في مجتمعِ النُّبلاءِ كان أهمُّ ما يَقوم عليه هو الشَّرفُ والأدبُ وما إلى ذلك من أشياءٍ رفيعة، غير أنّ ما يَحكم العائلة من الدّاخل كان مختلفًا.
‘شَجَرةُ العائلة.’
أي إنّ معرفةَ مَن والداي، ومَن والدا والداي، كان يُعَدُّ عنصرًا جوهريًّا في إثبات جُذورِ العائلة.
وتجاهُلُ ذلك لا يعني إلّا إنكارَ المرءِ لأُصولِه.
وكان أثرُ هذا عظيمًا إلى درجةِ أنّ فارقَ ثلاثين عامًا على الأقل بينه وبين طفلةٍ صغيرة أمامه، لم يكن كافيًا لتخطِّي تلك الفجوة.
‘…تَبًّا.’
عَضَّ فايل شفتَه من شِدّة الارتباك.
فقد نسيَ جوهرَ الأمر حين بلغه خبرُ عودةِ نَسْلِ فريلدين.
وهو موقعُها في شَجَرةِ العائلة.
أيعقل أنّ تلك الطفلةَ الصغيرة هي جَدّتُه الكبرى؟
فأمُّه الحيّة، دَوقةُ الجيلِ السّابق، كانت سيّدةَ العائلة حتّى الآن، لكن الأمرَ انقلبَ رأسًا على عقب في لحظة.
بل إنّ جميعَ العائلات ذاتِ الصِّلةِ بالنَّسَب، خارج عائلة هايديرك نفسها، وُضِعت تحت قدَمَي تلك الطفلة.
“هيهي… جَدّةٌ إذن.
آه! على ذِكرِ ذلك، ماذا قلتَ قبل قليل؟ قلتَ إنّ طريقتي في التعامل مع كبار العائلة فوضويّة، أليس كذلك؟”
اللعنة!
لقد تذكّرت. لو كان غيرُها من أطفالٍ في الثامنة لما عَلقَ بذهنِهم شيء، ولَما أدركوا طبيعةَ العلاقة أصلًا.
لكنّ ابنةَ فريلدين كانت ذكيّة، تزعمُ أنّ عمرَها العقليّ أرفعُ من سِنِّها.
فهي تدركُ علاقتَهما وتَحسبها تمامًا.
انظر إلى ابتسامتها تلك.
“يا حفيدي،
طريقتُك في التعامل مع جدّتِك ليست لطيفةً ومهذبة، أليس كذلك؟”
يا لها من ملامحَ مبتهجة على نحوٍ يثيرُ الغيظ.
“…يبدو أنّ الكلامَ موجَّهٌ إليّ حقًّا.”
“همم، هكذا إذن؟”
“أخشى أن أكونَ أثقلتُ على خاطرِك بكلامي، فأرجو أنْ تغفري لِي جهلي وحماقتي.”
كان أمرًا محسومًا أنّ هذه الطفلةَ هي ابنةُ فريلدين. فالطاقةُ الطّبيعيّة الخفيفة التي احتواها الخطابُ لا يُمكن أنْ تَنبعثَ إلّا من سُلالتِهم.
وكان خَتمُ فريلدين محفورًا فيه بالسِّحر، وهو تَوقيعٌ لا يَقدرُ أحدٌ على تقليده.
ولو أنّها أظهرت الخطابَ من البداية، لما ثارت فيه أدنى شبهة.
تنفَّس فايل بحسرة وقد عضّ لسانَه نادمًا.
“هيهي… كنتُ أودّ إطالتَها، لكنّي سأعفو عنك.”
بدَت ابتسامةُ إيلينا بالغةَ الإغاظة.
فكبح فايل رغبتَه في أنْ يَطرقَ جبينَها اللامع بيده، وقال بوقار:
“أشكركِ. إذن، جَدّتِي الصُّغري… كُح!”
وبينما كان يُصلحُ نَفَسَه من حَرَج اللقب، نظرت إليه إيلينا بفضول وأومأت برأسها.
“أُحبُّ هذه الأسماء! أنا في الثامنة، وفجأةً يُنادونني جَدّة، وهذا غريب.”
“…فهمت.
إنّ كونكِ ابنةَ فريلدين يُثبته الخطاب والخَتم، غير أنّ مجلس الشيوخ لَمْ يُقِرّ الأمر بعد.
سينتهي كلُّ شيءٍ بسلام، لكن حتى ذلك الحين فأنتِ مرشّحةٌ فحسب.
ولنا ما يجبُ القيامُ به حتّى يَكتملَ ذلك.”
“وما هو؟”
“أوّلًا: لِمَ جئتِ إلى هنا. ثانيًا: ماذا جرى. ثالثًا: أين فريلدين.
هذه هي الخُلاصة.”
مسح فايل ذقنَه، ونظرَ إليها بعينٍ أكثرَ هدوءًا وقد اعتاد أسلوبَ الاحترام.
فلا شكّ أنّها ابنةُ فريلدين.
والسُّؤالُ الباقي هو: لِمَ عادت إلى هايديرك؟
فقد غادر فريلدين على أثر حادثٍ مُشين.
ولابدّ أنّ في صدره ضغينةً تجاه العائلة.
ومع ذلك أرسل ابنته إليهم… فلا بدّ من سبب.
“هل لي أن أسألكِ عن مَصيرِ فريلدين؟”
لَزِمت إيلينا الصمتَ لحظة، ثمّ تكلّمت ببطء:
“أبي أخذه الأشرار.”
مع أنّها كلمةٌ ثقيلة على فمِ طفلةٍ في الثامنة، إلّا أنّ نظراتِها الثابتة كانت صافية.
“لقد هاجَمونا.”
—
كان ذاك في بيتنا الوادع وسط الغابة.
هنالك كنتُ أتلقّى السِّحر على يدي أبي.
نأكل ممّا زرعَ، ونجري تجاربَ بالأعشاب، وأحيانًا ننزلُ إلى قريةِ رامو لبيع ما لدينا.
كنتُ أتساءل أحيانًا: لِمَ نعيش بعيدًا في الغابة؟ ومع ذلك لم يكن في حياتنا نقص.
على الأقل حتّى مساءٍ قبل خمسةِ أيّام.
“إيلينا!”
في منتصف الليل، وقد غفوتُ بعد تحيّةِ السّلام، اندفع أبي إلى الغرفة، يضُمّني بذِراعَيه على عَجَل.
وكان جسدُه قد أثخنتْه الجراح. فأخذ يُهدّئ روعي ويربّت عليّ، ثمّ قال بهدوء:
“ثمّة أشرارٌ بالخارج.
علينا أن نهرب.”
“أشرار؟”
“نعم. حاولتُ التصرّف وحدي، لكن عددَهم كبير.”
بووم–!
فجأةً، ارتجَّ البيتُ بانفجار، وشبَّ اللهيبُ على جدار. تصدّى أبي للحرارة بصدره العاري، وبسمَ لي وسط الدخان.
“تعرفين العمَّ كيوس، العشّاب؟ اذهبي إلى بيته في رامو.
سيعطيكِ حقيبةً وخاتمًا وأشياء أخرى تركتُها عنده.”
“أبي… أتريدني أن أخرج وحدي؟”
“…….”
أمسكتُ بثوبِه من شدّةِ الرهبة.
لم أجرؤ قطّ أنْ أبرح الغابة وحدي.
وكان العالَمُ خارجها مرعبًا في نظري.
فنظر إليّ طويلًا، ثمّ ضمّني مرّةً أخرى.
“آسف يا إيلينا.
في الحقيبة كتبتُ لكِ مكانًا تلجئين إليه.
اذهبي إليه أوّلًا، وسألحقُ بكِ قريبًا.”
“أبي! لا! لا أريد!!”
“يا ابنتي…”
مدَّ يدَه يمسحُ دموعي، وفي اللحظة نفسِها تدفّقت عبر النافذة كُرومٌ خضراء التفّت حول جسدي.
“أبي!! أبي!!!”
قاومتُ بكلّ ما استطعت، لكنّي عجزت عن كسر قُوّتها.
آخر ما رأيتُه هو أبي يبتسم لي، والبيتُ يحترق، وعشراتُ الرجال يندفعون إلى الداخل.
“أبييي!!!”
وكان ذاك آخر مشهدٍ بَقِيَ في ذاكرتي.
—
“هجومٌ إذن.”
تمتمَ فايل وهو يخفض بصرَه. ثمّ رفعَه بثبات.
“هل أبصرتِ المهاجمين؟”
“كان الظلامُ حالكًا، فلم أرَ وجوهَهم.
وحتى لو رأيتُها، فكيف لي أنْ أحفظ وجوهَ العشرات؟”
كم وددتُ لو عرفتُ مَن هم.
فعضَضتُ شفتَي مسترجعةً المشهد، فتذكّرت فجأةً الرّايةَ فوق بيتنا.
“أفعًى تلتفّ على سيف…”
“أفعًى؟”
“نعم. رأيتُ رايةً مرسومًا عليها أفعًى ملتفًّا حول سيف.”
“هذا…”
“هل تعرف ما معناها؟”
سألتُ برجاء، فزمّ فايل حاجبَيه ثمّ هزّ رأسه.
“لا أعلم. كُثُرٌ هي الرّايات، ولا يُمكن حفظُها جميعًا. لكن لا يبدو أنّها تعودُ إلى جماعةٍ كُبرى من عائلات الإمبراطوريّة.”
“…الحمدُ لله إذن.”
زفَرتُ بارتياح، فأزاح شعرَه وأجاب:
“الأفضلُ أن تَستريحي الآن. لا بُدّ أنّ السفرَ أرهقكِ. سنهيّئ لكِ ما تحتاجين لتَنعمِي بالراحة.”
“شكرًا لك.”
وقفتُ وأومأتُ له برأسي.
“كُح. لستِ مضطرّةً لانحناءِ رأسكِ.
فأنتِ سيّدةُ هذه العائلة.”
“لكنّك قلتَ إنّي ما زلتُ مجرد مرشّحة.
حتّى أُقرّ، سأفعل هذا.”
ابتسمتُ، فأجاب فايل مبتسمًا بدَوره:
“حسنًا. إذن، إلى اللّقاء.”
ثمّ غادرتُ.
—
حين خيّم الصّمتُ في قاعة الشّمس، انفتح البابُ ثانيةً، ودخلَ الخادمُ لوكمان حاملًا إبريقَ شايٍ جديدًا.
“هل انتهت المحادثةُ على خير؟”
“همم.”
“وهل تظنّ أنّها حقًّا ابنةُ فريلدين؟”
“هكذا يَبدو.”
أخرج فايل الخطابَ من جيبه، وأطرقَ بعينيه. فلقد زعمَ أكثرُ من مئةٍ أنّهم من نسل فريلدين، ولم يجلب أحدٌ منهم خطابًا يحمل توقيعَه السِّحري.
“إنْ لم يكن هذا التوقيعُ مُزيَّفًا، فهي بلا شكّ ابنتُه.”
“فهل نبلّغ مجلس الشيوخ؟”
“لابدّ من ذلك.
لا يزال بين الشيوخ مَن رأى فريلدين بنفسه، وسيتولَّون التحقّق الأخير. لكن ثمّة ما يُثير قلقي.”
إنّه أولئك الّذين هاجموا فريلدين، أصحابُ راية الأفعًى.
وقد قال فايل إنّه لا يعرف، لكنّه لم يكن بلا ظنون. فالأفعًى كان شعارَ طائفةِ فُوريوس المتعصّبين، الّذين أُبيدوا قبل أربعين عامًا.
‘أيعقل أنّهم عادوا أحياء؟’
وإن عادوا، فلماذا يستهدفون فريلدين؟
لم تتّضح الإجابة، غير أنّ فايل شعر أنّ عودة إيلينا تحمل معها إعصارًا.
لكنّها تبقى ابنةَ فريلدين.
وإنْ أُقرّ أمرُها، فهي سيّدةُ العائلة.
‘…رغم أنّها في الثامنة.’
مرّر يده في شعره بتنهيدة.
أنْ يَنحني لرأسِ طفلةٍ في الثامنة ويناديها “جدّتِي”، أيُعقل هذا؟
“أهذا حُسنُ بَرٍّ أم تربيةُ أطفال؟”
ولم يتمالك نفسَه من الضحك.
ثمّ قال: “على أيّ حال، ما بك؟ ألكَ خبر؟”
“نعم. لقد عاد السيّد تِيان للتوّ.”
“تيان؟ أَلَمْ يكن من المقرَّر أنْ يعود غدًا؟”
“لقد تقدّم موعدُه.”
جلس فايل متأمّلًا كلامَ لوكمان.
وخيّم على وجهه قَلقٌ خفيّ.
“…أتمنى ان لا تحدث أي كارثة.”
لكنّ الواقع كان يتشكّل أمامه.
“مَن تكون تلك الفتاة؟”
لقد بدأ القلقُ يصيرُ حقيقة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 4"