جلستُ في مكاني بهدوء أرتشف مشروبي من الكوب عبر المِصّاص، وعيناي تتنقّلان بحذرٍ في أرجاء الغرفة. كان المكتب ساكنًا تغشاه رهبة الصمت، والأنظار تتجه نحوي خلسة بين الحين والآخر.
‘يبدو أنّ هذه السيّدة ليست عاديّة كما ظننت.’
لم يخطر ببالي أبدًا أنّها والدة السيّد الصغير.
كنتُ أعتقد ببساطة أنّ أمّه أيضًا من سلالة “هايدريك”، لكن يبدو أنّ الدم النبيل يجري في عروق الأب لا الأم.
‘لكن… هل يُفترض بي البقاء هنا أصلًا؟’
بدأ القلق يتسلّل إليّ؛ كان عليّ أن أعود لتبديل تُربة نبتة “ماندوكي”.
لو تأخّرتُ قليلًا فسيبدأ مجددًا في إصدار أصواته الغاضبة “بييب- بييب-“، ولا أحد يحتمل ذلك.
“حقًّا…”
كسر ذلك الصمتَ صوتُ السيدة فلورنس وهي ترفع يدها إلى جبينها متفكّرةً، قبل أن تقول بنبرةٍ متردّدة:
“هل أنتِ فعلًا ابنة فريلْدين؟”
“ألَم تسمعي ذلك بنفسكِ؟”
“ذلك… صحيح، لكن…”
“جدّتي، هلّا كرّرتِ حديثكِ لوالدتي مرةً أخرى؟”
أوه، مجدّدًا؟
رمقتُ السيّد الصغير سريعًا، فإذا بفايل يقدّم لي علبة البسكويت.
همم…
كفاية هكذا.
ابتسمتُ ابتسامةً صغيرة، ثمّ وجّهت كلامي نحو فلورنس:
“أنا إيلينا، ووالدي هو فريلْدين يوناس.
كان ساحرًا للطبيعة يعيش في الغابة.
كان طويل القامة قليلًا، ذو شعرٍ أسود وعينين أرجوانيتين.”
هل يكفي هذا؟ نظرتُ إلى السيّد الصغير فرأيته يومئ بالنفي.
عليّ أن أُكمل إذًا.
“آه، وكان طيّب القلب جدًّا! في أحد الأيام، هاجمنا رجالٌ مخيفون ونحن نعيش في الغابة.
ضحّى والدي بنفسه لينقذني، بينما فررتُ كما أوصاني. ومنذ ذلك اليوم وصلتُ إلى هنا.”
ثمّ أخرجتُ الخاتم الذي لا أفارقه أبدًا وقدّمته إليها.
بدت عليه ملامح الارتباك، كجروٍ صغيرٍ مُطارد، فراقبته بدهشة.
عبست فلورنس أكثر وقالت:
“حتى وإن كانت صغيرة السنّ، فهي الجدّة الصغرى للدوق.
أيّ جدةٍ تُضيف (نيم) إلى اسم حفيدها؟ هذا لا يجوز! من الآن فصاعدًا، خاطبها كما يليق، يا دوق.”
[م. زوز: تضاف الأسماء والألقاب لإظهار الاحترام، وتُستخدم عادةً مع الأشخاص الذين يكبرونك سناً، أو في مكانة أعلى، أو كعملاء وموظفين في بيئة رسمية.🚶♀️]
“مفهوم، يا أمّاه. أعتذر عن إساءتي، يا جدّتي.”
“نعم نعم!”
أومأتُ برأسي بسرعة، لم أشأ معارضتها إطلاقًا. كانت هيبتها تُرعبني.
ثمّ تنفّست الصعداء وقالت:
“كما كنتُ أقول، شجرة النَّسَب هي جذور العائلة. والجذور لا يمكن أن تُقطع من دون أن تموت الشجرة. من يتجاهلها كمن ينتحر شرفيًّا.
وحتى لو كان ربّ العائلة هو الرأس، فإنّ سجلّ النَّسَب يظلّ أقوى من الجميع.”
أومأتُ بفهمٍ خافت، فتابعت كلامها وهي تُحدّق في وجهي بثبات:
“وفي قمة تلك الشجرة، تقفين أنتِ، يا سيّدتي.”
“أنا؟!”
اتّسعت عيناي من الدهشة.
“نعم. منذ ثلاث سنوات، بعد وفاة عمّ الدوق الأكبر، انتقلت السلالة إليّ. لكنّ ظهورك اليوم أعادها إلى صاحبها الحقيقي.”
“لكن… لكنّي…”
“أعلم أنّ الأمر يُثقلكِ. لا أحد يطلب منكِ أداء أيّ واجبٍ الآن. فليست هذه اللحظة المناسبة. فقط… حتى يجتمع مجلس الشيوخ القادم، أُفضّل أن تُخفي هويّتك مؤقّتًا. أتستطيعين ذلك؟”
“بالطبع!!”
“جيّد. يبدو أنّي شغلتكِ طويلًا. يمكنكِ الانصراف الآن. آه، مجددًا أتحدّث وكأنّي صاحبة المقام أمام سيّدتي…”
ابتسمتُ لها مطمئنة:
“لا تقلقي. ما زلتُ أرى نفسي مرشّحة لا أكثر، فتصرّفي براحتكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 20"