استمتعوا 

“كما توقّعت… لن يكون ممكنًا، أليس كذلك؟”

مال رأسه إلى الجانب، وفي تلك الملامح رأيتُ وجهًا مألوفًا، وإن كان هذا الصبيّ أكثر بساطةً من ذاك.

“……”

أتُرى يحدث أمرٌ كهذا في قلب القصر الإمبراطوري؟

وفي اللحظة التي راودتني فيها هذه الفكره، قفزت إلى ذهني ذكرى اختطافي من القصر من قبل. لكن بعد طول تردّد، نهضت من مقعدي.

“……لنذهب.”

“حقًّا؟”

“نعم. ثمّ تكلّم معي بلا تكلّف.”

“همم… أتسمحين لي إذن؟”

يقول هذا وهو يفعلها أصلًا! بل ويتأقلم بسرعة أيضًا

“حسناً…”

أومأت برأسي قليلًا، فابتسم ضاحكًا ثم قال.

“إذن تكلّمي أنتِ أيضًا بإرتياح.”

“حسنًا.”

وأنا الأخرى كنت سريعة التكيّف.

“من هنا.”

مدّ يده بخفّة فأمسك بيدي، ثم مضى بي نحو أعماق الحديقة، حتى بلغنا أطلال قلعة مهجورة لم تُستعمل منذ زمن.

‘إذن في القصر الإمبراطوري أماكن كهذه أيضًا.’

وبينما نتوغّل في تلك الزوايا الخفية، خطرت لي فكرة أنّه ربما عليّ أن أهرب. لكن… لم يُبدُ عليّه أنّه فتى سيّئ. بل إن إحساسي نحوه كان مُريحًا على نحوٍ غريب. ولم تكن قبضته قاسية أو مُكرهة، بل لينة وطبيعية على نحوٍ يُبعث على الطمأنينة.

“هل لي أن أناديكِ… روكسي؟”

“أتعرِف اسمي؟”

“إنّه مشهور.”

صحيح، فاللقب الذي لاحقني. “الشاردة التي تبنّاها ماركيز ويلبريد” كان قد ذاع في كلّ مكان. فلم يسعني الإنكار واكتفيت بهزّ رأسي.

مضى يلتف حول القلعة، ثمّ اندسّ في فجوة ضيّقة بجدارها.

“تستطيعين الدخول؟”

“… آه، نعم.”

“جيد.”

ما إن انحنيتُ ودخلت، حتى بان لي باطن القلعة. ورغم أنّها مهجورة بلا عناية، إلّا أنّ نور القمر كان كافيًا ليُنير المكان.

“روكسي، من هنا.”

جذب يدي بلطف، وابتسم ابتسامة خفيفة جعلتني أفتح عينيّ دهشة.

‘…أرما؟’

ذلك الوجه المتداخل مع ملامح الصبي جعلني أتوقّف على الدرج.

“روكسي…؟”

استدار الصبي فجأة، وأدخل وجهه أمام وجهي. ارتبكتُ وتوقّفت.

“آه، لا شيء. لماذا؟”

“بدوتِ شاردة. إن تعبتِ، أستطيع أن أحملك على ظهري.”

ضحكة خفيفة خرجت من فمه، فأجبت بالنفي بخجل.

‘أرما ليس هكذا… إنّه أكثر وقارًا ورصانة، دائم التحفّظ والتأدّب.’

“إن تعبتِ فقولي، سأحملك.”

“أتعرف اسمي، فلماذا لا تُخبرني باسمك أنت؟”

“أنا؟ اسمي…”

رمقني بنظرة غامضة، ثم رفع كتفيه وقال.

“نادِني… آل.”

“آل؟”

“نعم، يكفي أن تناديني آل.”

“وإلى متى سنصعد؟”

لم يكن الأمر متعبًا، لكن الدرج الحلزوني امتدّ طويلًا بلا نهاية.

‘هذا المكان أشبه ببرجٍ لا بقلعة.’

وعلى حين بلغنا القمة، بان ممرّ طويل وفي نهايته باب حديدي ضخم. فتحه الصبي ودخل.

“غرفة…؟”

“كانت كذلك.”

كان المكان أشبه بقاعة كبيرة، سقفها مُهدّم كليًا، لتطلّ على السماء. أثاثها القديم ما زال قائمًا، ولو غطّاه الغبار.

“تعالي هنا.”

مرّر يده على السرير، فاختفى الغبار كأن لم يكن.

‘…سحر الهاوية؟’

لمّا لمستُ يده لم يعلق بها شيء. نظرت إليه بريبة، فأشار مرة أخرى.

“روكسي؟”

“آه، نعم.”

اقتربت وجلست، لكنّه هزّ رأسه مبتسمًا.

“تمدّدي.”

“…ماذا؟”

“جربي أن تستلقي.”

فأجبتُ بخفّة ساخرة.

“ما زال لقاؤنا في ساعته الأولى، وها نحن نبلغ هذه المرحلة سريعًا؟ لم أتخيّل ذلك.”

نظر إليّ بنظرة ماكرة، ثم ابتسم مائل الشفتين.

“أوه… أكنتِ تتوقّعين شيئًا كهذا؟”

وقبل أن يقترب أكثر، قطعتُ عليه الطريق بصرامة.

“لا.”

فتراجع ببساطة غير متوقّعة.

“تمدّدي فقط، وتأمّلي السماء.”

“السماء؟”

تردّدت، ثم تمدّدت بجانب السرير، وهو الآخر تمدّد على مسافة غير بعيدة. وأشار برأسه نحو الأعلى.

“انظري.”

“…إلى ماذا؟”

رفعتُ بصري، فتجمّدت في مكاني.

سماء الليل السوداء كانت مفروشة بمجرى من النجوم، كأنّها تنسكب فوقنا مباشرة.

“…آه.”

شهقتُ مأخوذة بتلك الروعة، وقد مرّ زمن طويل منذ أن تأمّلت السماء بحق.

“قلت لكِ ستعجبك.”

“إنّه… مشهد لم أره من قبل.”

أجاب وهو يبتسم.

“لأن هذا المكان منعزل، تغمره الظلمة من كل الجهات.”

أومأتُ وأنا أتمتم بشيء من الامتنان، ثمّ التفتّ فجأة نحوه… وهناك التقت أعيننا مباشرة.

المسافة بيننا قريبة، قريبة حدّ أنفاسنا كادت تختلط.

ارتبكتُ سريعًا وأعدت بصري إلى السماء.

‘ما هذا؟’

لقد مرّ زمن طويل منذ أحسستُ بشيء كهذا. كان خفقان قلبي يهدر في صدري حتى كاد يُشوّه ملامحي.

‘هل أكلتُ شيئًا فاسدًا؟’

لم يخطر بذهني أنّي عرفت هذا الإحساس من قبل، خصوصًا تجاه شخص تعرّفتُ عليه للتو.

وبينما أقطّب حاجبيّ، مدّ يده خلسة فأمسك بيدي برفق. فتجمّدتُ للحظة.

“أردتُ أن أُريك هذا المكان.”

“هذا المكان…؟”

“نعم.”

لكن لماذا يتكلّم وكأنّه يعرفني منذ زمن؟

لمحتُه بريبة، ثم صرفت بصري.

“لكن ما شأن هذا المكان وقد تُرك مهجورًا؟”

“قديـمًا…”

“قديمًا؟”

“كانت أمي سجينة هنا.”

“…ماذا؟”

أية كلمات هذه التي ألقاها فجأة؟

لم أجد ما أقول. لا يُمكن أن أسأله. هل كانت مجرمة؟ أو ما ذنبها؟

“أفهِمت.”

انتزعت هذا الجواب بصعوبة، مثبتة عينيّ على السماء حتى لا ألتقي بعينيه. لم أكن واثقة أن بوسعي قول أي شيء آخر.

“لم أرها بعيني، لكن سمعتُ.”

“…آه، نعم.”

أمّه كانت سجينة، وهو ابنها، ولم يعرف إلا بالسماع؟

“غضبتُ يومًا، فجئت أفرغ غضبي هنا، ولمّا رفعت بصري وجدت السماء بهيّة… فأصبحت أعوّد أحيانًا.”

“هذا… مؤسف.”

أجبتُ بشيء يسير بينما تدحرج بصري بتوتّر. فأطلق هو ضحكة خفيفة.

“لطالما ظننتُ أنّكِ لا تُجيدين المواساة.”

“…على كل حال، هل التقينا من قبل حقًا؟”

“نعم.”

نبرة صوته كانت جادّة: أكنتُ لأجلب غريبة إلى هنا لو لم أعرفها؟

قبضتُ حاجبي وقلت.

“لكنّني لا أذكرك.”

التفت إليّ مبتسمًا ابتسامة غامضة، وانحنى شفتيه بابتسامة جانبية.

“لقد التقينا… لكنّكِ فقط لا تتذكّرين.”

—يتبع.

   ( ( 

   („• ֊ •„) ♡ 

━━━━━━O━O━━━━━━

– تَـرجّمـة: شاد. 

~~~~~~

End of the chapter