ظل آل صامتاً بدوره. فهو يعرف أنّ أي كلمة ينطقها لن تكون لطيفة.
ومع ذلك لم يشأ أن يُظهر شخصيّته الحقيقية أمامه. فقد نزع قناعه فقط من أجل روكسيلين، وليس لأي سبب آخر.
“تبدو على علاقة وثيقة مع الآنسة ويلبريد…..”
“…….”
“ولِمَ ترتدي هيئة أحد السُلالات المنقرضة من البشر-الوحوش؟”
قال سيفيروس ذلك وهو يسند ذقنه بيده، يلقي كلماته بفتور واحداً تلو الآخر، غير آبهٍ إن لاقى ردّاً أم لا.
عندها تشوّهت ملامح الفتى فجأة.
“أحقاً تنوي ألّا تقول كلمةً واحدة لوالدكَ؟ أنتَ قاسٍ جداً أنت يا صغيري.”
“…….”
ومع ذلك ظل آل صامتاً.
كان في صدره كلامٌ كثير، حتى ليكاد يطفح به حلقه، لكنه يعلم أنه إن بدأ بالكلام فلن يتوقف، وسيُخرج كل ما يعتمل في داخله دفعةً واحدة.
وذلك كان أمراً يثير اشمئزازه. أن يكشف مكنوناته أمام مثل هذا الرجل؟ لا وألف لا.
“لا بد أنكَ تحمل ضغينةً لي بسبب ما حدث لوالدتكَ.”
“…….”
غير أن خصمه تعمّد لمس الوتر الحساس، فاندفع الغضب حارقاً إلى رأسه.
لقد أبقاها حبيسةً ثم عجز حتى عن حمايتها…..أي سخريةٍ هذه؟!
وبعد كل ذلك، يتنازل عن وطن كامل بسبب شخص واحد؟!
“طبعاً.”
لذلك أجابه آل ببرودٍ قاطع،
“بعد أن رأيتُ فشلكَ بعيني، لم يتبقَّ لديّ سوى الضغينة يتبعها الاشمئزاز. فلتغلق فمكَ، سأكون لكَ شاكراً.”
“ألا ترى أن حديثكَ قصيرٌ ومبتور؟”
“لقد أخبرني أحدهم…..أن لا حاجة لمراعاة الأدب مع إنسان لا يعرف الأدب.”
تمتم الفتى ببرود وهو يواجه سيفيروس بعينيه.
و لم يكن ذلك المشهد يشبه الفتى الذي اعتاد دوماً أن يشيح ببصره، و يغلق فمه، ويخفي نفسه.
“لم تعد تتقنص دور التمثيل إذاً.”
“تركتُ ذلك.”
“ولماذا؟”
“لأنها على الأرجح لم تكن لترضى عني.”
أطلق سيفيروس ضحكةً خافتة.
“ها…..حتى أنتَ ذقتَ طعم الحب.”
“وما الغريب؟ أنت نفسكَ أحببت، فماذا يمنعني أنا؟”
“ظننت أنكَ لن تفعل.”
“وأنا كذلك.”
قال آل ذلك…..لا، بل أرما ديانتيوس وهو يحدق في سيفيروس دون أن يطرف له جفن،
“وأنا أيضاً ظننت أنني لن أقع في ذلك. لكن ما فعلتَه…..و ما ارتكبتَه كان فظيعاً إلى حد لا يُغتفر.”
“…….”
“ومع ذلك، أنظر إلى حالكَ الآن. ألا تشعر بالمهانة؟ إن لم تكن قادراً على حمايتها فلماذا عزلتها بعيداً عن ولدها وسجنتها؟ على الأقل كان عليكَ أن تمنحها سعادةً تعوضها!”
عضّ أرما على أسنانه، وكان صوته مشبعاً بالغضب والاحتقار.
“تقول: لم يكن ممكناً…..و كان أمراً مستحيلاً؟ هذا هو جوابكَ؟! إذا كان كذلك، فلتبع روحكَ إن لزم الأمر حتى تجعله ممكناً! لتخفض رأسكَ أمام من يمكنه مساعدتكَ ولو جرحتَ كبرياءكَ!”
ورغم أن الفتى كان أصغر بكثير منه، إلا أن سيفيروس لم ينبس ببنت شفة، بل نظر إليه بصمت.
“إن أردتَ أن تعيش كإمبراطور، فعليكَ أن تتخلى عن أمي. وإن شئت أن تعيش كزوج، فعليكَ أن تتخلى عن عرشكَ. وإن لم يكن أيٌّ منهما، فعليكَ أن تتحمل التضحية بنفسكَ! لا أن تُلقي بها على أمي….!”
انفجر غضبه بكلماتٍ لاهبة، فيما اكتفى سيفيروس بالتحديق فيه بصمت.
لقد تذكّر سيفيروس أرما ديانتيوس. ذلك الفتى الذي كان دوماً وحيداً، غارقاً في عزلته، مطبوعاً بالوحدة.
ابنٌ غير شرعي، عُرف بين الناس على أنه الأمير الثالث المولود من علاقة مشبوهة، بلا والدين يضمانه ولا درعٌ يحميه.
وقد أجبر على التضحية مراراً كي يحمي شخصاً واحداً.
والإمبراطور، بوصفه أباً، كان يعرف جيداً قدرات أبنائه. فمن بين جميع أولاده، كان أرما الأبرع على الإطلاق—وللمفارقة، كان ذلك أمراً مؤلماً.
وكان أرما نفسه واعياً لهذه الحقيقة تماماً.
ومنذ لحظة ما، بدأ يخفي نفسه. لم يعد يُظهر براعته. و لم يعد يحاول فعل أي شيء.
‘كان قد أصبح خجولاً أكثر، وتقلص كلامه، وظلّت ابتسامته الباهتة على شفتيه دائماً.’
لم يكن ذلك بسبب الخوف، لقد ذلك كان واضحاً. فالإنسان لا يتغيّر بين ليلة وضحاها، ولا يفقد ذكاءه فجأة.
‘ابني الصغير خانني رغبةً في الانتقام بأخذ وريثي مني.’
لهذا اختفى وأخفى نفسه، وكتم غضبه في صدره.
‘كنت أعلم لكني انتظرتُ بصمت.’
إذا كان هذا ما يريده، فليفعل. هو يملك سنواتٍ أمامه، فدعنا نراقب فقط.
و لقد تحمل كثيراً من التضحيات، فليس خطأً أن ينال أيضاً نصيبه من الراحة.
لكن الآن هذا الفتى كان يُخرج غضبه.
‘غضب حتى انفجر أخيراً وصبّ كل ذلك الغضب في وجهي.’
وهذا ما أدهش سيفيروس حقاً.
“أنا أيضاً، كنت أحتاج إلى أم.”
قال أرما ديانتيوس ذلك وهو لا يزال يمسك بطرف ملابسه.
“أنا أيضاً…..كان في داخلي الكثير مما أردتُ قوله. كم كنت أحسد إخوتي. كنت أحسدهم رغم أنني لم أمتلك ما لديهم، وكنت غاضباً لأنني كنت أستطيع أن أمتلكه لكنه انتُزع مني. وبات اليأس يملأني حين أدركت أن من سلبه مني هو أبي.”
“….أفهم الآن.”
“لو أخذها معه لكان لزاماً أن يجعلها سعيدة. لكن الآن…..”
ارتعدت أسنانه ورفع أرما رأسه.
و توقف سيفيروس لحظةً حين لمح بريقاً رقيقاً في عيني الفتى كما لو أنهما امتُلأتا بالدمع.
“هل كنتَ تريد أن تموت؟”
“…….”
“هل أردتَ أن تموت معها؟”
أحيانًا، تُعرَف العلاقات بمن يكرهون بعضهم حتى تصبح معرفتهم ببعضٍ أفضل. فأرما راقب سيفيروس طويلاً، وحاول ألا يصبح مثله، و راقب نظراته واحتقره.
“إذا لم تستطع إصلاح الأمر، هل كنت تنوي قتل والدتي ثم تقتل نفسكَ؟”
“…….”
وهكذا، ثمة أمور تلمحها العين رغم أنكَ لا تريد الرؤية.
“لو لم تكن قد جننتَ، فكيف…..”
صمت سيفيروس ونظر إلى ابنه.
بدا قَصيرَ القامة وصَغيرَ العمر ووجْهُهُ صغير، لكن ما حواه بدا كأنه ليس بسنٍ صغيرٍ حقّاً.
الغضبُ الشديد لم يكن شيئاً تراكم في سيفيروس وحده، بل بدا كشيءٍ سيُكوَّن على مرّ الزمن في حياته المقبلة، كأن مستقبلاً كاملاً صنع ذلك الاحتقان.
“أنا أكرَهُكَ…..”
“أعلَمُ.”
“أردتُ قتلكَ. مرّاتٍ ومرّاتٍ ومرّاتٍ.”
دقّ قلبه بقوة! و دفَعَ الفتى، الذي ظل ممسِكاً بطوق ملابسه، سيفيروس إلى الأرض بعنف بعد أن رفعه من الكرسي.
‘يُقال أن قوة السُلالات تتجاوز عشرة أضعاف قوة البشر، ويبدو أن ذلك حقيقي.’
فكّر سيفيروس بذلك وهو عاجزٌ عن أن يرفُّ بصره عنه.
وقف الفتى فوقه، وعيونه الزرقاء اليافعة متسعةٌ تحدّق فيه.
“لكن….لو لم تَكُنْ موجوداً، فستصير أمي تعيسة…..حتى وإن كان هذا الأب أسوأ الآباء، لكن إخوتي على الأقل لن يفعلوا بهذا البلد ما فعلته.”
وفي تلك اللحظة، تساوى صوت نَفَسٍ هادرٍ مع وقع شيءٍ خفيفٍ مبللٍ.
“…….”
و انهمر شيءٌ رطب على وجنة سيفيروس. و لم يدرك فوراً ما الذي لامس خده، ثم فتح عينيه ببطء بعد حين.
“صبرت. واعتصرت نفسي بالصبر……”
كلُّ ذلك تجمّعَ ليكوّن أرما ديانيتيوس الحاضر.
لكن أرما فكر وقال ذلك بعدما راقَبَ روكسيلين وهي تغيّر قصر الدوق بيليون قليلاً، وبعد أن رأى كيف تتبدّل عن تلك التي عرفها.
‘آه، ربما كان ثمة وجهٌ آخر لها. ربما توجد قصّةٌ في عالمٍ ما تشبه هذا الشكل الرائع.’
مرة، صعدت روكسيلين إلى ظهر ذئبها وهي حزينةٌ وقالت بصوتٍ خافت: “أحياناً أفكر، لو كنت تجرأت آنذاك لكان كل شيءٍ مختلفاً. لو لم أكُن صبورةً مثل طفلٍ رضيع ينتظر عذاءه، لو بكيتُ وتشبّث لما كان هنالك ندم.”
“…..؟”
“فالأطفال يحقّ لهم أن يطلبوا ما يريدون؛ عندما شعرتُ بالوحدة ربما سيتغير شيء لو أنني صرخت.”
“…….”
“لكن في النهاية، عندما نموت، لا يبقى شيء.”
“أريد أن أعود لأخبر والدي أن جيرون صار أباً قسرياً. وأريد أن أرى أرما أيضاً.”
كان في صوتها اشتياقٌ مخبوء.
وهكذا كان أرما يتساءل إن كان يمكن أن يرى أمه أحياناً لو عبّر ولو قليلاً عن مكنونات قلبه.
فكرةٌ بلا معنى الآن، لكن كانت تخطر بباله.
“لم أستطع قتلكَ.”
“يا صغيري…..؟”
بالرغم من رغبته في القتل، كانت هناك قيودٌ كثيرة تمنعه. لكن السبب الأكبر كان…..
“لو قَتلتُك، فأنا ماذا أكون؟”
“…….”
“حتى لو كنتَ حقيراً وقذراً ونذلاً وأنانياً…..ففي النهاية أنتَ أبي.”
تمتم سيفيروس مرّةً ومرّة ثم أغلق فمه، لا يعرف ماذا يقول.
“لكن ربما، في هذا العالم، قد لا أكون أكرهكَ.”
“…….”
“أنا لم أعد أستطيع أن أحبكَ، لكن ثمة فرصةٌ أخرى.”
وانسكب الدمع الذي جرى على وجنة الفتى على وجنة سيفيروس، فانحدر بالمثل، متطابقاً.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات