استمتعوا
“وحين أفرغ من الأمر، سأرحل كما ينبغي. وأنت أيضًا، فما دمت قد تركت خلفك ما يستحق العودة، فلا بدّ أن تمضي إليه.”
“……هكذا إذن.”
كان جيرون ويلبريد يعلم أنّ وقت تنحّيه قد حان.
“أعتذر، لقد أسأتُ الظنّ. لأنكِ تلزمين الصمت دائمًا، لم أدرِ أنّكِ راغبةٌ في التعلّم.”
“…….”
حدّقت به روكسيلين طويلاً بعينين لاهبتين، ثم استدارت فجأةً، تخطو بخطواتٍ عاصفة حتى دفعت الباب بعنف. غير أنّها توقّفت مبهوتة، بل إنّ جيرون ويلبريد تجمّد أكثر منها.
“……سيلينا؟”
ناداها مرتجفًا، وقد اتّسعت عيناه دهشة.
“آه…….”
ابتسمت سيلينا ابتسامةً مرتبكة، وقالت بصوتٍ يشي بالحرج.
“المعذرة، كنتُ فقط أنوي دعوتكما لشرب الشاي…… لم أدرِ أنّكما في حديثٍ مهم.”
نقلت روكسيلين بصرها بينها وبينه، فانعكس على وجه جيرون ويلبريد ظلّ خيبةٍ ثقيلة.
وبينما هي تحدّق في ملامحه الحائرة، مدّت يدها بخفوت تمسك بطرف ثوب سيلينا.
‘لا حيلة إذن.’
لقد سنحت لها فرصةٌ مناسبة لاستغلالها.
“روكسي……؟”
“سيلينا…….”
وفجأةً سالت دموعها من جديد، وما إن تخلّت عن صبرها حتى انحدرت على خديها بغزارة. فارتبكت سيلينا وارتمت أمامها تجثو كي تواجهها.
“كيووووونغ، كيينغ…….”
راح الذئب يعوي بانكسار.
أما سيلينا فقد ارتبكت أشدّ الارتباك، وهي تحاول تهدئتها.
“عزيزتي، ما بكِ؟ ما الأمر؟”
“أبي…… نذل.”
“……آه.”
نظرت سيلينا إليّ ثم إلى جيرون ويلبريد، كأنها تحاول إدراك ما يجري، ثم احتضنتني بقوة وأومأت برفق:
“حسنًا، حسنًا… فهمت.”
“سيـ… سيلينا……؟”
“سنتحدّث لاحقًا، جيرون.”
أجابت بصرامة وهي تمسح دموعي وتوجّه جسدها نحو الداخل.
“……اللعنة.”
تمتم جيرون ويلبريد، واضعًا كفّه على جبهته، يتأمل ظهرها وهي تبتعد بلا رجعة.
‘يبدو أنّها سمعت كلّ شيء.’
مسح شفتيه بيده في حيرةٍ وارتباك.
أما روكسيلين، فقد هدأت أخيرًا بين ذراعي سيلينا، بينما راحت الأخيرة تربّت على ظهرها بحنيه، ثم نامت وهي تضمّ ذئبها الصغير إلى صدرها.
وأمّا جيرون ويلبريد…… فقد تبيّن أنّه وجد لنفسه مخرجًا.
…… أو لعلّه ظنّ ذلك.
***
“كيييونغ……؟”
ذلك الحيوان الأليف الجديد… أو لعلّه الضيف الذي فُرض عليها فرضًا، بدا غريبًا منذ البداية.
مرّ شهرٌ كامل على قدوم الذئب الأسود، ولم تستطع روكسيلين طرد الشكوك من نفسها.
كان يلتصق بها أينما ذهبت، حتى ليكاد يرفض أن يبتعد عنها لحظة.
“لا تقل لي أنّك سترافقني حتى إلى المرحاض……؟”
ارتفعت أصوات مخالبه تخدش أرض الرخام، ثم توقفت فجأة مع انتهاء كلماتها.
أمالت رأسها وهي تنظر إليه، فازدادت حيرتها.
لقد بدا وكأنّه يفهم حديثها. وحتى طعام الكلاب، كان ينظر إليه باستياء وينوح في رفضٍ غريب.
سألت الطهاة إن كان يحتاج إلى لحمٍ نيء ليأكله كالحيوانات المفترسة، فاقترحوا عليها أن تجرب.
قدّمت له دجاجةً مذبوحة حديثًا، لكنه لم يفعل سوى التحديق بها بعينين مرتجفتين، كأن وجهه قد شحب. وبعد طول تردّد، عاد يأكل طعام الكلاب العادي ببطء.
بل إنه ظلّ جالسًا عند باب المرحاض في هدوءٍ بينما غابت عنه للحظات.
“كيينغ!”
وما إن جلست على سريرها حتى قفز عند قدميها، يمسح وجهه بمعصمها.
‘اليوم سيزورنا الطبيب البيطري، أليس كذلك؟’
لقد قيل لها إنّ عليه أن يخضع لفحصٍ ولقاحات، وأنها بحاجةٍ إلى نصائحٍ في تربيته إذ لم يسبق لها تربية ذئب.
كان الطبيب قد تأخر بسبب حادثٍ في طريق العودة من رحلة، لكنها علمت أنه قادم اليوم.
“ذئبي الصغير.”
“وانغ!”
“تعال هنا.”
ربّتت على ركبتيها، فقفز بخفة ليستقرّ في حجرها.
أخذت تمسح على ظهره الممدّد وهي تبتسم نصف ابتسامة.
‘لابدّ أنّه لن يرضى بالذهاب ليُطعَن بإبرة.’
وبما أنه يفهم الكثير من الكلمات، فقد يهرب إذا علم بنيّتها، لذا أبقت الأمر سرًّا.
تذكّرت جملةً من كتابٍ اشترته حديثًا بعنوان “كيف تروض حيوانك الأليف بإتقان” .
[أحيانًا، لا بدّ من القليل من الخداع. فالحيوانات حسّاسة للغاية، لذلك عند الفحص أو التطعيم، من الأفضل أن تلهيها بمكافأةٍ أو لعبةٍ مفضّلة.]
غير أنّ مشكلتها أنّ الذئب لم يُبدِ اهتمامًا لا بعظامٍ ولا بألعابٍ ولا حتى بدمى. لم تكن تعرف ما يحب على وجه التحديد.
ولهذا السبب طلبت من الطباخ أن يصنع لها نقانق يدوية شهية، قيل لها إنّها آمنة للحيوانات ما دامت لا تُعطى بإفراط.
“هل تحبّ النقانق يا ترى؟”
“كيييونغ؟”
“النقانق. قالوا إنّها صالحة للحيوانات أيضًا. أتودّ أن نذهب ونأكلها معًا؟”
“وانغ!”
عوى بحماس، فيما حملته بين ذراعيها متجهة إلى قاعة الاستقبال.
“وانغ! وانغ!”
لكنّه حين أدرك أن الطريق مختلف عمّا اعتاد عليه، أمال رأسه يتساءل.
“لا تقلق.”
“كايينغ؟”
أجاب بنظرةٍ مترددة، فيما أسرعت هي الخطى، خشية أن يفلت منها إن أدرك مقصدها.
دخلت قاعة الاستقبال، فانحنى الحرس احترامًا. وما إن أُغلِق الباب خلفها حتى بدأ الذئب يتململ بقلق.
“كيييينغ……؟”
ارتاب حين لمح الستائر مسدلة، وحين أبصر رجلاً بثوبٍ أبيض يجلس في الداخل.
“انسة روكسيلين، أهلاً بقدومك.”
“شكرًا.”
قالها رئيس الخدم الجديد في قصر ويلبريد، وقد اختاره جيرون بنفسه لما عُرف عنه من دقةٍ وبراعة.
“هذا هو الطبيب البيطري الذي ذكرتُه آنفًا.”
“تشرفت بلقائك، آنستي. أدعى رومان.”
“شكرًا لحضورك كل هذا الطريق.”
بادلت التحية بأدب وجلست. جلس الطبيب المقابل بهدوء، يرمق الذئب في حجرها.
“كييينغ……؟”
“آه، أهو الذئب الصغير الذي يحتاج إلى الفحص؟”
اقترب بعينين وديعتين، ينظر إلى الحيوان بانتباه. فراحت عينا الذئب ترتجفان في قلقٍ ظاهر.
“نعم. لقد التقطته حديثًا، لكنه قضى وقتًا في الخارج…….”
ازدادت ابتسامة الطبيب دفئًا وهو يومئ.
“طبيعي أن تقلقي.”
قالت روكسيلين بصرامة.
“ولستُ أريد أن يحمل أي عدوى. فإن حدث أمرٌ كهذا في قصر الماركيز، فالكارثة عظيمة.”
ساد الصمت فجأة، وفتح الطبيب عينيه في ارتباك، قبل أن يضحك ضحكةً خفيفة متكلّفة.
“هاها…… بلى، معك حق. الحيوانات المشرّدة قد تحمل أمراضًا، لذلك لا بدّ من فحصها بدقّة.”
وأومأ مطرقًا، كأنّ شيئًا من البراءة قد انكسر في داخله.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 162"