”بيي- بيي- بيي-“
القيت نظرة علي ماندوكي، وقد غط في سباته داخل حوض الزرع، فانبسطت علي شفتي ابتسامة خفيفة.
لقد هز جذوره بعنف، وكانّه يستفسر عن سبب تأخري حين عدت قبل هنيهة قصيرة.
غير انّه، ما ان ابدلت له التربة، حتى عاد فغط في سبات اعمق. انطلقت مني ضحكة وانا الاطف شجرة ماندوكي بطرف اصبعي، ثم حنوت رأسي اتأمل.
”هل ازداد قليلا في الحجم؟”
ادرت نظري اليه من كل زاوية، وأملت رأسي لظني انه قد غدا اضخم مما كان. هل كائن الماندراكورا نبتة تنمو اصلا؟ استدعيت الى ذاكرتي الكتاب الذي طالما قرأته، بيد انّه لم يخطر ببالي منه شيء ذو بال.
”همم.”
تنهدت خفية وانا اطيل النظر الى ماندوكي، ثم انحدرت عن الكرسيّ وفي فكري ان استعير كتابا من المكتبة في وقت لاحق.
اثر ذلك، استلقيت علي السرير، مُحدقة بصمت في السقف المُزجج باللون الأزرق السماوي الهادئ.
”شجرة العائلة…”
استحضرت الحال التي التقيت فيها بكلورينس قبل قليل. لم اكن لاتخيّل قط انّ السيدة ستغدو زوجة ابن اخي! بل انني لم اسمع بلقب “زوجة ابن اخي” الّا في هذا اليوم بالذات.
’اشعر كانّ الوضع يتفاقم ويتضخم.’ في البدء، كان الأمر لا يعدو كوني قد جئت هاهنا لاستريح من نصب الجسد، واعتمد عليهم لوهلة عابرة.
غير انني وجدتني متورطة في شجرة العائلة، بل ووصل بي الحال لان اكون الكبرى في هذا النسب.
’لقد تشابك نسبي تشابكا جسيما…’
ماذا يعنيه لقب ‘جدة’؟ ليتني كنت عمة او حفيدة فحسب، لكنت سابتسم واخفض رأسي راضية.
لكنني لم يعد بامكاني فعل ذلك الآن. فبسبب هذا النسب الذي لم اكن على علم به، وبسبب المكانة التي فرضت عليّ في شجرة العائلة، لم استطع الحراك او التحرّك.
’قد يشعر الناس بالاستياء مني ان صدر مني خطأ…’
بصرف النظر عن عيشي في الغابة وعدم المامي بأمور الدنيا، لم اكن اجهل طبائع النفوس.
حتى ان هناك مثلا يتناقله الناس يقول: ‘الحجر المتدحرج يحل محل الحجر الراسخ’. ودائما ما يكون الحجر المتدحرج متزعزعا وغير ثابت.
”لم اكن اريد ان اكون مثل ذلك الحجر المتدحرج.”
بهذه الحال، قد لا اتمكن من المغادرة حينما اشاء. فما هو السبيل الذي ساتبعه؟
”آه…”
بعد امعان التفكير لوقت مديد، تنهدت ونهضت من مرقدي. ليس لدي متّسع للقلق والتشاؤم، بل يجب عليّ ان افعل ما يقع في نطاق استطاعتي.
”لكن ما الذي بمقدوري ان افعله على وجه التحديد؟”
في الحقيقة، لقد انقضت اربعة ايام على وصولي الى هذا المكان، ولم انجز شيئا يذكر حتى اللحظة. في البداية، كنت منشغلة بمداواة الحروق، لكن بعد ذلك، اقتصر وجودي على رقعة هذا المنزل.
”اليس ثمة امر بوسعي القيام به؟”
لا ارغب ان يعاملني الناس كمجرد حجر متدحرج! يجب عليّ ان اثبت مقدرتي. فآنذاك فقط سيتقبّلوني لذاتي، لا لمكانتي. وحينها ايضا…
’لن يُتخلى عني…’
اذا فارقت هذا المكان، فلن يكون لدي موطن آخر الجأ اليه. هذا مدعاة للحزن، ولكنه حقيقة لا مفر منها. وعندما اعترفت بهذا الواقع بصراحة ووضوح، استذكرت ما ينبغي عليّ فعله.
”آه! سمو ولي العهد!”
استحضرت في ذهني سمو ولي العهد الذي كان يمشي بتعثّر وترنّح، فنزلت من السرير على الفور.
حتى ان لم تكن مساعدة مباشرة لهذه العائلة، ألن يكون امرا حسنا لو اسعفت احد افراد العائلة الملكية؟
”اوهوهو…”
لمعت عيناي ببريق، فأسرعت الى الخارج حاملة مجرفة الزرع الصغيرة وحوض الزرع.
”… الى اين تمضي هذه المرة ايضا؟”
خلّفت ورائي صوت ‘ليني’، التي كانت ترتّب الغرفة وتنظر اليّ ببالغ القلق.
لهث ‘يوستيان’ ليأخذ قسطا من الراحة بعد ان مسح العرق الغزير الذي تسبّب به تلويحه بسيفه. كانت آثار التدريب القاسي واضحة عليه، على الرغم من اقتراب فصول الشتاء.
تناول ‘يوستيان’ قارورة الماء الموضوعة على الطاولة وارتشف منها.
”يا للروعة!”
اطلق ‘يوستيان’ تنهيدة انتعاش عذبة ثم استدار.
ابصر ‘ادريك’ مستلقيا تحت احدى الأشجار وواضعا ذراعه على عينيه ليحجب عنه وهج النور.
”هل ما زال رأسك يشتد المه؟”
”… لا تخاطبني. اشعر ان روحي ستزهق من جسدي.”
بصوت خائر مُنهك، ازاح ‘ادريك’ ذراعه ورفع جسده العلوي بجهد بالغ.
كانت هناك هالات داكنة ترتسم تحت عينيه، ممّا يشير الى انه لم ينعم بنوم هادئ وكاف.
”لقد ظننت انك تنام جيدا في هذه الأيام، فلماذا عاودك الأرق فجأة؟”
”لا علم لي. انّها آفة مزمنة حقا ولا اعرف لها سببا واضحا.”
”هل حتى المنوّمات لا تجدي نفعا؟”
”لا تسدي نفعا يذكر. اضافة الى ذلك، نصحني طبيب القصر الّا اكثر من تناول المنوّمات منذ طفولتي لكونها غير صحيّة.”
”حسنا. هذا هو الداعي لحضورك دروس المبارزة، اليس كذلك؟ لعلّك تنام جيدا اذا ارهقت جسدك.”
أومأ ‘ادريك’ برأسه ايماءة قصيرة مختصرة. كما قال ‘يوستيان’، فقد بدأ التدريب على المبارزة على امل ان ينام بعمق اذا اجهد جسده جسديا.
ولقد آتى هذا بعض النتائج المهمّة الى حد ما.
لكن ذلك لم يستمر طويلا. فالأرق الذي يعتريه على فترات دورية، والسير في النوم الذي يترافق معه، ما زالا يقضّان مضجع ‘ادريك’ حتى هذه اللحظة.
”…”
حدّق ‘يوستيان’ في ‘ادريك’ الذي كان يتنهّد بعمق، وضيّق حاجبيه متفكرا. لم يتطرق ‘ادريك’ لهذا الأمر مباشرة، لكنّه كان يتذمّر منه احيانا في طريقه.
’انّهم يسعون لتنصيب ابن الابنة الوحيدة لدوق ‘هيرملتون’ الشهير امبراطورا بكل ما اوتوا من قوة.
لم يعد هناك اي عائق يقف في طريقهم.’
عائلة ‘هيرملتون’ الدوقية.
هي احدى العائلات التي تشد بها ازر الإمبراطورية، الى جانب عائلة ‘هايدريك’ الدوقية.
تخرّج من عائلة ‘هيرملتون’ الدوقية كبار الكهنة عبر الأجيال المتعاقبة.
وحاليا، يحتل شقيق الدوق ‘هيوغل هيرملتون’، ‘ايزاك هيرملتون’، موقع نائب زعيم طائفة ‘ديليشين’، التي هي الديانة الرسمية للدولة.
دخلت الابنة الوحيدة لهذه العائلة القصر الإمبراطوري كامبراطورة قبل عقد من الزمان.
وبعد ان انجبت ابنا، اصبح لـ ‘ادريك’، الذي كان الابن الوحيد والشرعي، اخ اصغر. ومنذ ذلك الحين، تتالت محاولات اغتيال ‘ادريك’.
’من الطبيعيّ ان يكون هكذا، بعد ان تعرّض لمحاولات اغتيال متكررة وهو في الثامنة من عمره فحسب.’
يقول ‘ادريك’ انه يقيم في قصر الدوق ‘هايدريك’ حتى في العطلات لكون القصر الإمبراطوري بعيدا عن المدرسة، لكن الحقيقة مغايرة.
انّه يلوذ بالفرار الى هنا لأنّه المكان الأكثر امنا من القصر الإمبراطوري ذاته.
ومن حسن الطالع انّه ينام جيدا عندما يمكث هنا، لكن الأرق الذي يأتيه بين الحين والآخر يستمر لعدة ايام متوالية.
”هل تبتغي مبارزة؟ اليست الحركة الجسدية انفع لحالتك؟”
”… لا اريد. لا اود ان اسقط مُنهكا بعد بذل المزيد من الجهد المضني. ساستلقي هنا قليلا. رأسي ينزف الما كذلك.”
”حقا؟ حسنا لك ما تريد.”
لا يسع المرء ان يُجبر صديقا ابدى الرفض. تنهّد ‘يوستيان’ وهز رأسه.
وضع سيفه على الطاولة وهز ذقنه مفكرا.
”اذن، ساذهب للركض قليلا، فاسترح انت ريثما اعود.”
”حسنا. الى اللقاء.”
اجاب ‘ادريك’ الذي رقد ثانية ووضع ذراعيه على عينيه. بعد وهلة قصيرة، ابتعد ‘يوستيان’ تاركا وراءه صوت خطواته.
اغلق ‘ادريك’ عينيه بهدوء وهو وحيد في هذا الصمت المُطبق.
’ساعد، ساعديني… امي…’
تذكّر ذكرى ذلك اليوم التي تظهر كلما حل الظلام، ممّا كان يعذّب ‘ادريك’ عذابا اليما.
كان عمره تسع سنوات فقط. حاولوا تسميم الصبي ذي التسع سنوات، وفي نهاية المطاف، تناول ‘ادريك’ السمّ وخرّ ساقطا.
لحسن الحظ، نجا من حافة الموت، لكن محاولات الاغتيال التي تتابعت بعد ذلك اليوم، ارهقت ‘ادريك’ ارهاقا كاملا.
’اللعنة تلاحقني.’
شد ‘ادريك’ على عينيه مرّة اخرى وهو يشد على رأسه الذي يخفق بألم شديد.
كان يتمنّى في قرارة نفسه ان يزول هذا الصداع المُبرح.
نَقْرَة!- نَقْرَة!- نَقْرَة!-
في تلك اللحظة، نقر شيء ما جبهة ‘ادريك’. في بادئ الأمر، تجاهل الأمر ظانا انّه مجرد شعور خاطئ، لكنّه نقر ثانية!
نَقْرَة!- نَقْرَة!-
عبس ‘ادريك’ ونهض من مرقده ونظر خلفه في استغراب.
”اوه؟ لقد استيقظت!”
في ذلك الموضع، كانت الفتاة ايلينا ذات العينين البنفسجيتين الواسعتين والبشرة الداكنة قليلا التي تشي بالحيوية، تبتسم وهي تنظر اليه.
”… ايلينا؟”
تمتم ‘ادريك’ على مهل وهو متفاجئ من ظهورها غير المتوقع، فابتسمت ايلينا بسرور وانزلت الغصن الذي كانت تحمله في يدها.
هل نقرتني بهذا؟ بينما اطلق ‘ادريك’ ضحكة استهزاء خفيفة على هذه التجربة الفريدة التي لم يختبرها قط في حياته.
”هل انت عليل؟ كلك غارق في عرق بارد.”
اشارت ايلينا باصبعها الى جبهة ‘ادريك’.
مسح ‘ادريك’ جبهته بظهر يده وهز رأسه نافيا.
”لا، انا بخير تام. ولكن لم انت هاهنا؟ هل جئت لملاقاة حفيدة ابن اخيك؟”
سأل ‘ادريك’ بهدوء متظاهرا بالابتسام وهو يتكبد عناء الصداع. هزت ايلينا رأسها نفيا.
”اذن لم اتيت؟”
”جئت للقاء سمو ولي العهد. آه، لقد طلبت الّا اناديك بـ ‘سمو ولي العهد’. جئت للقاء ‘ادريك’.”
”انا؟”
عندما سأل ‘ادريك’ في دهشة بالغة، ابتسمت ايلينا ووضعت يدها في جيبها. ثم استخرجت زجاجة دواء صغيرة.
”ما هذا الشيء؟”
”قلت انّ لديك نوما قمريا من قبل. وكما سمعت من حديثكما، يبدو انك لا تنام جيدا، لذلك صنعت هذا لتستخدمه في ذلك الوقت.”
”… صنعته؟ انت بنفسك؟”
أومأت ايلينا برأسها بهدوء واعتدال.
”ان خلط جذور ‘حشيشة القط’ مع ‘زهرة الساعة’ و’العشبة الحمراء’، وهي نبتة خاصة، بنسبة مدروسة يُعين على التخلّص من الأرق. لن يلحق الأذى بجسدك لانه لا يحتوي على مركّبات كيميائية او مُعالجة خاصة. قم بالاستحمام بماء دافئ قبل الخلود الى النوم، وضع قطرتين من هذا الدواء في الشاي وتناوله. ستنام نوما عميقا ومريحا. آه، وهذا ايضا.”
اخرجت ايلينا، التي واصلت الشرح بسكون، زجاجة دواء اخرى من جيبها ومدت بها يدها.
”هذا دواء يُستخدم لإيقاظ المرء من سباته. صنعته بخلط اليوكالبتوس الذي شممته منّي قبل ذلك مع مسحوقي السرّي. اعطه لحفيد ابن اخيك، واطلب منه ان يمسح به طرف انفك اذا كنت تمشي وانت نائم (تسير اثناء النوم). ستستيقظ على الفور وبسرعة.”
رفعت ايلينا رأسها قليلا وهي تداعب خدّها بخجل رقيق.
”في الحقيقة، اذا تناولت الدواء الذي قدمته لك اولا، ستنام نوما عميقا، ولهذا اظن ان السير القمري سيكون بخير ايضا، لكن على اية حال، صنعت هذا ايضا تحسّبا لوقوعه.”
واصلت ايلينا الشرح وهي تبتسم ببراءة آسرة. نزل نظر ‘ادريك’ ببطء وهو يتأمل الفتاة الغضّة الصغيرة. حدّق في زجاجتي الدواء الصغيرتين الموضوعتين في كف يده.
’هل صنعت هذا بنفسها؟’
لم يكن يعرف بعد ما اذا كان الدواء فعّالا حقا.
لكن، لكونه ممتنا للعاطفة النبيلة من الفتاة الصغيرة التي صنعته لأجله، ابتسم بخفوت رقيق.
”شكرا جزيلا لك. حقا اشكرك.”
”لا شكر على واجب يُقدم. آمل صادقة ان يُفيدك ايّما افادة.”
”سيفيد حتما. بالتأكيد. لذلك…”
”آه، اذا كنت ستُعبّر لي عن امتنانك مجددا (او تعترف لي مجددا)، فسأرفض ذلك رفضا قاطعا.”
”… ماذا؟”
تجمد وجه ‘ادريك’ الذي كان يواصل كلامه بوجه مبتسم للحظة خاطفة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 21"