بينما كان الرّجل يمسحُ خدّي بهدوءٍ بمنديله، كنتُ أحرِّك فمي بسرعة لأبلع الحلوى التي كنتُ آكلها.
الرّجل الّذي كان يُراقبني أطلق تنرةً، ثمّ انحنى قليلًا، أزاح الصّينيّة التي كانت تحوي التّحف، وملأ كأسًا بالماء ووضعه أمامي.
“كُلي على مهل، لَن أخذُه مِنكِ.”
كنتُ أحرِّك خدّي بجشعٍ وأنا مُلتفّة بجسدي، فرفعتُ بصري لأراه يتحدّث بلُطفٍ على غير المتوقّع.
كان يرسم ابتسامةً هادئةً، ولم تَعُدْ عيناه الباردتان اللّتان كانتا تحدِّقان بي قبل قليل.
في تلك الهيئة بدا كعالمٍ طيّب.
‘…يقولون إنّه رجلٌ مُخيفٌ جدًّا وقاسٍ… هل تلك الاشاعات خطأً؟’
استحضرتُ الشّائعات الّتي سَمِعتُها من قبل، ثمّ رفعتُ الكأس بحذر وابتلعتُ ما فيه.
شعرتُ بالارتياح حين اختفى أثر الحلوى مِن فمي، فانحنيتُ له ببطء.
“أعتذرُ لأنّ الطّعام تناثر.
لمْ أقصِد ذلك…….”
“لَا حاجة للتّبرير، الطّفل يُمكنه فعل ذلك.”
أهو أرحمُ ممّا ظننت؟ رمشتُ بعيني، فإذ به يتأمّلني مليًّا.
“على أيّة حال، حين سَمِعتُ أنّكِ ثماني سنوات لمْ أُصدّق.
خُيِّل إليّ أنّهم جاؤوا بامرأةٍ صغيرة القامة.
لكن، بالفعل أمامي طفلة في الثّامنة.”
“هل كوني في الثّامنة يُشكّل مُشكلة؟”
“لَا، ليسَ الأمرُ مُشكلة. فالأهمُّ غير العُمر.”
جلسَ في مقعده، وجلستُ أنا في الجهة المقابلة أُحدّق به.
“أنا فايل، سيّد هذا القصر.”
إذًا، هذا هو دوق هايدريك. لمّا عاد وجهُه الحادّ ونظراتُه الثّاقبة لحظة عرّف نفسه، ابتلعتُ ريقي.
“أنا إيلينا. إيلينا جوناس.”
“جوناس؟ اسمٌ أسمعُه للمرّة الأولى.”
“جوناس ليس اسمَ عائلة. ومن الطّبيعي أنّك لمْ تسمعه، فنحن نلتقي لأوّل مرّة.”
“…….”
ارتسمت على وجه فايل ملامحُ حيرةٍ أمام منطقي البديهي. ثمّ أعاد النّظر إليّ وتحدّث من جديد.
“سَمِعتُ أنّكِ ابنة فريلْدين. أهذا صحيح؟”
“نَعَم، صحيح.”
“إذن أنتِ تعلمين مَن هو فريلْدين؟”
“بالتّأكيد.”
“مَن يكون؟”
“إنّه أبي.”
“…….”
“هاه-كُك–!”
نفختُ صدري بفخرٍ ظنًّا منّي أنّه جوابٌ كامل. لكنّ ردّ الفعل كان ضحكاتٍ تتسرّبُ من هنا وهناك.
التفتَ فايل مذهولًا إلى الفرسان عند المدخل، فشدّوا وجوههم مُجدّدًا وأعادوا وضعهم الجادّ.
“لا أقصد هذا.
أسألكِ: هل تعلمين مَن هو الرّجل الّذي تُسمّينه فريلْدين جوناس؟”
“نَعَم، أعلم.”
“مَن هو إذًا؟”
“إنّه أبي!”
“…….”
لماذا يُكرّر السّؤال؟ هل لُغتُنا في الغابة تختلف عن هنا؟
“ذاك… يعني، كلمة ‘أب’ تعني الرّجل الوالد للطفل حين يولد…”
“…لَا أجهل ذلك.
فلا حاجة لتعريف الكلمة.”
قاطعني فايل مُتنفّسًا بضيق. فأملتُ رأسي باستغراب.
“إذن لِمَ تسأل دومًا؟ أنا حقًّا ابنة أبي. جئتُ هُنا كما أوصاني.”
أخرجتُ العقد المُعلّق في عنقي، ووضعتُ الخاتم على الطّاولة. إنّه ما ورثتُه من أبي.
أخذ فايل الخاتم ببطء، وأخذ يُمعنه النظر.
“قال لي أبي: اذهبي إلى هناك. ستلقين العون. لو رفعتِ هذا الخاتم، سيساعدونكِ.”
رفعتُ رأسي، مُستحضرةً صوته الصّارخ في ذاكرتي.
“…قلتِ إنّ أباكِ هو فريلْدين؟”
“ها أنتَ ذا تُعيدها ثانية.
هل تجدُ صعوبةً في فَهم كَلَامي؟ إن كان حديثي مُعقّدًا فأخبرني حالاً.”
ابتلعتُ بقايا الفُتات في فمي، ثمّ نظرتُ إليه مرّة أخرى.
“حين كنتُ أعيش مع أبي وحدَنا في الغابة لمْ تكن ثمّة مشكلة.
لكن أبي قال: إذا خرجنا، سيبدو الأمر مختلفًا. أخبرني أنّي أستخدم كلماتٍ مُعقّدة بالنّسبة لعمري، لأنّ مستوى إدراكي أكبر.”
“بفتتت…!”
انفجر الفرسان ضاحكين وقد غطّوا أفواههم.
فتنهّد فايل بعمق، وأدار رأسه صارخًا بصوتٍ مُخيف: “اخرجوا جميعًا.” فبادر الفرسان إلى مغادرة الغرفة بسرعة.
حين بقينا وحدنا، أعاد النظر إليّ.
“حسنًا، يا إيلينا ابنة فريلْدين. قد فهمتُ كلامك. ولكن، هل لكِ أن تُثبتِي أنّكِ ابنته حقًّا؟”
“تريد دليل؟”
“نَعَم. ربّما جئتِ بالخاتم ظنًّا أنّه دليل، لكن كثيرين جاؤوا قبلكِ بخواتم يدّعون بها النّسب.
بل حتّى مَن غيّروا لون أعينهم.
وإن لم يكن بينَهم طفلٌ في مثل سنّك.”
شعرتُ لحظةً أنّني قد أظهرتُ سلوكًا غير لائق، لمّا رأيتُ نظراته الحادّة تَخترقني.
“قدِّمي دليلًا على أنّكِ ابنة فريلْدين. وإلّا فسيُلقى بكِ في السّجن حتّى تبلغي سنّ الرّشد.”
قالها مُطلِقًا تهديدًا جائرًا.
—
كان فايل واقفًا عند النّافذة يتأمّل مدخل القصر. هناك، كانت فتاة صغيرة تحمل حقيبة ضخمة وتتمتم غاضبة وهي تُغادر.
“سيدي، ألَا تُريد التّحقّق أكثر؟”
“لا داعي. لم تُثبت أنّها ابنة فريلْدين.”
استعاد فايل في ذهنه احتجاجات إيلينا قبل قليل.
‘كيف أثبت أنّي ابنة أبي؟ هل عندكم فحصٌ للأنساب؟ أم أُحضر أبي؟ وكيف أفعل ذلك!’
كانت تبدو غاضبة ومظلومة في احتجاجها، لكن لم يتعدَّ الأمر ذلك.
“هل لي أن أسأل لِمَ لَا تُصدّق كلامها؟”
“شممتُ رائحة السّحر.”
“رائحة…؟ تقصد تلك الرّائحة الّتي تَنبعث عند استخدام الجسد للسّحر؟”
أومأ فايل.
“لمْ ألحظها في البداية، لكن لمّا اقتربتُ شعرتُ بها. خاصّةً من عينيها.
لابُدّ أنّها غيّرت لون عينيها بالسّحر.
مثل مَن جاؤوا من قبل.
ولا بُدّ أنّها مثلهم.”
“…لكن، لِمَ تركتَها ترحل؟ إن كانت تنتحل صفة ابنة فريلْدين، وجب اعتقالها.”
“أيُّ معرفةٍ لطفلةٍ بتلك الأمور؟ من يستخدمها وراء السّتار هو المذنب.”
“أيَعني هذا أنّك ستتقصّى مَن وراءها؟”
“بالتّأكيد.”
ابتسم فايل بخفّة. لقد كانت طفلةً جريئة ومُسلّية.
إذ كيف يُمكن أن يُفاجأ مِن بضع كلمات تصدر عن طفلة؟
غير أنّها صغيرة جدًّا، لا تتجاوز الثّامنة.
إنْ صحّ أنّها ابنة فريلْدين، فهذا يعني أنّه أنجبها وهو في الستّين.
وإن لم يكن مُستحيلًا، ففكرةٌ عجيبة لرجلٍ عاش مختفيًا عقودًا.
“لو كانت فعلًا ابنته، لَكان عندها ما تُثبت به نسبها.”
كوصيّة مكتوبة، أو متاع خاصّ، أو كنزٌ مجهول أخذه فريلْدين معه.
لكن لا، لم يكن سوى خاتم.
“يا له من يوم مُحبط.
كنتُ أتمنّى أنْ تكون فعلًا ابنته.”
فلو ورثت قوّته وسحره، لكانت تملك الدّليل. مثل موهبته الطّبيعيّة الّتي أزهرت بالنّباتات.
فقد عُرف أنّ فريلْدين حاز لقب ساحرٍ متقدّم في الطّبيعة وهو في الثّامنة فقط. وذاك ليس خرافة، بل حقيقة محفوظة في برج العاج الأخضر.
لو كانت مِن دمه، لكانت استخدمت السّحر لتُثبت. عدم فعلها دلّ أنّها محتالَة.
زفر فايل، ثمّ استدار.
“ألحقوا بها رجالًا. لا بُدّ أن نكشف مَن دبّر هذه المهزلة ونزجّهم في السّجن.”
“أمركم. إذًا…”
“كياااا–!”
ارتفع صُراخ في تلك اللحظة. جاء الصّوت مِن أسفل القصر. التفتَ، فإذا بالخيول تهرب من الإسطبل وتجنّ جنونها.
قيل إنّها تعاني قلّة الماء والعلف مؤخّرًا. الآن ظهر أثر ذلك.
كانت تُهاجم النّاس بعُنف، والحرس عاجزون عن كبحها.
“أمسكوا الخيل!!”
“الطفلة في خطر!!”
كان أحد الخيول يشقّ طريقه نحو المدخل، تمامًا حيثُ تمشي إيلينا.
“اللعنة…!”
فحتّى رجلٌ بالغ قد تنكسر عظامه تحت وقع الخيل، فما بالك بطفلةٍ في الثّامنة؟ قد تموت فورًا.
لا يُمكن تركها تموت عند المدخل، وإن كانت مُحتالة.
لكنّ المسافة بعيدة. حتّى سحره لا يُسعفه.
فمدّ يده ليُكوّن كرة لهبٍ مُستعدًّا للاندفاع.
“هيييييينغ–!”
رفع الحصان القريب مِن إيلينا قدميه عاليًا. لحظةٌ فاصلة، قد تُسحق الفتاة.
‘لنْ أصلَ في الوقت.’
قطّب فايل وجهه، لكن فجأةً…
“…ما هذا؟”
إذ ضاءت حول الفتاة هالةٌ خضراء ناعمة، تغلّفت بها.
لمّا انبعث الضّوء، هدأت الخيول ووقفت هادئة، بل دَنَت منها.
ثمّ اقتربت الأخرى بدورها، وكأنّما تنجذب إلى ذلك الضّياء.
مدّت إيلينا ذراعها نحو السّماء، فارتفع الضّوء متبعًا أصابعها، ثمّ تجمّع عند أطرافها، واندفع عاليًا، فانفجر بفرقعة صغيرة، وتناثر كالمطر الأخضر.
“فُرررغ–!”
“هيييينغ!”
تجاوبت الخيول بصوتٍ راضٍ، حتّى إنّها لاصقت خدودها بوجه الفتاة.
داعبت وجوهها بمرح، ومسحت على رؤوسها جميعًا، ثمّ استدارت وغادرت القصر.
“…….”
حادثةٌ كادت تكون كارثة. لكنّها انطفأت بسهولة، لا بالعُنف، بل بضوءٍ حافل بالدفء.
“سيّدي… ذاك….”
لكن حين التفتَ لوكمان إلى جانبه، لم يجد فايل.
“سيّدي؟”
تفاجأ باختفائه، وأخذ يتلفّت. لكن ما إن أعاد نظره إلى الخارج…
“هاها، كما توقّعت.”
رأى فايل يسرع نحو إيلينا.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 2"