استمتعوا
***
“…….”
رأيتُ الطفلة روكسيلين وهي تحدّق بعينيها الواسعتين، فرفعتُ يدي لأحك خدّي بخفة.
زيرتي بيليون…..أي والدها، كان واضحًا من الهالة المسمومة التي كانت تدور حوله أنها قد نالت منه قدرًا وافرًا من الكراهية.
“حبيبتي، روكسيلين. تنفسي ببطء، ببطء.”
“هَه….هَه..…”
كانت الطفلة روكسيلين تمسك صدرها، لكنها بدأت تُخرج أنفاسها ببطء كما قال والدها.
وما هي إلا لحظات حتى أخذ نفسها المضطرب يعود تدريجيًا إلى طبيعته، فحرّكت قدمها بخفة فوق الأرض.
“ماذا فعلتِ بابنتي بحق؟”
فعلتُ؟ لم أفعل شيئًا مميزًا.
“لقد تحدثنا.”
“تحدثتما؟ سمعتُ أنكِ سخرتِ منها! أي حديث يجري ليُحوّل هذه الطفلة إلى هذا الحال..…!”
حدّقت روكسيلين في الهاوية المظلمة التي كان يضطرب حول والدها بعنف.
ورأت السمّ المتلاطم يكاد يندفع نحوها، فسارعت إلى الكلام.
“أعتذر، لكن إن لم تُسيطر على الهاوية سأموت.”
“ماذا…..؟”
“سأموت فعلًا. وغدًا ستملأ الصحف خبر (ابنة الماركيز ماتت مسمومةً في بيت الدوق).”
قالت ذلك بوجه هادئ كأن شيئًا لم يكن. إلى درجة أن زيرتي بيليون فقد قوته تمامًا من فرط الدهشة والارتباك.
“شكرًا.”
و بذلك التعبير البارد الخالي من أي انفعال، شكرتْه، ولا أحد يدري على أي شيء تحديدًا تشكره.
فقد بقي زيرتي بيليون للحظة عاجزًا عن الكلام.
“ما الذي..…”
حتى عندما أعادت له شقيقته التي كانت قد اختفت فجأة، كان الأمر آنذاك غريبًا بالنسبة إليه.
لكن حين رآها تتحدث بكل وقاحة وتقول ما تشاء حتى أمام الدوق، ذاك الذي يُفترض أن الأطفال يرهبونه، وجد نفسه يتساءل ما الذي يجري بحق.
أحقًا عليه أن يصدق أنها ابنةٍ للماركيز؟
وبينما يسمع كلماتها التي كانت تخترق إلى الصميم، رأى زيرتي لأول مرة والده عاجزًا عن الكلام كأن حلقه قد انسد.
و فكّر أنها طفلة مضحكة وغريبة. فالمرء لو كان عاقلًا بحق لما تجرأ قط أن يقف أمام دوق جبار ويجادله بكلماته.
“على كل حال، لم نفعل سوى الحديث.”
“قلتُ لكِ، أي حديث هذا؟”
“آه، قلتُ لها أنه إن عاشت هكذا كئيبة فستظل بلا أصدقاء.”
لم يكن ثمة ما يستدعي الإخفاء، لذلك أجابت روكسيلين بسهولة.
عندها ارتبك زيرتي بيليون قليلًا ورمش بعينيه.
“وقلتُ أيضًا إن كانت لا تريد أن تظل كئيبة، وإن كانت تريد تغييرًا في علاقتها، فعليها أن تكون صادقةً وتبوح بما في قلبها.”
“….…”
“كانت تؤمن يقينًا أن والدها يكرهها، فقلتُ لها أن تكفّ عن الشفقة على نفسها والتصرف البائس.”
“لا، أي حديث يجري ليخرج منها هذا..…؟”
نظر زيرتي بيليون إلى روكسيلين بملامح مستغربة، كأن يقول: ما بال هذه الطفلة؟
“وأيضًا…..”
“أيضًا؟”
هزّت رأسها الصغير صعودًا وهبوطًا بخفة.
كانت طفلةً صغيرة جدًا مقارنةً به، لكن وجهها ظل جامدًا وجافًا. وصوتها الرتيب كان كأنها تقرأ تقريرًا رسميًا فحسب.
“قلتُ أنه بما أنها تصر على أنها تعيسة، فربما لم ترَ بعد الأطفال التعساء الملقى بهم في الأزقة، وددت لو أرميها هناك لترى.”
ذاك ما كانت روكسيلين تتمنى أن تفعله بنفسها في الماضي.
كان بقايا من حسراتٍ على أنها لم تُدرك الواقع في وقت أبكر.
“وإن لم ينفع هذا ولا ذاك، قلت لها أن تستسلم فحسب.”
“…..أن تستسلم بماذا؟”
“بالحب.”
تدفّق من فم طفلة صغيرة لفظة لم يكن يُتوقع أن تخرج منها. فتأملها بوجه مدهوش.
وفي الوقت نفسه رفعت الطفلة رأسها ببطء لتنظر إليه. وكان في عينيها الجافتين فراغٌ مطبق كأنها خلت من كل شعور.
“أليس من الطمع أن تحاول الحصول على الحب أيضًا، وأنتَ تملك حولك كل هذا؟”
“…….”
“على أي حال..…”
حرّكت الطفلة شفتيها ببطء وهي تلتقي بعينيه مباشرة.
في الحقيقة، هي لم تَصرِف بصرها عنه منذ البداية، لكنه شعر في تلك اللحظة فقط وكأنها تنفذ إلى أعماقه.
“والدكِ لن يحب مخلوقًا مثلكِ طيلة حياته.”
“……!”
اتسعت حدقتا زيرتي بيليون فجأة.
صوتها كان هادئًا وجافًا، لكنه بدا وكأنه يجلده باللوم.
“أليس كذلك، يا سيد؟”
ثم، وكأنها لم تقل شيئًا، ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ مشرقة بريئة، فخفض هو بصره على عجل.
كانت ابنته الصغيرة ترتجف كتفيها وتخفض رأسها للأسفل. كما لو كانت مذنبة.
كما لو لم تستطع حتى أن تلتفت لترى والدها.
وكان خدها الصغير يرتجف وهي مطأطئة الرأس.
ذلك المشهد الضئيل المنكمش أعاد إلى ذهنه طفولته هو نفسه. حين كان يتلقى كلمات والده الجارحة ونظراته المليئة بالاحتقار.
زيرتي بيليون أقسم مرارًا أنه لا يريد أن يشبه والده في شيء.
هو لا يجهل مكانة والده المهيبة في الخارج. فالجميع كانوا يتمنونه، يتطلعون إليه، ويمدحونه. ووالده لم يرد منهم سوى أن يقابلوه بالقدر نفسه من التقديس.
لكن زيرتي بيليون لم يكن يملك قوةً كافية للسيطرة على الهاوية، وبدل أن يصبر والده عليه، لم يتوقف عن جلده بالسوط بلا رحمة.
وكان يكره ذلك. لم يشعر ولو مرة واحدة أنه محبوب. و كان يؤمن أنه مجرد عبء، مجرد نفاية.
وكلما سمع كلمة “نفاية” تترسخ أكثر داخله، بدأ يصدق أنه كذلك فعلًا، حتى أنه ما عاد يطيق رؤية وجه والده.
“وسيظل السيد كذلك دومًا…..منطويًا، عاجزًا عن مصارحة أحد، مقتنعًا أنه لا يحتاج إلى والدٍ كهذا، ثم يترك طفلته مُهمَلة.”
“…..ماذا؟”
“وتبرر ذلك بأنه من أجل روكسيلين.”
اتسعت عينا زيرتي بيليون.
كان من الواضح أن الذي أمامه مجرد طفلة، لكن لماذا؟
لقد تجاوز شعور التعامل مع شخص بالغ، و شعر وكأنه يتعرض لتوبيخ شديد.
“من دون أن تفكر حتى في احتمال أنها قد لا ترغب في ذلك أصلاً.”
“…….”
لم يستطع زيرتي بيليون قول أي كلمة، بل خفَض نظره إلى ابنته التي ارتجف وجهها الشاحب هلعاً.
كانت تراقب ردود الفعل بعينين متوجستين، وما إن التقت عيناها بعينيه حتى أسرعت تخفض رأسها بشدة.
تماماً كما كان زيرتي بيليون في صغره، لم يكن المشهد مختلفاً في شيء.
الفرق الوحيد أن مكان الأب يشغله الآن هو، وفي مكان الطفل الواقف أمام الأب تقف ابنته.
في النهاية، لم يكن مختلفاً عن أبيه في شيء.
“لا…..لستُ كذلك…..”
بينما كان زيرتي بيليون يتمتم مع نفسه بصوتٍ خافت، دارت عينا روكسيلين بملل.
‘لا يمكن…..هل سيحفر الأرض الآن ليغوص فيها؟’
كانت قد تعمدت استعمال أسلوب صادم بقليل من القسوة. وذلك ببساطة لأنهما، في الحقيقة—
‘كلاهما لا يتكلم أبداً.’
فإن لم تصدمهما، فلن يفتح أي منهما باب الحديث.
كانت روكسيلين تعرف جيداً عنادها وشخصيتها المعوجة. وكذلك تعرف شخصية أبيها الكئيبة والمظلمة بنفس القدر.
“على أي حال، تأخر الوقت، سأعود الآن. والدي المزعج قال أنه إن تأخرتُ فسوف يلبسني ثوباً فاخراً ويدفعني للظهور في حفلة الظهور الأول.”
“……؟”
وعلى عكس ملامحها المستاءة، كان كلامها في ظاهره عادياً بل وحتى جيداً.
‘هل أنا أتفاخر الآن؟’
حدق فيها زيرتي بيليون بوجه يقول: ما هذا الهراء؟ بينما هي ارتجفت بجسدها إظهاراً لكرهها الشديد.
“على أي حال، أؤكد لكَ، عندما تكبر روكسيلين ستقول أنها تكره أباها الكئيب.”
“……كئيب؟ أي جزء فيّ بالضبط كئيب….”
“من ملابسكَ البالية والكئيبة……لا، أقصد…..ذات الطابع القديم؟ شيءٌ أشبه بالتحف.”
‘حتى الإصلاح لا ينفع معها.’
شعر زيرتي بيليون وكأنه يسمع تتمةً لحديث لم تتفوه به الطفلة أصلاً.
“إذاً سأعود الآن. و سأعود بعد عدة أيام.”
“……ستعودين ثانيةً؟”
“طبعاً، فالأصدقاء يحتاجون إلى تواصل دوري.”
فهل يعني ذلك أن العلاقة العملية يمكن أن تصبح صداقةً أيضاً…..؟
لم يستطع زيرتي بيليون حتى أن يسأل عن ذلك، فاكتفى بوجه محتشم وهو يرد التحية، يراقب ظهر الطفلة وهي تبتعد بخطوات صغيرة.
ثم خفض نظره، فوجد ابنته تحدق بملامح مذهولة.
“أه، تحدثا قليلاً. وإلا ستجد ابنتكّ تهرب من البيت يوماً ما. أنا نفسي أُحضِّر لهروبي حالياً، لذا أعلم ما أقول.”
“……روكسيلين، من هذه بحق؟”
“……لا أعرف، أنا أيضاً.”
ذلك اليوم، ومن خلال هذا الحوار، انفتح بينهما جسر حديث لأول مرة، وتشاركا قلوبهما بالثرثرة عن تلك الطفلة العاصفة.
_________________
خطتها زانت😂 صدق محد فاهم نفسها وابوها الا هي
زيرتي فوق انه جاه هواش من بزر حتى نقدت على ملابسه😭
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: دانا.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 157"