استمتعوا
“…ها؟”
“أطفال هذه الأيام…”
احمرّت وجنتا روكسيلين احمرارًا غامرًا، وبدأت شفتاها تتحرّكان بتردّد.
غطّى أبي عيني الطفله الكبيرتين بيده العريضة وهو ينقر بلسانه مستاءً.
لم يكن في اللمسة التي وصلت إلى روكسيلين أيُّ تردّد أو حرج.
ذلك لأنّه لم يعُد يخرج عن طوره بعد الآن.
ففي كلّ مرّة كاد فيها والدي يفقد أعصابه ويخرج عن سيطرة
نفسه، كنت أمسك يد روكسيلين وألتصق بجانبه حتى يهدأ.
هكذا، حين كان يصرخ قائلاً ‘لا تأتِ!’ كنت أطارده وقلبي ينبض خوفًا من أن يتحوّل الأمر إلى فوضى إن لم يضبط نفسه.
ذات مرّة، حين أخفق في ذلك، انقضّ على نفسه أسبوعًا كاملاً ينعزل فيه في غرفته.
ثمّ عاد وقد صار يتحكّم بـ الهاوية تحكُّمًا تامًا.
يا له من تربية صارمة حقًا.
بالطبع، لولا وجود مضادٍّ سحريّ لما كان قد تجرّأ على المحاولة، فالأمر كان محفوفًا بالخطر.
‘أيمكن لأبي أن يجرؤ على أن يلوم أطفال هذه الأيام؟’
تساءلت في سرّي، فها هو الرجل الذي أنجبني من سنٍ مبكرة يتمتم بهذه الكلمات.
أمعنت النظر إليه فبدت على محيّاه بالفعل ملامحُ استياءٍ حقيقية.
“إذن… هل يعني ذلك أنّني لن أفقد مقعد الصديقة؟”
“نعم. لستُ مهتمًّا بمنصب الصديق.”
أجاب أَرما بهدوءٍ دون أن يُبدي أكثر من ذلك.
“حسناً إذن. سأبقى أنا الصديقة الوحيدة الآن.”
“……ما الذي أصاب مهاراتك الإجتماعيّة؟”
خرجت الكلمات منّي همسًا دون أن أشعر.
“هم؟ ما هي المهارات الاجتماعيّة؟”
“أن تقول كلامًا أنانيًّا مثل أنّكِ تريدين أن أكون أنا صديقتكِ الوحيدة……؟”
“لكنّي أحبّ روكسي. أريد ألا يكون بجانب روكسي أصدقاء آخرون.”
صوتُ الماضي كما خرج من فم روكسيلين كان منخفضًا بعض الشيء، فالتفتُّ ببطءٍ.
‘ربّما كان المسار الذي لم أكن فيه سعيدةً هو الطريق الذي جعلني في غاية السعادة فعلاً.’
هكذا ظننتُ لمحةً؛ أي أنّ العالم الذي أتيح لي فيه أن أكون نفسي ربما كان أسعدَ ما يكون.
أطرفُ عيني وأنا أستشعر تلك الغيرةَ المتشبّثة من روكسيلين التي تجعلني أراجع نفسي.
‘……ماذا لو أنّ أَرما قال إنّه سيواعد امرأةً أخرى…….’
حاولتُ أن أُفكّر قليلًا لأفهم روكسيلين.
“……آه.”
إنّها أنا.
إنّها مجرّد نسخةٍ أصغر سنًّا، ساذجة قليلًا ولا تعرف كيف تخفي مشاعرها.
‘لنُبقِ ذلك سرًّا عن أَرما.’
أقصدُ تلك الفكرة التي خطرت لي. أنّني كنتُ على وشك أن أقول له اختَرْ بين أن أقطع ساق تلك المرأة أو أن أقطع ساقيك أنت.
“على أيّ حال، ما دام الأمر ليس بهدف الصداقة، فلا بأس!”
ابتسمت روكسيلين ابتسامةً مشرقة. لا أدري أيّ جانبٍ وجدتْه لا بأس به.
“أجل، لا تقلقي.”
ضغط أَرما شفتيه على راحة يدي بلطفٍ وانحنت عيناه بابتسامةٍ صغيرة.
تنفّستُ الصعداء أمام ذلك المشهد المازح.
“آل.”
“نعم؟”
“أبعد يدَك.”
“…”
دحرج أَرما عينيه بأسى قليلًا، لكنه ما لبث أن أنزل يده بهدوء وهو ينظر في عيني.
“هل انزعجتِ؟”
“لا تفعل هذا في الخارجِ.”
“……”
أمالَ آرما رأسَهُ عندَ كلامي ورمشَ بعينيهِ.
“……هذا يعني أنّه مسموحٌ في الداخلِ؟ حسنًا.”
ضحِكَ الفتى بوقاحةٍ كالأطفالِ، ثمّ انحنى وقرّبَ شفتيهِ من أُذنيّ.
“سأكونُ هادئًا إذًا. إلى أن تمنحيني المُكافأةَ……”
دَوِيٌّ عظيمٌ!
“أيُّ وغدٍ متغطرسٍ يتجرّأُ على التّحرّشِ بمن هي بمنزلةِ حفيدتي؟!”
“……آه؟”
كانَ جدي هو الذي دخلَ من البابِ الذي فُتِحَ بعنف.
“…ماذا؟”
“من هذا؟ من هذا الذي يزعم أنه سيأخذ تلك الفتاة الشقية المتهورة؟!”
لم أستطعْ أن أُدركَ ما إذا كانَ كلامُهُ ذمًّا أم مدحًا، فلم أعرف ما إذا كانَ ينبغي لي أن أفرحَ أو أحزنَ.
“إنّها قد أصابتها تلك المهاورة، يا أبي.”
قال تشيرتي بيليون وهو يسرُّ بفنجان الشاي وكأنّه ينفي أنّه قد فعلُ مثلها مسبقًا.
“يبدو أنّ تلكَ الفتاةَ قد انحرفت بالفعلِ يا أبي.”
قالَ زيرتي بيليون ببرودٍ وهو يميل فنجانَ الشاي، وكأنّه لم يفعل شيئًا من هذا القبيلِ أبدًا.
“انحرفت؟ وماذا يعني هذا الهُراءُ؟”
“لقد تلاعبَ للتوِّ بكفِّ يدِ روكسي وقبّلها وفركَ وجهَه بها على غيرِ هَوًى. ولم يرفعْ يدَهُ إلّا عندما طلبتْ منهُ روكسي ذلكَ بصعوبةٍ.”
أمالَ آرما رأسَهُ قليلًا عندَ سماعِ نميمةِ أبي الهادئةِ.
وأنا أيضًا مِلتُ برأسي.
حسنًا، ما قالَهُ أبي لم يكُنْ خاطئًا تمامًا.
ولكنْ لا يمكنُ اعتبارُهُ صحيحًا بالكاملِ أيضًا.
ببساطةٍ، كانَ الكلامُ وكأنّه قُطِعَ وبُتِرَ من أماكنَ كثيرةٍ…….
“……ماذا؟! كيفَ يتجرّأُ على ارتكابِ مثلِ هذا الفسوقِ الأخلاقيِّ في هذا القصرِ! أيُّ وغدٍ قليلِ الأدبِ هذا!! ومن أيِّ عائلةٍ هو!!”
ثمّ دخل جدي مسرعًا فخطف أَرما من مؤخرة رقبته بشدّةٍ.
“أ…؟”
فُوجِئَ أَرما حتى اتّسعت عيناه.
“لحظةٌ واحدةٌ يا أيُها الدوق.”
“من هو الدوق! كيفَ ترتكبُ عملاً فاضحاً كهذا في قصري؟”
فعل فاحش؟ لقد كانت قبلةٌ هامسة على راحةِ اليد فقط.
“ليس كذلك، أنا وروكسي…”
“حسنًا، سأعلّمك من الأخلاق والتأدب بدءًا من اليوم. وويلبريد هذا الغبي، كيف يترك ابنته دون رقابة؟!”
“روكسي!!”
نادى أَرما بصوتٍ لا محالة.
التفتُّ إلى أَرما وإلى جدي، وقلتُ بأدبٍ رشيقٍ.
“سموك.”
“ماذا؟ ستجلسين لتلقّي دروسٍ أنتِ أيضًا؟”
“لا، سنبقى حتى العشاء فقط، فلا تتسبب بتأخيرنا.”
تراجعت سريعًا عن جدي دون منازعة، ففضّلت التسوية على المُنازلة.
“روكسي؟”
“…”
التفتُّ رأسًا بخفّة.
“روكسي؟!”
ثمّ ضحك الجد بخفّةٍ مشجّعة.
“بالتوفيق، آل.”
سمعت أَرما يعتذر ويبرّر بالأثر، فطمأننت قليلاً.
‘على أي حال، إنهُ امرٌ يتعلقُ بجدي، لذا لن يهاجمَهُ.’
لو احتدمت المعركة لربّما انتصر أَرما، لكنّه، كونُه أمام عائلتي، لن يُقدِم على إيذائهم.
رشفتُ من فنجان الشاي ثم مددتُ يدي إلى طبق بسكويت الزبدة الحلو، لكنّني ترددت.
“واو، روكسي أنتِ بالغةٌ حقاً……”
“……أمم.”
……ثم غيرتُ اتجاهي الى كعكةِ الزنجبيلِ المجاورةِ.
“أنا كذلكَ نوعاً ما.”
أومأتُ برأسي بهدوءٍ بينما كنتُ أرى روكسيلين تتوردُ خجلاً، ثم وضعتُ كعكةَ الزنجبيلِ في فمي. فحتّى لو كانَ جسدي صغيراً، فأنا في الواقعِ شخصٌ راشدٌ.
…طعم الزنجبيل قويٌّ جدًا.
سمعت ضحكًا مكتومًا من ليلي بيليون بجانبي.
“…”
لقد كان يومًا هادئًا ودافئًا يرافقه خدرٌ لطيف.
***
“هل ستذهبين اليوم؟”
مرّت خمسة أيّام بعد زيارة منزل بيليون، ثمّ وصلني اتصالٌ من إيربون يقول إنّ ما احتجناه قد صُنع وأنّ عليّ أن آتي ومعي المال.
ظنَنت أنّه مهووس بالمال، لكن صوته بدا مكسورًا لذلك وافقت.
“نعم. إن تأخّرت أكثر سيزداد الضجيج.”
أجبت بينما كنت أنظر إلى جيرون ويلبريد الذي بجواري وأضع الطعام فمي.
جلس معنا في المائدة جيرون ويلبريد وأنا فحسب.
في الواقع، لم تكن هذه الحادثة فريدة؛ فقد استمرّ هذا الوضع منذ أربعة أيّام ماضية.
أَرما عادةً لا يتناول الإفطار معنا؛ إذ يظهر غالبًا بعد الظهيرة حين أبدأ نشاطي.
لذلك كان ينام من الليل حتى الظهر.
الأمر مشغولٌ في العالم الآخر أيضًا، فلا يبدو له بدٌ من ذلك التوزيع للوقت بين العالمين.
‘أوَ ليسَ مرهقاً حتى مع هذا الترتيبِ؟’
العيش على هذين المسارين المتوازيين ينبغي أن يكون مرهقًا جدًا نفسيًا.
“لم أرَ سيلينا منذُ أيامٍ خلتْ. هل حدثَ شيءٌ يا أبي؟”
هممتُ ان أدعوهُ ‘أبي اللعينَ’، ولكنْ لأنَّ تعابيرَ جيرن ويلبريد لم تكُنْ مستحسنةً في الأيامِ الأخيرةِ، سألتُهُ ببرودٍ وهدوءٍ مُتكلَّفٍ.
“لا شيء مهمّ.”
ردّ بصوتٍ يبدو أنّه يخفي شيئًا كبيرًا.
“لكنّ وجهك يوحي بعكس ذلك… هل تتناول طعامها على الاقل؟”
“ما لم ترفض هي فنعم.”
ألقى جيرون ويلبريد سكينه على الطاولة بعدما تراجع شهيته منذ أن ذُكر اسم سيلينا.
لم يكن يأكل كثيرًا ــ بالكاد أخذ شيئًا منه.
ربما لو لم أكن هنا لما خرج إلى المائدة أصلًا.
‘على غيرِ المتوقعِ، يمتلكُ شعوراً غامراً بالمسؤوليةِ……’
لا أدري هل هذا شيطانٌ حقاً ام نموذجٌ مثاليٌ للأبوةِ.
بصراحةٍ……. مع انني آسفٌة قليلاً لـ’أبي’، الا ان جيرون ويلبريد أقربُ الى كونهِ صورةَ الأبِ الأنموذجيةِ.
بالتأكيدِ، أنا أُفضّلُ أبي، لكنَّ هذا الحكمَ صادرٌ بناءً على تقييمٍ موضوعيٍّ.
“ولِمَ تُرى تتشاجران على الدوام؟”
“……لقد رجوتُها أن تُشاركني.”
“تُشاركك؟ وماذا؟”
“وقتي.”
“…….”
حدقتُ فيه لحظةً، ثم توقفتُ عن الكلام، وعدتُ أتأمله من جديد، وكأنني أشك في أنني أسأتُ السمع.
رفعتُ يدي إلى جبهتي أفركها بخفة، ثم أعدتُ النظر إلى جيرون ويلبريد.
“تمهّل… أتقصد بالزمن أنّك تطلب من سيلينا أن تعيش بقدر ما تعيش أنت؟”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات