كنت أجيب وأنا أمضغ قطعةً صغيرة من شريحة الستيك، وعيناي تدوران في محجريهما.
ما هذا الجو يا ترى. سأفقد صوابي.
المتحاوران لم يكونا سوى جيرون وأنا. أما سيلينا فكانت تأكل طعامها بصمت. ولم تكن الكمية في طبقها تنقص إلا قليلًا.
بالطبع، كنت أعتني بها بين الحين والآخر أيضًا…..
“سيلينا، هل تؤلمكِ معدتكِ؟”
لم يكن أمامي سوى أن أتصرف بدور “الطفلة التي لا تعرف شيئًا”.
“…..ها؟ لا، لماذا تسألين؟”
كانت ترد دائمًا على ندائي بوجه رقيق لطيف.
وحين نظرتُ بخفة إلى جيرون، بدا هو الآخر صامتًا لسبب ما.
أنهى طعامه ثم نهض ببطء من مقعده.
“لدي عملٌ كثير، سأذهب الآن. تناولي طعامكِ على مهل ثم ارتاحي.”
“نعم.”
“سيلينا، أراكِ لاحقًا.”
“…….”
عند كلماته أطبقت سيلينا فمها بصمت.
غادر جيرون، وبقيتُ أنا وهي فقط على المائدة. فانشرخ القناع الخالي من التعبير على وجهها قليلًا، ثم ما لبث أن انهار كمن غلبه الإرهاق.
“سيلينا.”
“نعم، ما الأمر؟”
“هل حدث شيءٌ ما؟”
“ليس حقًا…..”
أجابت سيلينا، لكنها لم تستطع حتى أن تختلق كذبةً بيضاء، فعادت سريعًا إلى الصمت.
“همم، سيلينا.”
بدأتُ أطرق بقدمي في الأرض.
صحيحٌ أن جيرون رجلٌ قد لا يكون غريبًا أن يسقط ممددًا في الطريق فجأة…..لكن على أي حال، هو من أطعمنا، وأسكننا، واعتنى بنا بأمور كثيرة…..بل حتى رافقني إلى حفلة الظهور الأول الأخيرة…..
بل، وحتى انتقم لي سرًّا لما حدث في حفلة الشاي، لذا ربما هذا كله لا يتعدى كونه ردًّا للجميل، أليس كذلك؟
“همم، والدي يحبكِ كثيرًا يا سيلينا.”
“…….”
رفعت سيلينا رأسها عند كلامي ونظرت إليّ. و كانت عيناها حمراوين قليلًا، غائرتين من شدّة التعب، وكأنها لم تنم منذ أيام.
فأدرت عيناي في محجريهما بتردد.
في الحقيقة لم أتعلم يومًا كيف أعبّر عن هذا النوع من اللطف، ولا أعرف كيف أصيغه.
صحيحٌ أنني لم أعد أتفوّه بالكلمات الحادّة كما في السابق، لكن هذا لا يعني أنني صرتُ شخصًا قادرًا على مواساة الآخرين.
“أقصد، أنا….أعرف والدي…..همم. على أي حال، نعم، هو حقًا يحبكِ.”
“روكسي، هل تقصدين أنا في هذا العالم…..أم أنا في عالم آخر؟” ما هذا الكلام الآن؟
جيرون…..بحق، ماذا فعلتَ بالضبط؟
“كلاهما…..هما سيلينا نفسها.”
“يحبني…..تقولين؟”
“نعم، يحبكِ. فأنا لأول مرة أرى أنه قادرٌ على إظهار مثل تلك التعابير.”
“…..تعابيرٍ كهذه؟”
“آه، ألم ترَي يا سيلينا؟ عندما تشبّثت به تلك الخاطفة ذات الشعر الأحمر. كان وجهه يفضح كل شيء.”
عند كلماتي، أمالت سيلينا رأسها بتعبيرٍ حائر.
وبينما استعدتُ المشهد في ذهني، انفلتت مني ضحكةٌ من جديد.
“ذلك الوجه الذي يقول: ‘يا إلهي، هذا سوء فهم! ليس كذلك! ماذا أفعل؟ يجب أن أقول شيئًا!’ أتعرفين؟”
“……صحيح؟”
“نعم. ثم إنني لم أرَ في حياتي أحدًا، أمام هذا الجمع من الناس، يقول لشخص آخر صراحة: ‘اختفِ’. حقًا لم أرَ ذلك من قبل.”
عند كلامي انعوجت شفتا سيلينا قليلًا. أما أنا فبدأت أهز قدمي برفق وأرجع رأسي إلى الوراء.
“أعتقد أن والدي أيضًا يمر بكل هذا لأول مرة.”
“أول مرة؟”
“نعم. أول مرة يحب أحدًا، وأول مرة يعشق، وأول مرة يرغب في أن يملك قلبًا لشخص آخر.”
“…….”
“هناك أناسٌ هكذا. حياتهم جافةٌ أكثر من اللازم، فيظنون أن وجود من بجوارهم أمرٌ بديهي. ثم لا يندمون إلا بعد أن يفقدوا ذلك الشخص، فيعيدون اجترار ذكراه بلا توقف.”
كنتُ أنا واحدةً من هؤلاء.
والآن وأنا أرى تلك الملامح المرتبكة، تذكّرت شخصًا آخر.
ذلك الذي سخر مني قائلًا: ألم تختبري الحب يومًا؟ متظاهرًا بأنه يعرف كل شيء، بينما في الحقيقة لم يكن أفضل حالًا على الإطلاق.
العجيب أن العلاقات تزداد سوءًا مع الوقت.
“في الحقيقة…..بالأمس سمعت من جيرون شيئًا صادمًا.”
“شيءٌ صادم؟”
“نعم، لعلّكِ تعلمينه أنتِ أيضًا…..بما أنكِ ابنته، أشعر أنه قد يكون أخبركِ أولًا بطبيعة شخصيته.”
سر؟
لكن “سرّ جيرون ويلبريد” ليس شيئًا أو اثنين، بل أكثر من ذلك بكثير…..لا يمكنني أن أخمّن وأسأل هكذا بلا تحديد…..
لكن في المقابل، هل هناك فعلًا شيء لا أعلمه؟ إن فكرت جيدًا، ربما لا.
“سيلينا، لماذا أنتِ حزينةٌ إذاً؟”
“بعدما سمعتُ حديث الأمس، تساءلت إن كنتُ فعلًا قادرةً على تحمّل كل ذلك.”
“……همم.”
“ثم تذكرتُ ذكريات تخصّ نفسي في العالم الآخر. وعرفتُ أنني، في كل ليلة أغفو فيها، كان جسدي يتبدل.”
جيرون ويلبريد شخصٌ سيئ الطبع فعلًا.
فكرتُ قليلًا. ربما من الأفضل أن ينتهي الأمر بيننا هكذا.
فوضعتُ يدي المتشابكة فوق الطاولة وأسندتُ ذقني إليها، بوجه جاد قدر الإمكان.
لكن بذراعين قصيرتين، وجسد قصير، ورقبة قصيرة لطفلة صغيرة، بدا الوضع وكأن أطرافي تتمدد إلى أقصى حدودها وهي ترتجف.
“…….”
ومع ذلك، لم أرد أن أنزل يدي وأتظاهر بالألم الآن، فبدا ذلك مجرد موقف سخيف، لذا تمسكتُ بعنادي.
و حاولت أن أحافظ على هدوئي قدر الإمكان ثم رفعت رأسي.
“سيلينا.”
“ماذا يا روكسي؟”
ترددت لحظةً أمام نبرتها الدافئة، ثم فتحت فمي لأتكلم.
“أعتقد…..أنه ليس سيئًا أن تتركي والدي وتبحثي عن شخصٍ جديد.”
روكسي أيضًا ماذا؟ لا يعقل أنها كانت تنوي القول أنني أفضل من جيرون كابنة…..؟
“…..صحيح.”
لم يكن كلامها عن قناعةٍ بقدر ما كان مجرد محاولة لمجاملتي، لكنها تفاجأت بنفسها وهي تقول ذلك.
“أتمنى أن تلتقي روكسي أيضًا…..بشخصٍ طيب.”
“شكرًا.”
أجبتها بخفة.
“على كل حال، العيش مع إنسان مثل ذلك قد يجعل بقية حياتكِ بائسة. بينما الدخول في علاقة مع شخص صريح، بديع الجسد، أصغر سنًا، واعد، وأكثر امتلاءً بالعاطفة…..يبدو أفضل بكثير.”
آه، ذراعي تؤلمني.
لكن بما أنني أمسكت بخيط الحديث، وجب أن أكمله.
“لذا فقط افعلي ما ترغبين. أياً يكن القرار الذي تتخذينه، فعلى والدي أن يتقبله. لا مفر من ذلك. أما إن كان سبب تردّدكِ هو خوفك من المستقبل…..فلتفعلي. لأنك إن فعلتِ، فلن تندمي أبدًا.”
اتسعت عينا سيلينا قليلًا. ثم سرعان ما أطبقت شفتيها بإحكام، قبل أن تنفجر بضحكةٍ كبيرة.
“هاهاهاها!”
مع صوتها المجلجل الواضح، أرخيت بدني قليلًا وحككت خدي بخفة.
“شكرًا لكِ يا روكسي.”
قالت سيلينا ذلك بابتسامةٍ مشرقة تفيض بالارتياح.
“نعم…..كنتُ جادةً فعلًا.”
“أعرف، لكن…..صُدمت قليلًا بكونكِ لستِ من هنا.”
“……آه.”
إذاً ذلك هو السر الذي سمعت به.
حدّقتُ فيها بصمت. و كانت تسند ذقنها بيدها وملامحها غامضة.
“الشخص الذي يحبّه…..في النهاية ليس أنا، بل هذا القشر الفارغ، وأحدٌ ما من ذلك العالم.”
“…….”
“ثم سمعتُ أنه ينوي العودة. وعندها ستتلاشى الذكريات أيضًا، هكذا قيل لي.”
اندهشت قليلًا من جيرون الذي باح لها بأكثر مما توقعت.
كنتُ أظن أنه سيخفي الأمر حتى النهاية. أن يُخفيه حتى آخر لحظة لينال ما يريد.
“أيعني ذلك أنه لم يرغب بخداعي؟ يا له من طمّاع.”
رمقْتُها طويلًا قبل أن أخفض بصري.
“صحيح…..أحيانًا اقتراف الأمر أولًا ثم معالجة عواقبه ليس سيئًا. فأنا أريد أن أستمتع بالحاضر بكل ما أستطيع.”
وحين رأيت ملامح سيلينا وقد أشرق عليها نورٌ خفيف، أومأت برأسي ثم قلت أنني سأسبقها إلى الداخل، وغادرت الطاولة.
“سأبقى قليلًا وأتناول المزيد.”
“نعم، أكملي طعامكِ.”
أحنَت رأسها قليلًا مودِّعة، وما إن خرجت حتى تجعّد وجهي فورًا.
ذلك لأنني أبصرت الرجل الواقف بجانب الباب، المليء بالحنين حتى الفيض. ومع عبوسي مررت بجانبه.
“روكسيلين، شكرًا لكِ.”
سمعت صوته يتردد، ثم صوت فتح الباب وإغلاقه.
“أحمق.”
فتمتمتُ وأنا أقطّب حاجبي متجهةً نحو غرفتي.
_______________
جيرون احيانا يصير حنون زي يوم شكرها الحين ياناسو🤏🏻 حتى هي مب متعودة
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات