نظرتُ إلى يُوستيان وهو يتمتم بكلماتٍ غير مترابطة ثمّ يختفي مرتبكًا، قبل أن أستدير بجسدي.
ثمّ بدأتُ أحفر الأرض بيدي العاريتين. بما أنّ ذلك المزعج قد اختفى، فعليَّ أن أُسرع في صنع الأصيص وأغادر.
“بيبي-!”
كنتُ أنقل التّراب إلى الأصيص الذي أعددتُه سلفًا، حين اقترب ماندوكي الذي كان مختبئًا بين الأعشاب، وراح يطلق صوته.
ابتسمتُ بخفّة وأشرتُ إلى الأصيص. استقرّ ماندوكي في وسطه، ثمّ مدّ ذراعيه وساقيه إلى الخارج. فملأتُ الفراغ فيما بينها بالتّراب النّقي.
“بيي-! بيي-!”
مسحتُ برفقٍ على رأس ماندوكي الذي كان يصرخ بفرح.
في تلك اللّحظة، ومع صوت أوراقٍ تتمايل، اقترب شخصٌ إلى جانبي، ومدّ ذراعه فجأة.
“ذلك ماندراغورا، صحيح؟ لقد رأيتُ صورته في كتاب من قبل.
إنّه يشبه الرّسم تمامًا.”
كان ذلك إدريك.
بين خصلات شعره الأسود المتمايلة، برزت عيناه الزرقاوان لامعتين.
لقد شعرتُ من قبل أيضًا أنّه فتى يحمل جوًّا محايدًا بين الذّكورة والأنوثة.
مظهره لا يُوحي بذلك، لكن ربّما لون عينيه هو السّبب. إنّه غريب للغاية.
أومأتُ برأسي من غير ردّ، فاكتفى إدريك بابتسامة. ثمّ مدّ يده وأشار بأصبعه إلى التّراب الذي حفرتُه بجانب الأصيص، وبدأ ينقل التّراب إليه.
“أذن هكذا يكون؟”
“سوف تتسخ يداكَ!
“لا بأس. يكفي أن أمسحها لاحقًا.
لكن، إلى أيّ حدّ يجب أن أملأه؟ هل أملؤه حتّى الحافّة؟”
“لا… إلى هنا فقط.”
أشرتُ بخطّ أصابعي الملطّخة بالتّراب على جدار الأصيص.
فأومأ إدريك سريعًا، وأخذ ينقل المزيد من التّراب. راقبتُه من طرف عيني ثمّ أملتُ رأسي بتفكير.
‘أترى… هل هذا الرّجل ليس من عائلة هايدريك؟’
يبدو أنّه من النّبلاء، لكن هل هو قريب؟ لقد سمعتُ أنّ عيون هايدريك البنفسجيّة سِمة للعائلة، لكنّها ليست مُطلقة. فكلّما ابتعد النّسب، قد لا تظهر.
‘هُمم…….’
لم أعرف حقًّا كيف يجب أن أتعامل مع إدريك. مع يُوستيان الأمر سهل، فهو من العائلة. لكن مع غريب من الخارج؟ لم أستطع أن أكون على الطّبيعة.
توك توك-
وأنا في خضمّ هذه الأفكار، كان الأصيص قد امتلأ بالتّراب. رتّبتُ سطحه بيدي، ثمّ وقفتُ. وكذلك فعل إدريك.
“شكرًا على المساعدة.”
“لا شكر على واجب.
إنّه مجرّد ردّ جميل لسماع قصّة ممتعة.”
“قصّة ممتعة؟”
أملتُ رأسي متسائلة، بينما كان إدريك يُحرّك وجهه بشكلٍ عموديّ.
هووووم-
في تلك الأثناء هبّت ريح. مددتُ يدي لأمسك بشعري قبل أن يتشابك بفوضى.
فوووق-
لكن فجأة هبط شيء على رأسي. رفعتُ نظري قليلًا، فإذا بالمعطف الذي كان يرتديه إدريك قد وُضع فوق شعري.
“لقد اتّسخت يداك بالتّراب. لو أمسكتِ بشعرك الآن لأفسدتِه.”
“لا بأس عندي.”
فأنا اعتدتُ أن يتّسخ شعري عندما كنتُ أخرج لأجمع الأعشاب الطّبيّة.
بل في صغري، كان شعري طويلًا جدًّا لدرجة أنّه كان يجرّ على الأرض إذا جلستُ. ولمّا لم يَتحمّل الأمر، قصّه العم غيُوس بنفسه.
“ومع ذلك. شعركِ جميل، وسيكون مؤسفًا أن يفسده التّراب.”
قال إدريك ذلك بصوتٍ هادئٍ لا يُناسب عُمره، وابتسم بخفّة. ثمّ عصفت الرّيح مجدّدًا، فأطارت شعره الأسود.
هووووم-
صوت الرّيح يمرّ من بين طيّات المعطف.
شَعرٌ أسود يتطاير.
وعينان زرقاوان تهتزّان مع الضوء.
“بحيرة أزكاشا.”
“هاه؟”
سأل إدريك بابتسامة، وهو يُعيد ترتيب شعره.
“تشبهين بحيرة أزكاشا.”
“…ماذا؟ أنا؟”
أملت برأسي.
كانت السّوادات التي تصنعها أغصان الصفصاف مع الرّيح، واللون الأزرق الصافي مثل البحيرة، تُماثل تمامًا المنظر خلف بيتي القديم.
“عيناكِ جميلتان. كثيرًا كثيرًا.”
“…….”
“بيبي!”
“آه، صحيح! نسيتُ أن أطعمك. إذن، أراك لاحقًا يا إدي!”
انحنيتُ قليلًا، ثمّ استدرتُ.
أمسكتُ بالأصيص وركضتُ مسرعة. ولم أكتشف إلّا بعد أن وصلتُ إلى الغرفة.
“آه! المعطف!”
لقد جئتُ إلى هنا وأنا أضع معطف إدريك على رأسي.
—
ظلّ إدريك وحده، يحدّق في الاتّجاه الذي اختفت فيه إلِينيا. مشاعر متضاربة راحت تتماوج في عينيه.
‘تشبهين بحيرة أزكاشا.’
‘عيناكِ جميلة للغاية’
مع نسيم الخريف العليل، بدا صوت إلِينيا كأنّه يتردّد في أذنه.
‘إنَّ عيني السّموّ دائمًا باردتان.’
‘ما زلتَ صغيرًا ومع ذلك لا يُمكن النّظر في عينيك.’
‘إدريك… ألا ترى أنّه أفضل أن تنظر للنّاس بوداعة أكثر؟ الجميع يخاف منك.’
تذكّر الأصوات التي طالما همست من حوله. لقد اعتاد أن يراه الآخرون بعين الخوف والرهبة.
هو الابن الأكبر المولود بين الإمبراطور والإمبراطورة.
ومن بعده وُلدت شقيقاتٌ عديدات.
ثمّ العام الماضي، أنجبت إحدى المحظيّات ابنًا بدأ بالكاد يتعلّم المشي.
لهذا، وإنْ لم يُعلن بعدُ رسميًّا وليًّا للعهد، فإنّ الجميع يُعامله على أنّه كذلك. وبذلك تجمّع حوله الساسة وأصحاب النفوذ.
منهم من جاء بإخلاص، ومنهم من جاء بخبث. فصار الحذر طبعه. ولذلك أصبح نظره وحديثه دائمًا قاسيًا.
لكن… أن يُقال له إنّ عينيه جميلتان؟
“…بحيرة، تقول؟”
“ماذا قلتَ؟”
“……?!”
كان يُتمتم بصوتٍ منخفض حين اقترب يُوستيان فجأة. فارتبك إدريك وقفز من مكانه.
“أفزعتني! لِمَ تُفاجئني هكذا؟”
“لا، لا شيء.”
هزّ إدريك رأسه متظاهرًا باللامبالاة، وقد ارتسمت ابتسامة محرجة على وجهه، ثمّ نظر بسرعة إلى يُوستيان ليتأكّد إن كان قد سمع شيئًا.
‘يبدو أنّه لم يسمع.’
تنفّس إدريك بارتياح.
“على كلّ حال، ماذا قال الدوق؟هل أنكره؟”
“…بل أكّده.”
“أكّده؟”
“أجل.
ليست مجرّد كذبة، بل قال إنّها ابنة فرِلدين.
أنها ابنته! “
“…مَن؟”
فرِلدين؟ ذاك الساحر العظيم الذي اختفى قبل نصف قرن؟ أحد ثلاثة فقط في تاريخ الإمبراطوريّة؟ أن تعود ابنته الآن… بدا وجه إدريك غريبًا وهو يسمع ذلك.
“هاا- أيًّا يكن. لقد تعقّد النّسب تمامًا.
يكفي أنّ تلك الطّفلة صارت جدّتي الكبرى! والأسوأ أنّها بالنسبة لأبي تُعتبر جدّته!”
“ماذا؟! هه-!”
“يا هذا! ليس مضحكًا!”
راح إدريك يتخيّل المشهد: إلِينيا الصغيرة تقف أمام دوق هايدريك الجبّار…
‘جدّتي، هل شعرتِ بضيق؟’
فتجيبه بابتسامة متكلّفة:
‘إهم- نعم يا بُني!’
مَن يصدّق أنّ سيد هايدريك المهيب، الذي يشتهر بالقسوة، ينحني نصفين أمام طفلة؟! منظرٌ يستحقّ أن يدفع الإمبراطور ذهب العالم كلّه ليشهده.
“هههه… يا المتعة.”
“أيّ متعة؟ أأنا أضحك حين أُضطرّ لاحترام جدّتي الأصغر منّي سنًّا؟”
“وما الضّير؟ إنّها لطيفة.”
“تقول لطيفة؟ هل أصابكَ خلل؟ تلك الشيطانة التي ابتسمتْ بشرّ وهي تُهاجمني بالسّيف؟ وتقول لطيفة؟!”
“شيطانة، تقول…”
نعم، ربّما بدا الأمر كذلك. لكن ذلك لأنّه هو نفسه أشهر سيفه أوّلًا.
“لكن أنتَ من بدأ بالتّهديد بالسّيف، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
“هل اعتذرتَ لها؟”
“اعتذار؟”
“من ردّ فعلك أفهم أنّك لم تفعل.”
“…….”
أدرك يُوستيان خطأه وفتح فمه بتردّد. أمّا إدريك فاكتفى بابتسامة جانبيّة وهو يُحرّك عينيه.
رأى الحديقة وقد عادت مرتّبة تمامًا، كأن لم تُنبش قط. لا بدّ أنّها رتّبتها بعد أن ملأت الأصيص.
طفلة في الثّامنة… معظمهم كانوا سيتركون المكان فوضى. لكنّها ليست كسائر الأطفال.
“الكبار أنفسهم يرتعبون إذا وُجّهت إليهم سيوف. فما بالك بطفلة في الثّامنة؟”
“…….”
“أحمد ربك أنّها لم تبكِ.
ثمّ كم مرّة قلتُ لك أن تُقلع عن عادة سحب السّيف عند أتفه الأمور؟ تعلّم السّيف أمر حسن، لكن ليس لتشهره كلّ حين.”
ضغط يُوستيان على شفتيه، ثمّ زفر أخيرًا.
“أنت محقّ. عليَّ أن أُغيّر ذلك. وأعتذر أيضًا. بالفعل لم أعتذر بعد أن خوّفتها بلا سبب. سأفعل.”
“افعل. سواء الآن أو حين تراها لاحقًا. ستلتقيان قريبًا على أيّ حال.”
“…فهمت.”
اقترب إدريك وربّت بخفّة على خدّ يُوستيان، وهو يبتسم.
“فلنذهب.”
“نعم…….”
سار يُوستيان بجوار إدريك.
“بالمناسبة يا يُوستيان.”
“ماذا؟”
“هل تعرف أين تقع بحيرة أزكاشا؟”
“لا أعرف. هل هي مكان مهمّ؟”
“لا. ليست مهمّة… لكن…….”
سكت إدريك، وهبّت نسمةٌ باردة. رفع يُوستيان يده يعدّل شعره المتطاير، ثمّ ابتسم بابتسامة صافية تحت أشعّة الشّمس.
“أشعر أنّها ستُصبح مهمّة قريبًا، لذا أريد أن أعرفها.”
وبدا وجهه المشرق أكثر إشراقًا تحت الضّوء.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات