“على عكسنا نحن الذين وصلتنا مجرد شظايا من تلك القوة، هناك كائناتٌ وُلدت فعلًا في الأعماق من أجل حفظ النظام وإدارة العالم.”
“هل تقصد أن تلك هي الشياطين؟”
“نعم، أحسنتِ.”
“…..إذاً وجود الشياطين هو السبب الذي دفعكَ لاختيار العزلة؟”
“بالضبط. وتحديدًا، لأن كائنات عظيمة مثل الشياطين، التي تحفظ نظام العالم، حين تتدخل فجأة، فلا بد أن أمثالي، ذوي الحِسّ المرهف، يشعرون بذلك، شئنا أم أبينا. مجرد حقيقة أن شيئًا قد تداخل في العالم.”
ثم هز كتفيه بخفة وأكمل.
“لهذا آثرت العزلة، كي لا أرتبط بمثل ذلك الخطر.”
“إذاً السبب في اضطراب العالم في النهاية هو الشياطين؟”
“أجل.”
كانت كلماته هادئةً لكن قاطعة، فما كان من روكسيلين إلا أن قطبت جبينها.
في العالم حيث تقيم سيلينا، لم يكن من المعقول أن يكون جيرون هو من أثار هذه الفوضى المعقدة. أما سائر الشياطين الذين ظهروا مؤخرًا، فلم يكن بينهم إلا ذاك الذي أخبرها به جيرون حديثًا.
‘يعني في النهاية…..الجانية هي تلك المرأة التي تظاهرت بمعرفة جيرون؟ هي سبب الشقاق بين سيلينا و جيرون…..كم عانيت من ألم المعدة بسبب ذلك، حتى صار مجرد تذكره يخنقني بالكلام.’
فتحت روكسيلين فمها بتردد.
“لا تقل لي أن ذاك المخلوق…..المولود من الأعماق، اسمه أمون مثلًا؟”
“…..آه، من يدري؟ قليلٌ جدًّا ما تُعرف أسماء كائنات الأعماق.”
“هكذا إذاً؟”
أومأ إيربون برأسه مجيبًا على سؤالها.
“نعم. وما عُرف منها لا يتجاوز: الشيطان باشين، وسالاوس الذي يُقال أنه الأكثر ميلًا لمحاباة البشر، وأغاريس حاكم الكوارث، وأخيرًا بعل الذي غدا المعيار الأوضح لمعنى وجود الشيطان المتفشي في عالم البشر.”
“إذاً لا يُعرف سوى أربعة؟”
“على حد علمي، نعم، الأمر يقتصر على ذلك.”
إن كان هو، الذي قرأ كل ما كُتب في الكتب اللاهوتية والشرعية، يقول هذا، فالأرجح أنّ العالم حقًا لا يعرف أكثر من ذلك.
“وألا تعرف اسم أمون؟”
“لا. لم أجده في الكتب التي قرأتها، أو ربما لم يعلق في ذاكرتي.”
عند جوابه هذا، حكّت روكسيلين ذقنها ثم أومأت برأسها ببطء.
‘إذن فأمون شيطانٌ غير معروف؟’
من المدهش أنه تكرر منه مثل هذا الفعل مرارًا ولم يُكشف أمره.
‘آه، أو لعل الجميع قد فَنوا؟’
لو أن الكل قد هلك دون أن يبقى من يسجل التاريخ، لكان الأمر مفهومًا.
“هناك أيضًا بعض الأسماء المتناقلة في الأساطير أو الكتب المقدسة.”
“بعضها؟ من مثل مَن؟”
“سالوم، الذي يُقال أنه كان سيد الشياطين. ثم الأعماق نفسها. وأخيرًا، إيفان ميكايل، أول كبير كهنة وبطل، وهو من ترك للعالم أولى السجلات عن الشياطين الأربعة وعلى رأسهم باشين.”
عقدت روكسيلين ذراعيها بوجه جاد وأخذت تفكر. لكنها لم تفهم شيئًا حقًا.
‘الآن أتذكر…..لم أكن بارعة في مادة التاريخ.’
لم تكن لديها موهبةٌ في الاستماع إلى سرد مطوّل عن أحداث قديمة وحفظها كما هي.
إن كان الأمر يتبع علاقات سببية واضحة، يمكنها أن تحفظه، لكن دروس التاريخ غالبًا لا تُقدَّم بتلك الطريقة. فروكسيلين من النوع الذي يسأل دومًا: “لماذا؟”
إن قيل لها: “اندلعت حرب بين A و B، وخسر B فأصبح مستعمَرة”، تبدأ الحكاية، لكنها حتمًا ستسأل: “لماذا؟ لماذا خسروا؟ ولماذا نشبت الحرب أصلًا؟”
وإن أجابها أحد، تولَّد في ذهنها سؤالٌ آخر، حتى يرهق المعلّم وتُنهك هي نفسها.
ثم إن كتب التاريخ أصلًا لا تورد التفاصيل المطوّلة، بل تُوجز الأحداث لتكون سهلة الفهم وسريعة القراءة كي لا تُنسى.
أما روكسيلين، فمثل هذا السرد المبتور سرعان ما كانت تنساه.
لهذا فضّلت الكتب. تقرأ هذا وذاك، ثم تُركّب المعلومات في رأسها من زوايا مختلفة، وهذا ما يناسب طبيعتها.
ولهذا كان من الطبيعي أن تجد كلام إيربون صعب الفهم.
“معقدٌ حقًا…..”
“ليس سهلاً، أليس كذلك؟ إذاً من أين جاء اسم آمون؟”
“أظن أن سبب عزلتكَ كان ذلك الشيطان.”
قالت روكسيلين ذلك وهي تحدق خارج النافذة.
“وكيف عرفتِ ذلك الاسم؟”
“وكيف عرفت…..”
لم تستطع روكسيلين أن تقول أن جيرون في الحقيقة هو باشين، وأن باشين هو من أخبرها. و فقط عبست بوجهها.
ولحسن الحظ، وصلت العربة المتهاودة إلى المعبد في تلك اللحظة.
“مـ….عبد…؟”
“…نعم؟ على كل حال، بما أنني أوصلتكَ، فادخل الآن.”
“ماذا؟ ألستِ قادمةً معي؟”
سأل إيربون وهو يحاول أن يحرر جسده من بين العربة والذئب الضخم، ثم التفت بخجل إلى الخلف وهو ما يزال عالقاً في الوسط.
“أنا خرجت فقط لأن لدي أمراً آخر أقوم به.”
“لكننا اتفقنا أن نذهب معاً…..”
“نعم، قصدت أن أوصلكَ، لذلك قلت لنذهب معاً.”
قالت روكسيلين ذلك وهي تدفع إيربون برجلهـا لترميه خارج العربة.
“إذاً وداعاً.”
“ماذا؟ ستغادرين هكذا؟”
وأُغلق الباب.
سمعت صوتاً من الخارج يتساءل كيف يمكنها أن تتخلى عن شخص بهذه الطريقة، لكن روكسيلين تجاهلته بسهولة.
وبمجرد أن خرج إيربون، ابتعد الذئب عن روكسيلين بخطوات بطيئة وكأنه لم يلتصق بها قط، ثم تمدد على الأرض محافظاً على مسافة مناسبة.
تحركت العربة من جديد. وما لبثت أن توقفت حتى وجدت نفسها أمام قصر الدوق بيليون.
وربما لأن الجنود شاهدوا شعار أسرة الماركيز ويلبريد المرسوم على العربة، فإنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التفتيش وسمحوا لروكسيلين بالمرور.
“إذاً تنوي السيدة كارميل الدخول مجدداً.”
تنهدت وهي ترى السائس يفتح لها الباب فنهضت من مقعدها. فقفز الذئب أولاً برشاقة إلى الخارج، ثم انحنى قليلاً أمامها مقدماً ظهره.
“أركبُ عليكَ؟”
“عووو!”
الذئب الذي كبر حجمه أصبح ضخماً بما يكفي ليحمل روكسيلين على ظهره. وربما لأن الجنود اعتادوا رؤيته وهو يتبعها منذ كان صغيراً، فإنهم كانوا أحياناً يرتجفون بدهشة، لكنهم لم يخافوا منه حقاً.
“يجب أن تنتظر هنا في الحديقة، أيها الذئب.”
“كيييين…..”
“لا، لا يمكن. روكسيلين تعاني من حساسيةٍ شديدة.”
وبسبب حساسيتهـا من الفراء، لم يُسمح للذئب بدخول القصر، فاكتفى بأن يطأطئ رأسه ويخفض ذيله بحزن ظاهر. ومع ذلك انحنى بجسده ليُمكّن روكسيلين من النزول من على ظهره.
نزلت روكسيلين من ظهره المنحني، ثم راحت تداعب خلف أذنه بخفة وتربت عليه.
وما إن رأت ذيله يخفق بسعادة حتى لوّحت له بيدها مبتسمة، فقام بلعق ظهر يدها وداعك خدها برفق.
وحين تأكدت روكسيلين من أن الذئب لن يحاول اتباعها، تبعت الخادم الذي خرج لاستقبالها ودخلت القصر.
***
“…..هم؟”
ما إن دخلت القصر، الذي لم يعد مجرد مألوف بل صار شديد الألفة بالنسبة لها، حتى واجهت جدها مباشرة.
كان يحمل في يده بعض الأوراق، ويبدو أنه خرج للتو من مكتبه، وتحت عينيه ظلال تعب واضحة.
“ما الذي جاء بكِ هذه المرة بلا أي اتصال مسبق، أيتها المتهورة؟”
“وهل سبق لي أن اتصلت قبل أن آتي؟”
“لا.”
“إذاً لماذا تسأل يا جدي الدوق؟”
عند كلامي هذا ارتعشت حاجباه مرتين.
“ذلك اللقب المزعج…..جدي دوق! إن كان جَدّاً فهو جَدّ، وإن كان دوقاً فهو دوق، فما معنى جدي الدوق هذا؟!”
أصدر صوت تنحنح ثقيل ورفع صوته وكأنه غير راضٍ إطلاقاً. عندها أطلقت تنهيدةً خافتة.
“نعم، يا صاحب السعادة الدوق.”
“إيييه…..”
ارتسمت على وجه الجد ملامح امتعاض خفيف.
وبينما أحدّق في وجهه المتجعد مثل الورق، لم أتمالك نفسي فضحكت ضحكةً مكتومة.
“آه، أتحب أكثر أن أناديكَ جدي فقط؟”
“ماذا؟ من قال أنني أحب ذلك! على كل حال، ما إن أُرخي لكِ الحبل قليلاً حتى تبدأين بالتطاول. هكذا أنتِ دائماً، أليس كذلك؟”
كان الجد على وشك أن يقول شيئاً آخر، لكنه ما إن التقت عيناه بوجهي الهادئ حتى صمت فجأة.
“نعم.”
“…….”
“تفضل، أكمل كلامكَ يا صاحب السعادة الدوق.”
“ذاك…..لم أقصد أن أسخر، تفهمين؟”
جدّي، الذي اعتاد أن يتلقى مني رداً قاسياً على كل كلمة جارحة يلقيها، بدا وكأنه كان على وشك التفوه بشيء لاذع ثم تراجع وأغلق فمه.
‘البشر لا بد أن يُردعوا.’
فلكي تُدركَ الطرف الآخر كم أن كلماته جارحة، لا بد من ردها إليه بنفس القسوة.
وبصراحة، كنت أعتقد أنني أمتلك موهبةً رائعة في هذا الجانب.
فأنا لم أكن أنفعل عاطفياً، بل كنت أحتفظ بوجه بارد وبريء وأقول بهدوء: “آه، إذاً يا جدي أنتَ أيضاً…” وبهذه البداية وحدها كنت أوقفه عن الكلام مراتٍ ومرات.
ولعل ذلك السبب في أن والدي الآن لم يعد يتأثر كثيراً بكلمات جدي القاسية.
وكان يقول أن كلماتي، حين كنت صغيرة، كانت صادمة لدرجة أنها صنعت عنده مناعةً ضدها.
مع أنني لا أظن أنني قلت شيئاً بالغ السوء آنذاك. هذه مبالغةٌ فعلاً.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات