“…….”
“سأعود وأخبرهم بكل شيء. أخبر أبي وجدّي. أخبر آرما وقد أخبرته بنصف الحق، وسأكمل له النصف الآخر.”
إذ لا علاقة يمكن أن تُبنى على كتمان.
فالعلاقة المعيبة تنهار يوماً ما، وتتشقق حتى تنفصم.
وما لم تعترف قبل الانهيار، فالكسر لا يُجبر.
“إن أردت أن تقف عند نقطة البدء، فاجعل الصدق دليلك. حتى وإن…….”
رفعت رأسي ببطء.
فرأيت على الرجل أول مرةٍ مشاعر عاريةً لم يستطع سترها. عيناه المتسعتان كشفتا أنه قد فهم مرادي.
قلقٌ، وجلٌ، خوفٌ ورهبة.
مشاعر لم يكن لذاك المتعجرف أن يذوقها يوماً.
“حتى لو كان ذلك يعني أن تنفصل عن الماركيزه إلى الأبد…… ما دمتَ من بدأ، فعليك أن تتحمل.”
“…….”
“لا تكن كطفل صغير يهرب من العقاب. لا شيء يُنال بلا جهد. عليك أن تتمسك بها.”
وبكلمات روكسيلين، ظل جيرون ويلبريد جامداً لا ينبس ببنت شفة.
الرجل الذي لم يفارق الابتسام وجهه الهادئ، بدا واضحاً كم يحب سيلينا. وفي اللحظة ذاتها أدرك لأول مرة أن هدوءه قد يتحطم.
“اذهب، واصدقها القول كلّه. ثم التمس عفوها، وظلَّ تستجديها حتى تقبل اعتذارك. وعندها…… هناك تبدأ خطوتك الأولى.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات