أظهرت إيلينا راحتها وهي تهزّ رأسها نفيًا.
“أقول الحقيقة…
حين رفضتُ اعتراف سموّ الأمير ورغبته في الزواج بي، لم يكن السبب أنني أردتُ الزواج من الأمير.”
“أه… ماذا؟”
“أقصد… هذا خالصٌ من باب المجاملة فقط! فلا تسيءِ فهمي رجاءً! مفهوم؟”
“م- مهلاً. ماذا تعنين…؟”
“حسنًا، سأذهب الآن! استرح جيّدًا!”
انحنت سريعًا ثم ولّت هاربة بخطوات مضطربة، تاركةً إيدريك يحدّق في ظهرها بدهشة.
‘…لا يريـدني أن أفهمه بطريقةٍ خاطئة؟’
استعاد إيدريك صوتها الواثق وهي تتحدّث إليه، فصرخ غاضبًا:
“أنا مَتى فهِمتُ بطريقةٍ أخرى أصلاً! لا تأتي باكيةً لاحقًا! حتى لو توسّلتِ تطلبين الزّواج، فلن أقبل! أبدًا!!”
لقد كان ذلك بمثابة تجربة اعترافٍ ثانية صفرية النجاح بالنسبة لإيدريك، فراح يصرخ بلا توقّف.
وفي تلك اللحظة عاد يوستيان من جولته، ولمّا رأى إيدريك الذي ظنّه نائمًا وهو يصرخ في الهواء، نقر لسانه ساخرًا.
“تس، تس… لقد جُننتَ أخيرًا.”
“آاااه! هذا مُغِيظ!!”
كان ظهيرة هادئة، حتى الصداع الذي كان يضرب رأسه اختفى تحت وقع صراخه الهائج الذي ارتجّ به ساحة التدريب.
—
قبّة شاهقة ورخامٌ ناصع البياض. إنّه معبد العاصمة الذي يُعدّ المقرّ الأكبر لطائفة ديلِيشين.
يحجّه كل يوم آلاف المؤمنين والزوّار، وبينهم كان رجلٌ واحد يسير بخطوات مطمئنة.
شَعرٌ أزرق قاتم وعيون سوداء، وثوبٌ كهنوتيّ أبيض يتدلّى فوقه وشاحٌ أحمر.
“سيّدي نائب الحبر!”
توقّف نائب الحبر لطائفة ديلِيشين، ايزاك هيرملتون، وسكب ابتسامة صغيرة قبل أن يلتفت.
نظر إلى الزوجين اللذين اقتربا منه بملامح مألوفة لديه.
“آه… إنّهُما كونت ياكسِن وزوجته. ليحِلّ الفضل عليكم.”
“لتنتشر البركة في كل مكان.
جئنا اليوم لنعرب عن شكرنا العظيم على مساعدتكم لنا في المرة السابقة.”
“حقًّا… لقد رُزقنا بطفل أخيرًا بعد عشر سنوات من العقم! لا نعلم كيف نُكافئكم، سيّدنا نائب الحبر…”
انحنى الزوجان بامتنان بالغ، فهزّ ايزاك رأسه بلطف وقال:
“ما فعلتُ شيئًا يُذكَر.
لقد بلغ إخلاصكما مسامع السماء وحسب.”
“بالنسبة لنا… أنتم مُنقِذ عائلتنا. ولذلك…”
اقترب الكونت مبتسمًا وأخرج مفتاحًا صغيرًا من صدره وقدّمه إليه.
“تفضّلوا. مفتاح خزينة البنك المركزي. وضعنا فيه عربون شكرنا المتواضع.”
“لا، لا… لا حاجة لمثل هذا! بل لا يَجوز! فأنا رجلٌ نذر نفسه. لا ينبغي لي مسّ الأموال… ولا رغبتُ بها أصلًا.”
“ندرك ذلك تمامًا، سيدي. لكن اعتبره قربانًا نقدّمه باسم الطائفة، وأنتم مجرّد حاملٍ لرسالتنا. فهلاّ قبلتموه؟”
وحين ألحّ الكونت بلطف، أطلق ايزاك ضحكة خفيفة قبل أن يومئ برأسه موافقًا.
أخذ المفتاح ووضعه في عباءته، ثم ابتسم حين رأى انشراح وجهيهما.
“حسنًا… سأحفظه بنفسي.”
“شكرًا جزيلًا!”
“ستغمركما البركة. حافظا على الخشوع دائمًا، وسيُولَد طفلُكما في تمام العافية.”
“بالطبع! سنفعل!”
“وإن احتجتما لأيّ شيء… عودا دون تردّد!”
وبعد أن انصرفا مطأطئين رؤوسهما تقديرًا، ظلّ ايزاك يراقب ظهرهما متبسّمًا… قبل أن تتجمّد ابتسامته تدريجيًا.
أخرج المفتاح من بين طيّات ردائه، وحدّق فيه صامتًا… ثم تمتم بابتسامة باردة.
“يا لغبائكم.”
أن يتصوّروا أن الصلاة وحدها تجلب لهم الأطفال؟ يا لها من سخافة. ولولا أمثالهم لما كانت الأموال تتدفّق بهذه السهولة.
“سأُحسنُ استخدام هذا المال.”
ابتسم ساخرًا وأكمل طريقه نحو أعماق المعبد، حيث قلّ الناس وكثر الظلام.
وحين وصل إلى ممرٍّ خالٍ، خرج رجلٌ من العتمة وانحنى أمامه.
“مولاي الحبر الأعظم.”
كان الرجل يرتدي زيّ الرهبان، وقد خاطب نائب الحبر بلقبٍ لا يعرف به علنًا.
“كما أمرتم… اكتملت العمليّة في إقليم تينَنت.”
“إذن سيحلّ الصيف القادم حاملًا مجاعةً مُهلِكة على الغرب.”
لقد استغرق الإعداد لهذه المجاعة المفتعلة عشرين عامًا كاملة. وقد بدأت بذورها تنمو منذ ثلاث سنوات.
ابتدأت من الجنوب… وتتمدّد شيئًا فشيئًا لتبتلع غرب الإمبراطوريّة.
“لا يزالون يظنّونها كارثةً طبيعيّة.”
“وهذا ما ينبغي لهم اعتقاده.”
ضحك ايزاك بخفوت وأعطى الرجل المفتاح.
“أودِع الأموال جيّدًا يا باكسغين.”
“أمرُكم.”
رفع ايزاك يده ليمسح شعره، فانزلقت كمّ ردائه قليلًا… ليظهر على معصمه خَتْمٌ خافت، خماسيّ مُحمرّ، يلمع لوهلة.
إنّه رمز الطائفة التي تُبجّل الشيطان فوريـوس، حاكم الخراب والفناء.
طائفةٌ أُبيدت قبل ثلاثين عامًا… أو هكذا اعتقد الجميع.
لكن الواقع… أنّها عادت تنمو خفيةً.
ورئيسها الحقيقيّ يقف هنا… نائب الحبر الرسمي للإمبراطوريّة.
“سمعتُ أنّ الموارد باتت قليلة مؤخرًا.”
“هناك طرف ثالث يتدخّل… خارج عن سيطرتنا، باستثناء قوافلنا السرّيّة.”
“يتجرّؤون على التسلّل؟ حشراتٌ تافهة.”
انقبض جبين ايزاك لحظةً قبل أن يأمره بصرامة:
“تخلّص منهم قريبًا. لا نريد عقبات أمام نهضة الطائفة.”
“حاضر.”
كانت إعادة إحياء الطائفة وتحقيق هدفها يحتاج إلى ثرواتٍ هائلة. فقد فقدوا الكثير من القوّة والموارد عبر السنين… لكنّهم جمعوها بصبر.
والآن… حان وقت قطف الثمار.
“سمعتُ أن هايديريك تنشط في تجارة واسعة مع الخارج.”
“بفضل ثرائها، لا تعتمد على موردٍ واحد. كما أنّ عدد القوافل والنقابات لديها ضخم جدًّا…”
“هذا لا يجوز. تلك الأموال يجب أن تعود إلينا كاملة. فهي وقودُ بعث طائفتنا.”
مسح شفتيه بنبرة شرهة وقال:
“سأزور هايديريك بنفسي قريبًا. إلى أن أعود… تولَّ أنتَ ما تبقّى من القوافل.”
“كما تأمرون.”
ابتعد باكسغين بخضوع، فتنفّس ايزاك بهدوء وهو يستعيد قناع الابتسامة الرقيقة.
‘قريبًا ينتهي كلّ شيء.’
ثأرٌ عمره أربعون عامًا.
سقوط الإمبراطوريّة.
والنهاية.
كلّها اقتربت… واقترب معها انتشاءُ ايزاك.
—
كان نهارًا مزدحمًا للغاية. تنقّلت في كلّ مكان أبحث عن أيّ عملٍ أستطيع أداءه.
“أيمكنني مساعدتك؟”
“ألا تحتاجون لمعاونتي؟”
“آه! دعوني أحمل هذا!”
كنت أحاول جهدِي أن أقدّم يد العون، لكن الردّ كان واحدًا:
“لا، ل-لا داعي!”
“رجاءً، لا تُتعبي نفسك!”
“هل فعلتُ شيئًا خاطئًا…؟”
كانوا يهربون من أمامي بفزع كلّما اقتربت. فبدأت أتساءل… هل هناك ما أخطأتُ فيه؟
“لماذا لا يريد أحد مساعدتي؟” رغم أنهم مشغولون جدًا…
وما إن خطرت لي فكرةٌ مفاجئة…
حتى اتسعت عيناي:
“يا إلهي!!”
هل أصبحتُ عديمة الفائدة بالفعل!؟ هل يحاولون تجاهلي لأنني عبء!؟
“مستحيل!”
أسندت جبيني إلى الجدار بيأس. لقد كنتُ أساعد والدي جيّدًا في الغابة… وكان يمتدحني دومًا. وحتى العمّ غيوس كان يقول إنّ يدي بارعة!
“أنا… عديمة الجدوى…”
اصطدم جبيني بالجدار ثانيةً بحسرة.
وبجسدٍ مرتخٍ تمايلتُ في طريقي…
باحثةً عن مكانٍ ربّما يحتاجني أحد فيه.
بعد مدّة من السير… وجدتُ نفسي أمام مزرعةٍ كبيرة.
كم هو ضخم هذا القصر؟ بوّابات كثيرة… ومزرعة أيضًا؟ هل مساحته تضاهي الغابة التي كنت أعيش فيها؟
وبينما أتأمّل المكان… لفت نظري قسمٌ من الأرض جافّ تمامًا.
“…أيعاني هذا المكان من نقص الماء؟”
أو ربّما التربة فقيرة بالغذاء؟ كانت نظيفة… لكن حالتها سيئة. حسنًا… سأعالجها قليلًا.
جلستُ وأغمضتُ عينيّ، وضعت كفي على التراب، وبثثتُ فيه طاقة الحياة… كما لو أنّني أهمس له: انمُ جيّدًا… أرجوك.
وحين رأيت التربة تستعيد بعض عافيتها… ابتسمت ومسحت العرق عن جبيني.
“هاه… ماذا؟”
فجأةً…
شعرتُ بجسدي يُشدّ إلى الأعلى بقوّة!
أدرت رأسي ببطء…
فإذا بعينين حمراوين مشتعلة تحدّقان بي من مسافةٍ قريبة جدًا!
“كيااااااه!! خنزيرٌ بريّ!!”
التعليقات لهذا الفصل " 22"