استمتعوا
“هُمم، روكسيلين.”
ابتسمتُ ابتسامةً واسعة، وشددتُ صوتي عامدةً بعد أن ملأت صدري نفسًا.
كان واضحًا أنّ كثيرًا من الحاضرين يصغون إلينا في خفية، وكأنهم لا يفعلون.
فمن ذا الذي لا يدرك أنّ ما يجري أمامه تجاهلٌ متعمّد، إلا إذا كان بصره قد خانَه؟
‘حقًّا، أفكار صبيانية بحتة…’
سخيفٌ ووضيع.
أما لو كان الأمر إليّ، لعرفتُ كيف أغرس الإهانة خلسةً دون أن تُلتقط ببساطة.
“أجـ… أجل؟”
كانت روكسيلين قد استوعبت أخيرًا أنّ ما يحدث غير مألوف، فغدا وجهها شاحبًا حدّ البياض.
حين وقعت عيناي على ملامحها الفتيّة المصفرّة رقّ قلبي عليها.
فأنا، على خلافهم، لم يكن يُسمح لي بالخروج من المنزل إلا بعد عشرات الفحوص وأدويةٍ تُحشى في حلقي.
“يبدو أنّ حفله الشايٍ هذه رديئة المستوى!”
“ماذا…؟”
“لماذا لا نعود أدراجنا؟ نخرج ونمرح قليلًا. لقد افتُتح متجر جديد في شارع البوتيكات، وسمعت أنّ فساتينه غايةٌ في الجمال.”
مددتُ يدي فأمسكتُ يدها المرتجفة المرتبكة.
كانت أصابعها باردة كالثلج، شاهدةً على توتّرٍ لا يُحتمل.
‘لا مفرّ… ستُصيبها حُمّى أيامًا عدّة بعد عودتنا.’
كنتُ أعرف جسدي وجسدها كما أعرف أنفاسي.
ومن نظرةٍ إلى وجهها الباهت ويدها الباردة أدركت أنّها لن تسلم من المرض ثلاثة أيّامٍ على الأقل.
“قال أبي، إن رغبتُ فبوسعي أن أُسرف في التسوّق. فلنذهب ونشتري ثوبًا أو اثنين.”
“ماذا؟ مهلاً… روكسي، لكن… حفلة الشاي…”
خرج صوتها يابسًا متخشّبًا، بل بدأ يتهدّج.
آنذاك فقط، أدركتُ لماذا كان يُطلق عليها بين الناس في الماضي لقب ‘المتلعثمة’.
“لا عليكِ. إن رغبتِ في حضور حفلة شاي، فسأقيم لكِ واحدًا قريبًا، وأنتِ أول من تصلها دعوتي.”
شدّدتُ قبضتي على يدها الباردة، وضفرتُ أصابعي بأصابعها أكثر.
“حفل شايٍ كهذا، حيث يستخفّ الخدم بالضيوف، لا يليق بنا أن نشارك فيه.”
“أ… أترين ذلك حقًّا؟”
“نعم، هو كذلك. فإذا كان خدمهم بهذا الانحطاط، فأيّ منزلةٍ تكون لمضيفٍ يبعث دعوة كهذه؟”
ابتسمتُ، فأطرقت روكسيلين جفنَيها المرتجفين ببطء.
“قصدي أنّ…”
أخرجتُ بطاقة الدعوة من حقيبتي، وأفلتتُ يدها لحظةً ثم قبضتُ عليها بكلتا يديّ.
“لو بقينا نلعب معهم، فلن نُبتذل نحن وحسب، بل سنهبط إلى حضيضٍ واحد مع تلك الأرواح الفاسدة التي لا تستحق الذكر.”
شَـقَّقْتُ الدعوة رويدًا، ثم ألقيتُ بها أرضًا، وقبضتُ مجددًا على يدها الصبيانية، واستدرتُ بعنف.
في الحال، ساد الهمس في المكان.
أكثرُ من اضطرب هم الخدم. لم يكن في حسبانهم أنّي سأجرؤ على هذا. لكن، فما شأننا؟
فنحن منزل الدوق الأوحد في الإمبراطورية، وإلى جانبنا منزل ماركيز نادر، وكلاهما يسيطران على نسبة كبيرة من أسواقها.
قد لا ترتقي مشاحنات الأطفال إلى مستوى نزاعات الكبار… لكن، أيمكنني رفعها؟ نعم.
يكفي أن أشي لأبي وجدي وعمّي بدموعٍ مستعارة ليقلبوا الدنيا.
“أتودّين البقاء؟ أم تفضلين أن ترافقيني إلى البوتيك، روكسيلين؟”
“… أيمكنني؟”
“بل يجب. لا يوجد شيء لا تستطيعين فعله. وليس من اللياقة أن نُلزم أنفسنا بأدبٍ مع من لا يعرفونه.”
قالت “نعم” بعد أن حدّقت بي بعينين متّسعتين.
“أودّ الذهاب للتسوّق.”
“خيار صائب.”
وما كدتُ أجرّها للخروج حتى هرع إلينا أحد الخدم هاتفًا.
“تمهّلي يا آنستيَّ!”
فأجبتُه ببرود.
“لا رغبة لي.”
كنتُ أعلم أنّ الخدم أبرياء في ظاهر الأمر، لكن لم يكن بمقدوري أن أُجادل حول هوية المحرّض بلا دليل.
وما حاجتي للجدال اللفظي حين تكفي الأفعال دليلاً؟
“أتفضّلين فستانًا أم ثوبًا بسيطًا؟”
“فستانًا بلا زينة…”
“أحسنتِ الاختيار.”
ومضينا نتجاوز الخدم وكأنهم هواء.
حتى السائق الذي قاد العربة كان يرمقني بوجهٍ متجمّد.
“لا أحبّ المكان هنا. أرغب فقط بالذهاب للتسوّق مع روكسيلين. أهذا مسموح؟”
“بكل تأكيد.”
أجاب بصرامة، وهو الذي عُرف بابتسامته الهادئة عادة. بدا أنّه قد استشاط غضبًا لما أصابني.
اقترب خادم آخر محاولًا الاعتذار.
“آنسَتَيَّ، المعذرة… لم ننتبه… تفضّلا بالدخول.”
“روكسيلين، هل تصعدين أولًا؟”
“نـ… نعم.”
صعدت بخدّين محمّرين من الانفعال، تساعدها يد السائق.
مددتُ يدي إلى الدعوة.
“إن لم تعودي بحاجةٍ إليها، أعطِني إياها لأتخلّص منها.”
“أستطيع رميها بنفسي…”
“تذكّري، روكسيلين، لا داعي لحمل قمامة مثل هذه.”
مزّقتُ الدعوة نصفين، ثم وضعتها في يد الخادم المذعور.
“بلّغ سيّدك عنّي.”
ابتسمتُ ابتسامةً ندّية كالأزهار.
“قُل له. لا يبعث مثل هذه القذارة مره اخرى. وقُل أيضًا إنّي لا أريد أن تقع عيناي عليه بعد الآن.”
“أنـ…”
“إني أكره السفالة بكل ما أوتيت من نفس.”
ثم صعدت العربة، فانطلقت كالسهم وسط وجوهٍ مشدوهة.
‘أحسنتَ، أيها السائق.’
***
“آه… ما أشدّ الإرهاق.”
بعد جولة طويلة من التسوّق والغداء، ثم تسوّق آخر، عدتُ وأنا أربّت على كتفيّ.
كان جسدي الطفولي يخذلني بسرعة حين أطيل البقاء خارجًا.
‘ليتني جَرّبتُ هذا في صغري كذلك.’
وبينما أنا غارقة في أفكاري، طرقت إحدى الوصيفات الباب ثم دخلت.
“دعيني أساعدك على خلع الفستان.”
“حسنًا.”
أطلتُ النظر إلى الفستان الأزرق الفاتح قبل أن ألمس وجنتي بخجل.
لقد جاءتني سيلينا بنفسها، وحذّرتني من آداب المجالس وأوصتني بما أقول وأتجنّب.
ولولاها، لربما أمسكتُ بأحد الخدم هناك وأقمتُ القيامة.
لكنها أوصتني. إن واجهتِ وقاحة، مزّقي الدعوة وغادري.
فالمجالس لا ترحم، والمخطئ هو من يُشعل الجدال.
أما إن انسحبتِ، فسترتدّ التهمة على الوقح نفسه.
“وقبل كل شيء… لا تنسي أنّ أباكِ هو جيرون. أنتِ روكسي ويلبريد. ومهما فعلتِ، سيقف أبوكِ إلى جانبك.”
أوصتني ألّا أُفكّر كثيرًا، وأن ألوذ بالانسحاب إن تطلّب الأمر.
تجربةً واقعية أثبتت صواب قولها.
وراحت الوصيفة تضحك برفق حين أجبتها متأخرة.
“تبدين متعبة يا آنستي. كيف وجدتِ أول حفلة شاي؟ ممتعة؟”
“آه؟ لم أحضره أصلًا.”
أجبتُ مقتضبة، بينما هي تساعدني على خلع الفستان المطرّز بخيوط دقيقة تزيده رفعة، بلا بهرجة.
لكنها توقّفت فجأة، مبهوتة.
“لم تذهبي؟ أكان هناك ما حدث يا آنستي؟”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 166"