استمتعوا
***
“أبي.”
عندما نادته روكسيلين، رفع جيرون ويلبريد بصره إليها بوجه متحفظ.
فهي لا تناديه من دون كلمة “اللعين” إلا حين تكون بحاجة إليه، وهو في المقابل يراها عبئًا ثقيلاً.
لكن ما إن رفع رأسه حتى تجمّد لحظة. إذ رأى في حضنها حيوانًا أسود صغيرًا، مطواعًا رغم وضعه المربك بين ذراعيها.
ثم حدقتا عيناه الزرقاوان مباشرة في جيرون. فقابل نظراته للحظة. وتلاقت العينان في الفراغ للحظة قصيرة.
‘أخيرًا، يبدو أنها نجحت.’
لمعت الفكرة في ذهنه، ثم خمّن بسهولة ما ستطلبه ابنته.
“ما الأمر؟”
“هل أستطيع أن أربيه؟ سأصطحبه معي حين أستقل.”
“إن كنتِ لا تنوين ذكر الاستقلال حتى تبلغي سن الرشد، فلكِ أن تربيه ما شئتِ.”
حدقت روكسيلين في جيرون صامتة، ثم أعادت نظرها إلى الحيوان. وبينما كانت تتأمل الذئب بوجه متردد، هزّت رأسها إقرارًا.
“لا بأس إذاً.”
“جيّد. على الأقل هذا المخلوق لن يطعنكِ في ظهركِ من حيث لا تحتسبين…..”
قال جيرون ذلك وهو يقطب حاجبيه متأملًا ظهر ابنته التي همّت بالانصراف.
“إلى أين تذهبين أثناء الحديث؟”
“لن أرهن حياتي كلها مقابل حيوان واحد. سأعيده إلى مكانه.”
“…….لا بأس.”
لم يدرِ هل يسميها جديرةً بالإعجاب لكونها اختارت سلامتها من دون تردد، أم يلومها على افتقارها للإنسانية.
“كْكِينغ؟!”
“العالم في أصله ظالم. ما كاد يتمّ أمر حتى يُقلب رأسًا على عقب—تلك عادة الحياة.”
قالت روكسيلين للذئب أن يتعلم كيف يعيش بنفسه، ثم همّت بالخروج بلا أي تردد.
“دعيه. ربّيه.”
“……و الاستقلال.”
“تحدثي بصراحة. فأنا لن أسمح لكِ بذلك.”
“ألا ترى أن هوسكَ بالتحكم مبالغٌ فيه؟”
“….…”
مسح جيرون جبهته بخفة وكأن صداعًا يثقل رأسه.
شعر قليلًا وكأنه بدأ يفهم لِمَ لم يمنحها العالم صحة سليمة.
بل تسللت إلى ذهنه فكرة عبثية: أن العالم في حقيقته لا يهب البشر الكمال أبدًا.
ثم أعاد قلمه إلى محبرة الحبر وهو يفتح فمه أخيرًا.
“روكسيلين.”
“…….”
ناداها باسمها الكامل، لا بالاسم المختصر “روكسي”، فانعكس في ملامحها أثر شعور غريب.
“ماذا؟”
“أفهم أنكِ متحمسة ومندفعةٌ الآن.”
كان صوته أقرب إلى تهدئة طفل صغير، فما كان من روكسيلين إلا أن قطّبت حاجبيها.
“قضيتِ عمركِ في السرير تحت رحمة الأدوية، وها أنتِ اليوم تملكين قوة تُسقط رجلاً ناضجًا بضربةٍ واحدة، فطبيعي ألا تشعري بالخوف.”
كلماته أصابت صميم الحقيقة، فانكسرت ملامحها لحظة.
“وفوق ذلك، أنتِ ذكية. صرتِ قادرةً على تنفيذ أفكاركِ دون أن تشرحيها لغيركِ، وهذا ما يجعلكِ متحمسةً الآن، وأنا أتفهم ذلك.”
“…..لكنني أتمنى ألا تعاملني وكأني طفلة.”
قالت ذلك باستياء واضح، فابتسم جيرون ابتسامةً هادئة.
‘أوه، لقد أغضبته.’
فكرت روكسيلين بذلك وهي تحدق فيه.
“لكن ما تفعلينه الآن بالضبط هو ما يفعله الأطفال. لا منطق فيه على الإطلاق.”
“لا أفهم أين المشكلة أصلًا. لماذا تقول إنه غير ممكن؟”
كانت تكسب مالها بجدارة، وتعرف كيف تفاوض بمهارة. ولم تكن قوة ذراعيها أداةً طائشة تستخدمها عشوائيًا. إذ كانت دائمًا ما تحاول حل الأمور بالكلام أولًا.
غير أن الفرق الآن هو أن المواقف التي تهددها صارت أقل، فلم تعد ترى داعيًا كبيرًا لوجود الفرسان والحرس من حولها.
كان جسدها من الصلابة بحيث لو كسرت شجرةً بقبضتها لم يصبها خدش.
“لا أفهم لماذا تصرّ على منعي.”
“لأنني، شئتِ أم أبيتِ، ما زلت وليّ أمركِ. ولو حدث لكِ مكروه، فلن أستطيع أن أرفع رأسي.”
“لكنني أعود دومًا سالمة.”
“ألم أخبركِ صراحةً أن شيئًا ما يتربص هنا؟”
انخفض صوته فجأة، فتوقفت روكسيلين لحظة.
‘لا بد أنه يقصد ذلك الشيطان…..آمون أو أياً كان.’
فكرت وهي تكتم أنفاسها.
كانت مدركةً للخطر، ولهذا حاولت ألا تلفت الأنظار قدر الإمكان.
“هل تعلمين لماذا أنا هنا أصلًا يا روكسيلين؟”
“….لعلّ لكَ شأنًا ما لتقوم به بدوركَ.”
“كفّي عن هذا الكلام الفارغ. ما دمتِ تهربين من صلب الحقيقة، فلن نحصد أنا وأنتِ سوى الدوران في حلقةٍ مفرغة نكرهها معًا.”
امتزج صوته بنفحة ضيق، فقبضت روكسيلين على ملامحها بانزعاج، إذ لم تفهم حقًا لماذا تسمع هذا كله.
“أهو عسيرٌ عليكِ أن تتكئي على الآخرين؟”
“……ماذا؟”
اتسعت عينا روكسيلين وارتسمت على وجهها علامات العبوس. و أرادت أن تجادله، لكنه لم يترك لها مجالًا.
“سألتكِ، هل يصعب عليكِ الاعتراف بأنكِ بحاجة أحيانًا للاتكاء على غيركِ؟”
“ما هذا الكلام الغريب…….”
“هل طلب المساعدة من الآخرين أمرٌ يجرح كبرياءكِ إلى هذا الحد؟”
“……..”
أخذت روكسيلين نفسًا عميقًا وقد اشتدّ تصلبها.
“ألا يرضيكِ شيء إن لم تنجزيه وحدكِ؟”
“لم أشأ أن أستعين بغيري في أمر أستطيع إنجازه بنفسي فحسب…..”
“أم أنكِ لا تريدين الاعتراف أنني جئت إلى هنا لأساعدكِ؟”
تابع جيرون كلامه بلا انقطاع، عازمًا ألا يمنحها فرصةً لقطع حديثه.
و لم تلبث روكسيلين أن فهمت قصده بعد أن قاطعها مرتين أو ثلاثًا، فأطبقت شفتيها.
“لماذا؟ أتخشين إن اعترفتِ أن أكون بالنسبة لكِ شيئًا ما؟”
قال ذلك ببرود ووجهه لا يحمل أي تردد.
“أم تراكِ تؤمنين أن العلاقة التي فسدت مرةً لا بد أن تظل فاسدةً إلى النهاية؟ أم أنكِ ما زلت حبيسة قلب طفلة، تخشين أن تُجرحي فلا تتجاوزين خوفكِ؟”
اشتدت ذراعا الطفلة التي عانقت الذئب حول جسدها الصغير.
والذئب، محمولًا على طول جسدها حتى بطنها المضغوط قليلًا، رفع عينيه نحو روكسيلين لحظة، ثم حدّق بحدة في جيرون.
“أيعجزكِ أن تحتملي قلق الآخرين عليكِ؟ أم لعلّكِ تخافين…..”
مدّ صوته قليلًا وضاقت عيناه.
“أن تؤذي أحدًا من غير قصد، فتتألمين أنتِ بدوركِ؟”
“اصمت. لا أدري بأي حق تواصل تحريكَ لسانكَ وكأنكَ تعرف كل شيء.”
على ملامحها الطفولية ارتسمت القسوة التي اعتاد أن يراها في وجهها بين حين وآخر. فألقى جيرون نظرةً متعالية على عبوسها الشرس وابتسم ابتسامةً متغطرسة.
“أحيانًا لا يبدأ نضج المرء إلا حين يعترف بالحقيقة. وأنتِ ما زلتِ حتى دون خط البداية.”
“…….”
“هلّا تفكرين على الأقل في العودة سالمة؟”
ارتعش كتفا روكسيلين بشدة واتسعت حدقتاها.
“أتذكرين ما قلتِه لي يومًا؟”
رفعت رأسها ببطء ونظرت إليه بعينين حادتين كالسكاكين.
“أخبريني، أما زلتِ لا ترغبين سوى في الموت؟”
“…..لا.”
“أن تكفي عن جلد ذاتكِ لا يعني أن تعذبي نفسكِ، بل العكس.”
ثبت بصره عليها لحظة، ثم نهض واقترب منها بخطواتٍ وئيدة. و جلس القرفصاء أمامها، حتى تلاقت عيناه بعينيها في المستوى نفسه،
“يبدو أنكِ لن تفهمي إلا إن قلتها بوضوح، فاسمعي جيدًا.”
“…….”
“لقد تبعتكِ لأنني قلقٌ عليكِ. ولو تركتكِ، لكنتِ الآن غبارًا في الفضاء، ميتةً لا محالة، لولا أنني أنقذتكِ بيدي وأعدتكِ إلى هذه الجهة.”
فاتسعت عينا روكسيلين عن آخرهما بعد حديثه.
_____________
متأكدين ان جيرون شيطان؟😔
قالها كلام عميق لروكسيلين حتى هي نفسها كانت تنكره😔 وذي اول محادثة عميقة بينهم😭
يعجبني جيرون وهو ابوها بس بنفس الوقت اشتقت لزيرتي معها🤏🏻
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: دانا.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 160"