“نعم، يشرفني اللقاء بكِ. سمعت الكثير عنكِ من روكسيلين، يا ابنة الماركيز ويلبريد.”
عند تحيتي له، ابتسم أرما الصغير بخجل وردّ التحية.
اليوم، حين ألحّت عليّ روكسيلين الصغيرة أن نذهب معًا إلى القصر الإمبراطوري، وافقت في النهاية، وكانت هذه النتيجة.
قالت أنها تريد أن تعرّفني بخطيبها، فخطر لي أن أرى طفولة أرما بنفسي، فجئت معها.
وكأنهما رتّبا الأمر مسبقًا، إذ وجدنا أرما ينتظرنا.
“قالت عني شيئًا؟”
رفعت حاجبي بدهشة وأنا أنظر إلى روكسيلين الصغيرة الجالسة بجوار الأمير الثالث، أرما ديانيتاس.
فابتسمت روكسيلين لي ابتسامةً مشرقة.
“…….”
فشعرتُ بالارتباك. أيعقل أنها تعرف أنني قادرةٌ على رسم ملامح كهذه؟
أكاد أجزم أنني في طفولتي لم أبتسم بصدق يومًا.
…..ما هذا؟ أكنتُ في النهاية إنسانةً مثل غيري؟
لطالما خُيّل إليّ أنني وُلدت كخطأً، و كان عليّ أن أكون خشبة أو آلة، لا إنسانًا.
لكن، ما الذي مدحتني به تحديدًا؟
كنت أميل برأسي متسائلةً حين انفجر أرما بابتسامةٍ صغيرة على وجهه البريء.
“قالت أن ابنة ويلبريد تجعل أهل الدوقية عاجزين عن الحراك أمامها.”
“…..آه، عن ذلك الأمر.”
هل يُعدّ هذا مديحًا حقًا؟
أجبت بفتور وقليلٍ من التحفظ، فابتسم هو بدوره وهزّ رأسه.
“نعم، لقد سمعت أن أجواء الدوقية غدت أفضل بكثير بفضلكِ، أليس كذلك…..؟”
أهكذا كان الأمر فعلًا؟
كنتُ كلما حاول أحدهم التفوّه بكلمة جارحة، أرددتُها إليه بالمثل، فصار الجميع أكثر حذرًا في حديثهم حين أكون موجودة.
وأكثر من عانى من ذلك كان جدي. لم أفهم قط لماذا لا يفتح فمه إلا ليجرح الناس ويهينهم…..
لكنني كنت أعلم أن كلامه بلا نية خبيثة. فالشر حين يكون كامنًا في الكلمات لا بد أن يُحَسّ.
بمعنى آخر، لم يظهر ذلك على السطح، لكنه كان رجلًا غير صريح مثل والدي تمامًا.
طعنةٌ صغيرة تفزعه فيشتم، وخبطةٌ بسيطة تربكه فيشتم.
لاحقًا سمعت من كبير الخدم أن جدي عاش منذ طفولته وحتى أوائل العشرينات في بيئة قاسية للغاية.
أرضٌ فوضى، قد يُعثر فيها على من يُهان اليوم جثةً في الغد. و في عالم كهذا، لم يكن أمامه سوى أن يقاتل كي لا يُستَضعف.
والنتيجة كانت تلك النظرة الحادة القاسية، وتلك القبضة التي تنطلق مع أي استفزاز، وذلك الطبع الذي يبدأ دومًا بالصراخ والشتيمة قبل أي شيء آخر.
وحين عاد إلى بيت النبلاء حاول إصلاح نفسه، لكن العادات المنقوشة في الجسد منذ الطفولة لا تُمحى بسهولة.
و أقصى ما بلغه من تطور أنه صار قادرًا على كبح لسانه في الخارج فلا يشتم الناس جزافًا.
حككت خدي وأنا أستعيد نبرة كبير الخدم المفعمة بالعاطفة وهو يقول،
“لكن بفضل الآنسة روكسي، وُلد عنده شيءٌ يُسمّى التردد.”
“التردد…..؟”
“نعم، كثيرًا ما يتوقف عند عبارة: ‘هذا الـ—’ ويكبح بقية الشتيمة، بل إنّه مؤخرًا يكتفي بقول: ‘هذا القـ—’ دون أن يُكمل.”
قال ذلك وهو يشد قبضته بحماسة، كأنه يروي بطولات ثورية شهدها بنفسه. و للحظة حسبتُه مناضلًا يتحدث عن ثورة.
“…..وهل لهذا معنى فعلًا؟”
“بالطبع! أليس هذا دليلًا على أنه صار يُلقي بالًا إلى كلماتكِ يا آنسة؟”
“لكنه كان يتذمّر لي مؤخرًا أنه يتعاطى دواءً للمعدة…..”
“لا بأس، آنسة.”
“…..لا بأس فعلًا؟”
كنت على وشك أن أسأله إن كان يصلح أصلًا أن يُدعى خادمًا، لكنني توقفت حين وضع كفّه على صدره.
“لحسن الحظ أنني أنا من أقلع عن دواء المعدة.”
“آه.”
أفلتت مني شهقةٌ قصيرة.
“أنتَ…..”
“نعم، هل أزيد لكِ بعض البودينغ؟”
“آه، حسنًا.”
في النهاية، يكفي أن يخرج واحدٌ على الأقل راضيًا من كل هذا.
فتظاهرت باللامبالاة وأنا أتلقى الرشوة ــ أو ما يشبه الرشوة ــ التي قدّمها لي الخادم.
وحين أفقت من شرودي، أومأت متأخرةً قليلًا.
“يبدو أن كبير الخدم يحبكِ أيضاً.”
“حتى أنتِ يا روكسيلين، يبدو أنها تكن لكِ الكثير من الود، فهي لا تكفّ عن الحديث عنكِ.”
“حقًا؟”
“نعم. بفضلكِ صرتُ أتكلم مع أبي كثيرًا…..وجدي صار يزورنا بين الحين والآخر، وحتى عمّتي باتت تقضي معنا وقتًا أطول.”
قالت روكسيلين ذلك بصوت خافت وقد احمرّت وجنتاها. وبدا عليها الفرح حتى أنها أخذت تهز قدميها في الهواء بلا وعي، وهو مشهدٌ أشعرني بشيء غريب داخلي.
“وأيضًا…..بتنا نجتمع كعائلة على مائدة الطعام مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع. في السابق لم أكن أنا ولا أبي نحضر…..لكن في الآونة الأخيرة صار أبي يحضر هو أيضًا.”
“السيد الشاب نفسه؟”
“نعم، وكل هذا بفضلكِ.”
قالت روكسيلين الصغيرة ذلك، ثم ابتسمت ابتسامةً مشرقة وهي تحدّق في وجهي بعينيها المبتسمتين.
‘آه، هذه ابتسامةٌ حقيقية.’
ابتسامةٌ لا يمكن أن تخرج إلا من قلب صادق. ولأنها روكسيلين، كنت أستطيع أن أخمّن مشاعرها من ملامحها وحدها.
“أحب هذا الإحساس…..إحساس العائلة.”
“…..تشعرين حقًا بإحساس العائلة؟”
سألتها بغير قصد، غير مصدّقةٍ أن مثل هذه الكلمات خرجت من فمي.
“نعم! حقًا….. كأنني بطلةٌ داخل قصة خيالية لطالما حلمت بها.”
قالت روكسيلين ذلك، فلم أجد ما أجيبه، واكتفيت بتحريك عيني بصمت قبل أن أبتسم بخفة.
“كنت أظن قبل أن ألتقي روكسي أنني بخير حتى وأنا وحدي…..لكن يبدو أنني لم أكن بخير حقًا.”
اتسعت عيناي عند سماعها.
“كنت وحيدة، على ما يبدو. أن يأتي أبي كل بضعة أيام في الليل ويسألني: ماذا فعلتِ اليوم…..ذلك جعل قلبي ينبض بقوة هنا.”
وضعت روكسيلين الصغيرة كفها على صدرها وضغطت قليلًا.
“وكان إحساسه ينبض بقوة…..وهذا أسعدني كثيرًا.”
“…..هذا جيد إذاً.”
“حتى أبي صار أحيانًا يتحدث مع جدي مؤخرًا. صحيحٌ أنه يعود بعدها دائم التذمر، لكنه أفضل من الأيام التي لم يكن ينظر في وجهه أصلًا.”
أومأت برأسي متفقةً معها.
“وجدّي أيضًا صار يذهب أحيانًا لرؤية أبي، وأبي بدوره حين يعود من مكان ما، يمر ليلقي نظرةً سريعة ثم يمضي.”
“ما زال عاجزًا عن أن يكون صريحًا.”
“لكن على الأقل أفضل مما كان…..حين كانوا يجهلون حتى وجود بعضهم في البيت.”
ضحكت روكسيلين الصغيرة بخفة، ثم خفّضت صوتها كأنها تبوح بسرٍّ، وانحنت قليلًا.
“في الحقيقة…..سمعتُ جدي مرة يتمتم: (حتى تلك الفتاة الوقحة المتمردة لها نفعٌ في النهاية).”
يا لها من ضحكة. وضحكة أرما أيضًا.
نظرتُ جانبًا لأرى أرما يمد يده خلسةً ليمسك بيد روكسيلين، فرأيتُها بدورها تدير عينيها بخجل قبل أن تمسك يده بلطف. عندها ارتسمت ابتسامةٌ صغيرة على فم أرما.
…..إذاً حتى مثل هذا المستقبل كان ممكنًا.
يُقال أن بعض الخيارات قادرةٌ على أن تغيير مسار حياة بأكملها…..وها أنا أرى صدق ذلك.
في عالمٍ ما، تعلّمت روكسيلين الكبت فقط، فغدت آنسةً متلعثمة كئيبة.
وفي حياة أخرى، عاشت وهي تبغض كل شيء في الدنيا، تقابل كل شيء بعداء، حتى أنها أعرضت عن عائلتها وهي تحتضر…..وماتت وحيدةً في النهاية.
لكن في حياة أخرى…..لو كان هناك من يساعدها على إعادة ترتيب أزرارها، لو وُجد من يوجّهها، و لو كانت عمّتها لا تزال على قيد الحياة…..لعل الأمور كانت لتصبح بهذا السلام.
كانت فكرةً جعلتني أشعر بغصّة معقدة.
“آه، تذكرت يا روكسي…..سمعت أن والدي مؤخرًا يلتقي بخطيبة جديدة…..”
“…..ماذا؟”
“امرأة يراها. أظن اسمها الآنسة…..كارميل؟ قالوا أنها من بيت أحد الكونتات.”
عند كلام روكسيلين قطّبتُ جبيني.
كنتُ أظن أن خطتي الأخيرة نجحت في إبعاده عن مثل هذه الأمور، لكن يبدو أنني كنت مخطئة.
وبينما كنت أفكر كيف أطرده هذه المرة…..
“كيييييااااا!!”
“ألم أقل لكِ أن تبتعدي عن هنا؟!”
دوّى الصوت الغاضب من خلف باب قاعة الاستقبال، يهز أذني، فجمّدتني المفاجأة في مكاني.
____________________
كارميل رجعت إيييييو
روكسي ما الومها اذا حسّت بالغيره من روكسيلين الصغيره😔
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات