استمتعوا
“من الذي قال أنني صديقتكَ؟”
“مؤسف، أتيت من مكانٍ بعيد فقط لرؤية شخص ليست حتى صديقه؟”
قال جيرون ذلك بصوت مبالغ فيه، مدّعياً أنه لا يملك خياراً سوى الرحيل وأنه يشعر بخيبة أملٍ كبيرة، مما جعل روكسيلين تشوّه وجهها غيظاً.
“كيف عرفتِ هذا المكان؟”
“زرت المكان مرة حين لم تكن موجوداً.”
“أحسنتِ.”
“توقف عن معاملتي كطفلة.”
ضيقت روكسيلين عينيها ونقرت بلسانها. فضحك جيرون عند سماع صوتها الطفولي الحاد والمليء بالحدة وهز كتفيه.
“ثم إنني فقط سمعت من الكاهن الأعلى عن باشين.”
“آه، أولئك مزعجون قليلاً. الـكهنة الحقيقيون أكثر حساسيةً مما تظنين. يعرفون كيف يعثرون على الآثار بسهولة.”
“هل هناك مزيفون أيضاً؟”
“لطالما وُجد أناسٌ في كل زمان ومكان يدّعون أنهم كهنة، أليس كذلك؟”
قال ذلك وهو يُميل الإبريق ليصب المزيد من الشاي.
نظرت إليه روكسبلين بشرود ثم رفعت كتفيها.
“على أي حال، لقد أنقذتني بقدومكَ.”
“من الجيد أنني كنت نافعاً.”
“لكن، هل كان من المناسب أن تأتي؟ زوجة الماركيز…..”
ألم يكن ظهوره هنا يعني اختفاء وجوده هناك؟
وحين أصبحت ملامح روكسبلين أكثر كآبة، ابتسم جيرون وبدأ بالكلام.
“لقد……أخبرتها بالحقيقة. بما أنها تستطيع أن تعيش جيداً بدوني الآن، كنتُ بحاجة إلى ذريعة لأتركها.”
لقد تخلّت عن مشاعرها تجاهه، لذا حين تختفي الذكريات، ستتلاشى معها المشاعر شيئاً فشيئاً حتى تزول تماماً.
وحتى إن استعادت ذكرياتها، فلن يبقى أي أثرٍ للمشاعر، ولو كان ضئيلاً.
“لم أرد أن أراها في تلك الحال.”
“…..لم أتوقع هذا، أن تفعل كل ذلك فقط من أجل أن تجدني.”
“كيف لي أن أفوّت فرصة رؤية من أصبحت ابنتي؟ لا يمكن أن أضيعها أبداً.”
عندما أضاف ذلك بنبرةٍ ماكرة، عبست روكسبلين بشدة.
في كل مرة تبدأ فيها بالشعور بالامتنان له، يكون بارعاً في تبديد ذلك الشعور تماماً، مما كان مريعاً ومثيراً للدهشة في آنٍ معاً.
نقرت روكسيلين بلسانها، و ضيّقت عينيها ثم أدارت رأسها بعيداً عنه.
“إذاً، هل قمت بحفظ ذكريات زوجة الماركيز بطريقةٍ ما حتى لا تنساها؟”
“استخدمت طريقةً مختلفة.”
“ماذا تقصـ-“
“هذا سرّ عنكِ، للأسف.”
“…….”
عندما ردّ جيرون بحزم، ضيّقت روكسبلين عينيها قليلاً لكنها أومأت برأسها في النهاية.
“لكن يا للأسف. في هذا العالم، زوجة الماركيز…..لا، آنسة عائلة الكونت يبدو أن هناك حديثاً عن زواجها من شخصٍ آخر.”
قالت روكسبلين تلك الكلمات ببرودٍ متعمد، بينما كان الغيظ واضحاً عليها، فتوقّف جيرون عن الحركة للحظة، ثم ضيّق عينيه بحدة.
“هل تقصدين لويد أرين؟”
“…..لا أعرف اسمه. سمعت فقط إنه الابن الثاني للكونت أرين.”
“إنه لويد أرين. ذلك الوغد الذي ظل يلاحقها ويدور حولها باستمرارٍ منذ زمن. هكذا إذاً، لو لم أكن موجوداً، لكانت الأمور آلت إلى هذا.”
تمتم جيرون بصوتٍ منخفض، وكانت ملامحه توحي بانزعاج شديد.
“حان وقت نوم الأطفال الطيبين.”
صم قال ذلك وهو ينهض من مكانه.
“جيرون، هل تعرف طائفة فيناك؟”
“فيناك؟”
عقد حاجبيه وكأنه لا يتذكر جيداً، ثم ما لبث أن توقف فجأةً وكأن شيئاً خطر على باله.
“آه……يبدو أن أولئك أيضاً موجودون. عندما لا تعتني بالمكان جيداً، تبدأ الأعشاب الضارة والحشرات بالانتشار من كل صوب.”
قطّب جبينه قليلاً، ثم حيّاها بإيجاز وكأنه لاحظ أنها متعبة، وخرج من الغرفة بوجهٍ بالغ الانزعاج.
‘…..لا أعلم لماذا، لكن يبدو وكأنه سيتوجه إلى زوجة الماركيز غداً نفسه.’
هذا ما فكرت به روكسبلين، ثم رفعت كتفيها وألقت بجسدها على السرير الوثير وأغمضت عينيها.
وسرعان ما انجرفت إلى نومٍ عميق، بعد أن وجدت أخيراً فراشاً مريحاً لأول مرة منذ زمن.
***
تمت دعوت روكسيلين من قِبل جيرون منذ الصباح إلى غرفة الطعام، وما إن دخلتها حتى رمشت بعينيها بدهشة أمام المشهد الذي رأته.
لم تكن قد انتبهت بالأمس بسبب ظلمة الليل وعتمة الغرفة، لكن جيرون ويلبيرد بدا أصغر سناً مما توقعت.
إن كان يعطي سابقاً انطباع رجلٍ في منتصف العمر، فهو الآن بلا تجاعيد ظاهرة ولا شعرة بيضاء واحدة.
من أي زاوية نظرت إليه، لم يكن سوى شابٍ عادي في العشرينيات من عمره.
‘كنت أعلم أنه يبدو أصغر من عمره الحقيقي، لكن…..بالفعل، هذا كثير.’
رغم أنه لا بد أن يكون في أواخر العشرينات على الأقل، فإن ملامحه كانت توحي بأنه في أوائل العشرينات بسهولة.
“هاها، من حسن الحظ أنكَ أصبحتَ الآن قادراً على أن ترث اللقب، هذا يبعث على الارتياح.”
قال الماركيز ويلبيرد ذلك بلطف، بينما كان جيرون يرفع كأس النبيذ بأناقة ويبتسم بهدوء.
“نعم، ووالدتي لا بد أنها تشعر بالوحدة، لذا يجب أن تذهب إليها يا والدي.”
‘…..يبدو أنه يعرف كيف يستخدم الألفاظ المؤدبة أيضاً.’
اعتاد دائماً أن يتحدث بتعجرف مستخدماً كلماتٍ مثل “أنت” و”كذا وكذا”، بلهجة مسنّة جداً، لذا رؤيته يتحدث بلغةٍ مهذبة كان أمراً مفاجئاً إلى حد كبير.
“صحيح، يبدو أنها تشعر بالوحدة فعلاً، فقد بدأت ترسل رسائل بشكلٍ متكرر في الآونة الأخيرة.”
“وقد حان الوقت لتبدأ بممارسة بعض التمارين أيضاً. لقد ازددتَ وزناً منذ آخر مرة رأيتكَ فيها.”
“لـ–لم أزد وزناً كثيراً.”
“بل ازددت. على الأرجح كنت تأكل فقط طوال الوقت لأنني لم أكن موجوداً.”
عند كلمات جيرون، أدار المركيز وِيلبيرد نظره بعيداً بتوتر.
‘….صحيح؟ لم يكن بهذا الحجم من قبل، أليس كذلك؟’
حتى في ذاكرة روكسبلين، كان الماركيز ضخم البنية نوعاً ما، لكن لم يكن بهذا القدر من السمنة.
فقط بعد أن قضت بعض الوقت هنا، أدركت الحقيقة’ لقد رأت الماركيز السابق مرة من قبل. لكن بسبب ما صار عليه من بدانة، لم تتعرف عليه.
‘ويبدو أن هذا أيضاً ثمرة جهود جيرون المضنية.’
فبعد أن لم يبقَ من يعتني به، أصبح أشبه بحيوان يُسمَّن للتربية.
‘بشكله الحالي، حتى لو تم تقطيعه، فلن تجد فيه سوى الدهون، ولا فائدة له حتى كقطعة لحم…..’
فكّرت روكسبلين بهذه الفكرة المروعة بلا أي انزعاج، ثم نظرت إلى جيرون الذي بدا مرتاحاً على نحوٍ ما، وأمالت رأسها قليلاً.
‘يبدو أنه لا يكرهه…..؟ هذا غير متوقع.’
في الواقع، لا عجب في أنه لا يكرهه، فشخصية الماركيز وِيلبيرد الحالي كانت طيبةً للغاية.
“ومع ذلك، لقد وعدتَ بأن تتبنى هذه الفتاة كابنة بالتبني، فلماذا لم تخبر هذا الأب أولاً؟ لقد انتهى بي الأمر بطرد حفيدتي دون داعٍ.”
“لا بأس، فهذا لأنني كنت غائباً. وهي فتاةٌ ذكية، وقد تصرفت بحكمة. أليس كذلك، يا ابنتي؟”
“….نعم، نوعاً ما.”
لم تستطع أن تتحدث بحريةٍ أمام الماركيز، فأجابت روكسيلين بوجه لا يخلو من التردد والانزعاج.
“هممم، على كل حال، آسفٌ لما حصل، صغيرتي. كان عليكِ أن تشرحي لي الأمور بشكلٍ أوضح.”
“……لم أعتقد أنكَ ستصدقني.”
قالت روكسيلين ذلك كعذرٍ مناسب، فجاء رده بأن ابتسم بصمت وربّت على رأسها بكفه الكبيرة.
أصابها الارتباك من هذه اللمسة غير المألوفة، فبدأت عيناها تدور في المكان بتوتر، مما جعل جيرون يضحك بخفة.
“بما أنها حفيدةٌ ظهرت فجأة، فقد أكون غير متمرس في التعامل، فارجو أن تتحملي تقصيري إن بدر مني شيء. اسمكِ هو……”
“روكسي، هذا هو اسمي.”
“أجل، روكسي. ياله من اسم جميل جداً.”
أومأت روكسيلين برأسها بخفة بعد هذا الإطراء الكريم.
ثم أخذت تراقب تاماركيز بصمت، وقد تغيرت نظرته تماماً خلال بضعة أسابيع فقط.
الرجل الذي كان يقول منذ مدة قصيرة أنه لا يملك ابناً، بات الآن يرى جيرون ويلبيرد ابناً له بكل طبيعية.
‘مخيف فعلاً.’
أن يُرزق المرء بولد دون أن يعلم، أو أن يرتبط عاطفياً بأحدهم ثم يفقده دون أن يتذكر شيئاً من ذلك…..أمرٌ مخيف حقاً.
“أبي.”
“هم؟ ما الأمر يا بُني؟ هل تريد أن أربّت على رأسكَ أنتَ أيضاً؟”
“لا، لكن ابنتكَ لم تتناول شيئاً من الطعام حتى الآن.”
“يا إلهي! أعتذر يا عزيزتي، تناولي طعامك بسرعة، روكسي!”
اعتقدت روكسيلين أن هذا الرجل يُعبّر عن مشاعره بصدق بالغ، فأومأت برأسها بخجل.
‘لا يبدو كأنه والد جيرون الحقيقي……’
في الحقيقة، كان أشبه بابن مُتبنّى يتقمص شخصية غيره.
‘هل كان هكذا أيضاً في العالم الأصلي؟’
يعاتب والده بوجهٍ مرتاح، يهتم بصحته ويقلق عليه…..هل يمكن أن يمتلك الشيطان مشاعر محبة؟
يبدو عليه شيءٌ من التعالي، خاصةً أنه يصرّ على مناداة الجميع بـ”البشر”، وكأنه يراهم أدنى منه.
“روكسي، إن كان من الصعب عليكِ تقطيع اللحم، هل تودين من جدكِ أن يقطّعه لكِ؟”
“آه، لا بأس، أستطيع فعلها.”
لم تكن معتادةً على هذه اللطافة الزائدة، لذا خفضت روكسبلين بصرها بارتباك، ثم بدأت في تقطيع شريحة اللحم أمامها بقوة كما اعتادت دائماً.
طنِّن—!
لم يقتصر الأمر على تقطيع اللحم، بل شقّت بالسكين الطبق أيضاً، وسرعان ما تحطم الطبق تماماً.
“…….”
“…….”
عندها، ساد صمتٌ طويل وثقيل في المكان.
_____________
البنت نست قوتها😭😭😭😭😭
حب جيرون لزوجته يجنننننننن
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: دانا.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 139"