في وقتٍ متأخِّرٍ من بعدِ الظُّهر.
ابنُ هايدريك الأكبر، الوريثُ الأوّل لعائلة الدوق، وابنُ فايل البِكر، عادَ إلى القَصر قبلَ يومٍ من موعده.
كانَ يوستيان قد نزلَ من العربة، عائدًا إلى غرفته، حين وقعَ ذلك.
“هُم؟”
أمامَه كانتْ فتاةٌ لم يسبق لهُ أنْ رآها قطّ، تمشي وهي تنفخُ خدّيها حتى امتلآ تمامًا.
شَعرٌ فضّيّ يصلُ إلى خصرها، وعينان بَنَفْسَجيّتان تلمعان بخفوت.
وفوق ذلك، كانتْ قد علّقت على كتفها عشبًا لا يُعرَف أهوَ للزينة أم لشيءٍ آخر، مما جعل منظرها يلفت الانتباه رغمًا عنه.
“تايلور؟”
“نَعم، يا سيّدي.”
“مَن هذِه؟ لونُ عينيها يوحي أنّها مِن أقاربنا.”
أشار يوستيان بذقنه نحو تلك الفتاة الصغيرة التي تمشي أمامهم.
ففي قصرِ هايدريك نادرًا ما يدخل الأطفال، إلّا إذا كانوا من أبناء أصدقاء والده المقرّبين أو مِن أفراد العائلة.
ثمّ إنّه كان يحفظُ أسماءَ وأعمارَ ووجوهَ أقرانه جميعًا عن ظهر قلب.
لكن، لم يكن بين تلك المعلومات أيّ فتاةٍ ذات شعرٍ فضّيّ وعينين بَنَفْسَجيّتين.
فما بالك بفتاةٍ تُشبهُ الهامستر، تمشي وفمها مليءٌ بالطعام تمضغه في انتفاخ.
“أنا أيضًا لا أعرفُ بالضبط.”
“لا تعرف؟”
“نَعم. لعلّها ابنةُ أحد الضيوف الذين جاؤوا لمقابلة سيّدنا، أو من أحد الفروع.
كما تعلم، القصرُ كبيرٌ جدًّا، وأخبارُ الجناحِ المركزيّ تصلُ إلى هُنا ببطءٍ قليل.”
ذلك كلامٌ منطقيّ.
فأومأ يوستيان برأسه متقبّلًا التفسير، ثم أعاد بصره، لكنّ الفتاة كانت قد اختفت، متّجهة نحو الجهة الغربيّة من القصر.
الغَرب إذًا… يبدو أنّها من أحد الفروع.
فالجهة الغربيّة مخصّصة عادةً لإقامة الضيوف أو فروع العائلة بشكلٍ مؤقّت.
عندها صرف يوستيان اهتمامه وأدار جسده.
“أين أبي؟”
“إنّه متواجد في قاعة الشَّمس الآن.”
“ما زال منشغلًا بسبب أزمة الغذاء؟”
“أنا مُجرّد خادمٍ بسيط، فكيفَ أعلمُ يقينًا؟ لكنّي سمعتُ أنّه مِن خلال التجارة مع قوافل مملكة ليفدون، تمّ العثور على حلٍّ جزئيّ لتلك الأزمة.”
أومأ يوستيان بخفوت.
لقد مرّت ثلاثُ سنواتٍ منذ بدأ الجفاف.
كانَ في التاسعة حينها، والآن مضت ثلاثة أعوام.
خلافًا لما كانوا يظنّون أنّه قصير، طالَ الأمرُ كثيرًا، وأضحى كابوسًا يثقل كاهلَ أمراء الجنوب.
“لوكمان، أيّها الخادم الكبير.”
وبينما كان غارقًا في أفكاره مسرعًا نحو قاعة الشمس، وقع نظره على لوكمان يسير من الجهة المقابلة.
ابتسم يوستيان واقترب.
توقّف أمام النافذة حيثُ تتسلّل أشعّة الشمس، فتلألأت بشرتُه بشفافيّة، وتألّق شعره الأشقرُ وعيناه الذهبيّتان.
“لقد مضى زمنٌ طويل، يا سيّدي. لقد كبرتُ أكثر، مباركٌ لكِ.”
“شكرًا لك.
لكن، هل أبي في الداخل؟”
“إنّه يلتقي الآن بعضَ رجال مجلس الشيوخ.
إن لم يكن الأمرُ عاجلًا، فالأفضل زيارتُه بعدَ العَشاء.”
“يبدو أنّ أزمة الغذاء تأخذُ كلَّ وقته.”
تنفّس يوستيان تنهيدةً صغيرة، وأطبق شفتيه.
لو كنتُ أُجيد سِحرَ الطبيعة، لخفّفتُ عن أبي بعض همومه…
لكنّ ذلك النوع من السحر لا يتعلّم بالمعادلات وحدها، بل يحتاجُ إلى حسّ تواصُلٍ خاصّ مع الطبيعة.
والذين يفتقدونه، لن تنفعهم أرقى الأحجار السحريّة ولا أقوى التعاويذ.
ويوستيان كان شبهَ محرومٍ من ذلك الحسّ.
“على أيّ حال، ما داموا وجدوا حلًّا جزئيًّا، فقد نسمع أخبارًا طيّبة قريبًا.”
“ذلك مطمئن.”
“آه، كنتُ سأحدّثك بشأن—”
“سيّدي!!”
رفع لوكمان بصره فجأةً إلى الوراء.
كانَ فتىً من أتباع الفرسان يركض نحوهم.
“القائد هيكتور يطلبُكَ على الفور.”
“آه، صحيح! لم ألتقِ المعلّم بعد.
يا خادمَنا، ماذا كنتَ ستقول؟”
“لا بأس، اذهب أولًا.
آه، بالمناسبة… لم أرَ صاحبَ السموّ الأمير.”
“إدريك نائمٌ في العُلّيّة.
أنتَ تعرف أنّه يحبُّ ذاك المكان.”
“آه، صحيح.
نسيتُ ذلك.
حسنًا، سنُرسل له الضيافة لاحقًا إذًا.”
“نعم قم بهذا فهو يعاني الأرقَ هذه الأيّام ولا ينامُ جيّدًا. إذًا، إلى اللقاء.”
انحنى يوستيان باحترام، ثم غادر مسرعًا خلف الفتى.
راقبه لوكمان بعينٍ مملوءة بالاعتزاز والمودّة.
“لكن، هل سيلتقي بابنةِ فريلدين يا ترى؟”
إن كانت في الجناح الغربيّ، فلن تكون الفرص كثيرة. وإنْ حصل، فلا مانع من اللقاء.
غير أنّ الخوف الأكبر أن يُرتكب خطأ في حضرة تلك الفتاة.
فلو صحّ أنّها بالفعل ابنةُ فريلدين، فذلك يعني أنّها الجدّةُ الكبرى ليوستيان نفسه!
“…على كلّ حال، يومٌ أو يومان لن يضرّا.”
ابتسم لوكمان ابتسامةً صغيرة وهزّ رأسه، صارفًا اهتمامه.
—
“لقد أكثرتُ من الطعام…”
هذه أوّلُ مرّة أعرفُ أنّ كثرة الحلوى تجعلُ المعدةَ مثقلة.
وأنا في طريقي إلى الغرفة، أعطتني الخادمات بعضَ الحلويات، فأخذتُ أملأ فمي بها حتى كادَ ينفجر.
ولأنّهنَّ صِحنَ بأنّ منظري لطيف، رفعتُ كتفيّ مزهوّة، وزدتُ أكثر حتى امتلأ فمي.
“لم أكن أعلمُ أنّي أحبُّ الحلوى إلى هذا الحدّ.”
من قبلُ، لم أتذوّق من الحلوى إلّا ثمارَ العنّاب أو قليلًا من العسل الخام المستخرَج من الزهور.
لكنَّ الحلويات التي ذُقتُها هنا كانت أطيب بما لا يُقاس؛ حلوةٌ طرية، تجعلُ تلك القديمة بلا طَعم.
بل وددتُ أن آكل منها كلَّ يوم.
“بيبي—!”
نظرتُ إلى ماندوكي وهو يهبط من كتفي ليستلقي على السرير. ابتسمتُ.
“بيبيبي—!”
ضحكتُ وأنا أداعبُ بطنه، فراح يُطلقُ أصواتًا مرحة. ثم وضعتُ ذقني على حافة السرير أتأمّله.
“هل سأعيش هنا حقًّا من الآن فصاعدًا؟”
حين طلبوا منّي الرحيل من قبل، لم أعرف إلى أين سأذهب، وظللتُ قلقة. لكن، حين قالوا إنّني سأبقى، شعرتُ بالفرح والراحة.
غير أنّ سماعَ أنّ حياتي ستستمرُّ هنا إلى الأبد جعلني أحنُّ إلى البيت الذي كنتُ أستيقظ وأنام فيه إلى جوار أبي.
“يا ماندوكي، هل تظنّ أنّ أبي بخير؟”
كان أبي ساحرًا عظيمًا. لم أفهم الكثير، لكنّ عمّي غيوس قال إنّه أحد كبار السحرة في الإمبراطوريّة.
ومَن كان بمثل قوّته، لا يمكن أن يكون قد مات بسهولة… ومع ذلك، صورةُ بيتنا وهو يلتهمهُ اللهيب، وجنودٍ يقتحمونه، ما زالت راسخةً أمام عينيّ.
“أفتقده…”
ارتجفَت شفتاي بحزنٍ وأنا أُخفي دموعي.
عليّ أن أجد لنفسي مكانًا هنا سريعًا، لأُعالج جروحي، وأبحث عن أبي… ثمّ أنتقمُ من أولئك الأشرار!
“بي—”
اقترب منّي ماندوكي ولفّ رأسه حولي، يحتضنني بصمت.
“هل تُواسيني؟”
“بيبي!”
“شكرًا لك.”
ابتسمتُ وأنا أمدّ أصابعي لأداعبه، لكن تذكّرتُ فجأة أنّي أُفرط في استخدام السحر. فوقفت.
“سأدعك تنام الليلة في إناء زرع، كي ترتاح أكثر.
ما رأيك؟”
“بيبي!”
ضحكتُ لرؤيته يقفز بفرح، ثمّ بدأتُ أفتّش في حقيبتي، فإذا بي أكتشف أنّه ليس عندي إناء.
“لو طلبتُ واحدًا منهم، هل يُعطونني؟”
الطينُ متوفّر في الخارج، لكنَّ ماندوكي يحتاج نوعًا خاصًّا منه. فكّرتُ قليلًا، ثم خرجتُ.
وفي الممرّ، أمسكتُ بيدِ خادمةٍ تبدو كبيرةً في السنّ قليلًا.
“هُم؟ ما الأمرُ يا صغيرتي؟”
“هل عندكِ إناءُ زرع؟”
“إناءُ زرع؟”
أومأتُ، فابتسمت الخادمة بعدما بدت متفاجئة.
“انتظري قليلًا.”
غابت، ثم عادت تحملُ إناءً.
“ها هو ذا. هل تحتاجين إلى ترابٍ أيضًا؟”
“كلا، أنا سأجمعه بنفسي.”
انحنيتُ شاكرةً، ثم أسرعتُ بعيدًا. سمعتُ ضحكةً خلفي، لكنّي تجاهلتها، وخرجتُ إلى الحديقة الغربيّة.
كانت الأحواض مليئةً بالزهور والأشجار. أردتُ أن آخذ قليلًا من التراب فحسب.
لو طلبتُ التراب منهم، ما نفع…
فماندوكي يحتاجُ إلى ترابٍ مُطهَّر، خالٍ من الشوائب. وهو ترابٌ نادر، لذا كان نوعُه على وشك الانقراض.
“ها قد وجدته!”
ركعتُ أمامَ حوضٍ، ولمستُ التراب بكفّي. كان رطبًا مليئًا بالحياة، ممتازًا. لكنّه غيرُ كافٍ.
أطبقتُ يدي مبتسمة، وأطلقتُ هالةً خضراء غامقة انتشرت في راحتي، ورفعتها لأُطهّر التراب.
“ماذا تفعَلين بحقّ السماء؟”
لكن، قبل أن يكتمل فعلي، دوّى خلفي صوتٌ بارد، وهبط سيفٌ لامعٌ على كتفي.
“أتجرئين على إلقاء لَعنَةٍ على حديقة قصر هايدريك؟”
لعنة؟
إنّها طاقةُ تطهير، لا لَعنَة!
“أظهري وجهكِ، أيتها الساحرة الدنيئة!”
…ساحرة؟!
احمرّ وجهي من الغضب وأنا ألتفتُ نحوه.
كان هناك فتىً ذو عينين ذهبيّتين، يحدّق فيّ ببرود.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 5"