رجعتُ إلى الغرفة، ثمَّ وضعتُ أصيص الماندراغورا عند النافذة المُشرِقة بأشعّة الشمس.
“بّيي… بّيي… بّيي…….”
وكأنَّه لمْ يكن قد أزعجني بصوته قبل قليل، سرعان ما غفا ماندوكي.
كانت أغصانه المنحنية قليلًا تبدو لطيفة، فشرعتُ ألمسها مداعبةً إيّاها، لكنّ النّعاس بدأ يتسلّل إليَّ بدوري.
فمع دفءِ أشعّة الشّمس أغمضت عينَي تلقائيًّا.
“هلْ أنام قليلًا؟”
خمسةُ أيّام مرّت منذ أنْ فارقتُ أبي وجئتُ إلى هُنا.
في تلك المدّة لَمْ آكلْ ولمْ أنَمْ بشكلٍ جيد.
جسدي المُنهك من التّعب الّذي لمْ يزُل تمدّد فوق السّرير.
ثمَّ انزلقتُ ببطءٍ في النّوم.
—
“يبدو أنّها نامَت بالفعل.”
بقي “فايل” يحدِّق بصمتٍ في “لوكمان” الّذي انحنى بتحفّظ.
ثمَّ حرّك بصره يتفقّد ما على المائدة.
كان فايل يحبّ الطّعام البسيط على الرّغم من كثرة ما يَجني من مال.
لكنَّ مائدة هذا المساء كانت عامرة حتّى كادت الأرجل أنْ تنكسر من ثِقَلها. والسبب كان واضحًا.
‘أعددتُ ما قد تُحبّه.’
ذلك لأنَّ “إيلينا” حضرت.
لمْ يكن يهمّ إنْ كانت كبيرة العائلة أو ابنة “فرِيليدِن”.
إنّها طفلة.
لا تزال في الثّامنة.
كانت مُنهكة من التّعب والجوع.
ولذا، فإنَّ أيَّ شخص راشدٍ طبيعيّ سيرغب في رعايتها.
لذلك أمر فايل أيضًا أنْ يُعَدَّ الطّعام مُراعًى فيه شأن إيلينا.
وكان ينوي الجلوس قبالتها ليبحثا سويًّا في أمورٍ لاحقة.
“هلْ أوقظها وأُحضِرها؟ لمْ تأكل اليوم سوى بعض من الحلوى.
أخشى أنْ تكون جائعة.”
الخبير العجوز، كبير الخدم، بدا هو أيضًا قلقًا على الطّفلة.
لذا قال ما لا يقول عادة. فأومأ فايل نافيًا برفق.
“دَعها ترتاح.
لا بد أنها مُرهَقة، وليس من الصّواب إيقاظ الطّفل من نومه لإطعامه.”
لقد ملأت الحلوى بطنها قبل قليل، فلنْ تكون جائعة فورًا.
وما دامت قد اغتسلت وشبعت وارتاحت، فمن الطّبيعي أنْ تغفو.
أزاح فايل الصّحون الّتي تحوي طعامًا يليق بالأطفال جانبًا.
“خُذ الأطعمة وضَعها في… كلا، في غرفتِها.
وأخبِر المناوبين بأنْ يخدموها ويطعموها إذا استيقظت جائعة في الفجر.”
“حسناً.”
“خُذ هذا أيضًا. وهذا، وهذا كذلك.”
بدأت الأطباق تختفي بسرعة من فوق المائدة.
“لوكمان” مع الخادمات كانوا يجمعونها، أمّا فايل فأخذ يُضيف المزيد بنفسه.
‘أبتاه…….’
راح “يوستيان” يُغمض عينيه بأسى وهو يراقب صورة أبيه الغريبة هذه.
‘…إنْ أخذتَ كلَّ شيء، فماذا سيبقى لي؟’
ولمْ يلبث أنْ لمْ يبقَ فوق الطّاولة سوى الخُضرة.
—
فتحتُ عينَي ببطء.
جلستُ وقد شعرتُ بخفّةٍ غامرة في جسدي. ثمَّ نظرتُ إلى الخارج عبر النافذة.
“…لقد حل اللّيل.”
مع أنّي نِمتُ والشّمس ساطعة، لكنّ السّماء باتت مُعتِمة.
كم لبثتُ نائمةً يا تُرى؟ نزلتُ من السّرير وتقدّمتُ نحو ماندوكي.
ربّما كان مُنهكًا مثلي، إذْ لا يزال نائمًا.
لمْ أشأ أنْ أُوقظه، فاكتفيتُ بنثر بعض مسحوق الحياة عليه.
“آه!”
وما إنْ استخدمتُ السّحر حتّى شعرتُ بحرارةٍ حادّة في ذراعي. رفعتُ كمّي فإذا بالذّراع مُحمَرّة.
لَعنة نار الجحيم.
سارعتُ أفتّش في حقيبتي حتّى أخرجتُ عُشبة تُخفّف السّخونة، ودعكتُ بها المكان.
فبدأت الحرارة تهدأ شيئًا فشيئًا وتلاشى الألم.
“هُووف… عليَّ أنْ أُعالِج هذا أوّلًا.”
طريقة العلاج معقّدة، لكنّها ليست مُستحيلة. المشكلة الحقيقة هو المال.
في الجبال حيث كنتُ أعيش كان الحصول على المكوّنات سهلًا، أمّا في الخارج فكلّ شيء بثمن.
صحيح أنّ عمّي “غيوس” أعطاني مالًا، لكنّ عليَّ أنْ أوفِّر.
إذْ إنْ لمْ يقبلوني هنا، فلنْ يكون لي مكانٌ آخر أذهب إليه. لهذا لمْ أشترِ شيئًا حتّى الآن.
غير أنّني بما أنّ لي مأوًى ثابتًا الآن، فيمكنني أنْ أنفق.
“…جَيِّد.”
أومأتُ لنفسي بهدوء، ثمَّ غيّرتُ ثيابي، وأخذتُ كيس النّقود، وفتحتُ الباب.
طَق–
لكنّ الباب ارتطم بشيء فأصدر صوتًا. نظرتُ إلى الأسفل فإذا بصينيّة عليها أطباق كثيرة موضوعة أمام الباب.
“واو……!”
فتحتُ الغطاء فرأيتُ داخلها أطعمةً مُرتَّبة بعناية، كلّها تبدو شهيّة.
لِمَ وُضِعتْ هُنا؟ هلْ أرسلوها لي أنا؟ وبينما كنتُ أُراقبها مُبتلعةً ريقي…
“آه…!”
عاودت الحرارة ذراعي.
عضَضتُ شفتَي أُخفِي تأوّهًا، وأغلقتُ الغطاء.
مؤسف، لكن لا يُمكنني أنْ آكل الآن. عليَّ أنْ أخرج بسرعة قبل أنْ يَفوت الأوان.
تنفّستُ بعمق، ثمَّ هممتُ بالمغادرة.
“…سآخذ واحدة فقط.”
فعدتُ، وأمسكتُ قطعة خبزٍ كبيرة، ومضيتُ في طريقي.
—
كان “إدريك” عائدًا إلى سكنه بعد انتهاء تدريبه.
إجازة قصيرة تمنحها الأكاديميّة كلّ عام.
كان إدريك يستغلّها لزيارة دوقيّة “هايدريك” مع صديقه “يوستيان”، بدل العودة إلى القصر الإمبراطوريّ المُزعج.
في البداية، خشي بعض النّبلاء المهووسين بالسّلطة من التّقارُب مع آل هايدريك.
لكنْ بعد أنْ تجاهل إدريك هراءهم أكثر من مرّة، خَفَتَتْ أصواتهم.
“هااام– أنا لازالت لا أستطيع فتح عيني.
عليَّ أنْ أعود لأنام فورًا…….”
وبما أنّه لمْ يحتج إلى تكلّف هيبة الأمير هنا، تثاءب إدريك بارتياح. كما أنّ فرسان الحراسة المزعجون لمْ يكونوا حوله هذه المرّة.
لذلك كان يتسكّع بخُطى بطيئة نحو غرفته.
“هم؟”
عندها لمح ظلًّا صغيرًا يتسلّق نحو السّور. فاستغرب، وسار خلفه.
اقترب الشّخص الصّغير من قاعدة السّور وأخذ يلتفت حوله.
ومع أنّ الظّلام مُخيّم، غير أنّ بريق عينيه البنفسجيّتين تحت ضوء القمر كان واضحًا.
“ألَيسَتْ تلك…….”
إنّها “إيلينا” الّتي رآها في اللّقاء بعد الظّهر!
“ماذا تفعل هناك؟”
لكنّه صُعِق ممّا جرى تاليًا.
“النّباتات المتسلِّقة……!”
بمجرّد أنْ تمتمتْ إيلينا بكلمات، انبثقتْ أغصانٌ من الأرض. صعدتْ عليها بخفّة وقفزتْ فوق السّور لتختفي خلفه.
بقي إدريك يحدِّق مذهولًا، ثمَّ انفجر ضاحكًا ساخرًا.
“ما الّذي رأيتُه للتو……؟”
وما لبث أنْ صحا من ذهوله صارخًا: “آه!” ثمَّ جرى خلفها مُسرعًا.
—
“هُووف، نجحتُ أخيرًا بالخروج.”
نفضتُ الغبار عن ملابسي وأطلقتُ زفرة ارتياح. كنتُ أريد الخروج من البوّابة، لكنّ الحُرّاس رفضوا.
الدّخول حرّ، أمّا الخروج فليس كذلك؟
وبرّروا أنّه لا يمكن ترك طفلة تخرج وحدها في اللّيل.
ربّما لو ألححتُ قليلًا لفتحوا الباب، لكن بما أنّني لستُ رسميًّا فردًا من العائلة بعد، فقد يُسبّب ذلك مُشكلات.
ما دمتُ لا أزال مُجرّد مرشّحة، فلا يجوز إثارة الضّجيج. لذا اخترتُ تسلّق السّور بدلًا من المشاكسة.
“أوفف… أنه يؤلمني.”
فاللّعنة النّاريّة تتفاعل مع السّحر. فكلّما استخدمتُه، اشتدّ الألم في ذراعي. لكنْ لا بأس، ما إنْ أحصل على الأعشاب حتّى أشفى بسرعة.
“لكن، عجيب. الليل مُضيء للغاية.”
ظننتُ أنّه سيكون مُظلمًا كالسّجن من الخارج، لكنّ الطّرق كانت مُضيئة بشكلٍ غير متوقّع.
فالمتاجر تزيّنت بأحجارٍ مُضيئة تعمل بالسّحر، تُنير المكان كلّه.
شُغِفتُ بالمشهد أُدقِّق في كلّ شيء، فارتطمتُ بأحدهم.
“آه، عفوًا~~!!”
التفتُّ فزعًا، فإذا برجلَين ثَمِلين ينحنِيان ليعتذرا.
لمْ أنطِق بكلمة، فاكتفيا بالابتسام الخفيف، ثمّ مضيا.
أسرعتُ أهزّ رأسي. صحيح أنّ الشّارع جميل، لكن لا يبدو مكانًا آمنًا للبقاء طويلًا.
“عليَّ أنْ أشتري الأعشاب وأعود فورًا.”
لكن يا تُرى، هلْ ما تزال الدّكاكين مفتوحة في هذه السّاعة؟ تملّكني بعض القلق وأنا أسرع الخُطى.
“مرحبًا بكم.”
كان متجر الأعشاب غير بعيدٍ عن وسط البلدة. حَمدتُ نفسي أنّني لاحظتُ مكانه من قبل، وإلّا لتوهّمتُ طويلًا.
في الدّاخل، وجدتُ رجلاً شابًّا يبيع الأعشاب، ومعه شيخ يبدو ثريًّا.
“هم؟ صغيرتي، ماذا تفعلين هنا؟”
“جئتُ لأشتري أعشابًا.”
“أعشاب؟ أأرسلك والداك؟”
“كلا، إنّها لي. ها هي.”
ناولته ورقة دوّنتُ عليها المكوّنات. تفحّصها مليًّا ثمّ نظر إليّ.
“لأيّ غرض تحتاجينها؟”
“لأُحضِّر مرهمًا. ألَا تملكونها؟”
“بلى، موجودة. انتظري قليلًا، بعد أنْ أُنهي خدمة الشّيخ.”
أومأتُ وجلستُ.
ثمَّ أحضر الرّجل شيئًا للشيخ، فابتسم الأخير راضيًا.
“كما طلبتُ تمامًا. شكرًا لك.”
“لا شكرَ. سعدتُ لأنّني وفّرتُها. لكن، لِمَ تحتاجها؟”
“وهلْ ثمّة استخدامٌ آخر لـ ‘غِرمْنُوا’ سوى العلاج؟”
“غِرمْنُوا”؟ رفعتُ بصري إلى الشّيخ، فإذا بابتسامةٍ هادئة تعلو محيّاه.
“على كلّ حال، شكرًا. وسأُكافئك بهذا…….”
“جَدّي!”
أسرعتُ نحوه وأمسكتُ بطرف ثوبه. توقّف وهو يمدّ يده بكيس نقود، ثمّ نظر إليّ.
“هاه؟ ماذا هناك؟”
“هذه ليستْ ‘غِرمْنُوا’.”
“ماذا؟”
اتّسعتْ عيناه دهشةً، بينما كنتُ أتابع بثقة:
“تلك نبتة ‘پودوس آيفي’، من فصيلة العنب. إنّها ليست عشبةً طبيّة. أمّا ‘غِرمْنُوا’ فتنتمي إلى الفصيلة الخيميّة، وهي نبات مختلف تمامًا على الرّغم من التّشابه في الشّكل.”
وبينما كنتُ أُفصّل، بدا الارتباك على وجه البائع، وضيّق الشّيخ عينَيه باهتمام.
“ثمّ إنّ ‘پودوس آيفي’ ليست عشبة، بل نبات يُصفّي الهواء.
أذكُر أنّني في الجبل أخطأتُ غير مرّة في التّمييز بين الفصيلتَين.
كان أبي يلومني ويُؤكّد أنّ تركيب الأعشاب يحتاج دقّة كبيرة.
وكنتُ أغضب وأصرخ أنّني سأترك الأمر كلّه، وألا أقترب من الأعشاب ثانية…….”
وبينما أسردُ حكاياتي، أخذتْ ملامحُ الاثنين تتبدّل تدريجيًّا بشكلٍ مُتناقضٍ ملحوظ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات