“هذا جيّد! ممتاز جدًّا!”
قال يوستيان في نفسه مبتسمًا برضًا. لقد كان أمرًا صعبًا، أن يعتذر.
لكنّه أدّاه دون تردّد أو ارتباك، وبطريقةٍ مثاليّة تمامًا.
‘ههه، باعتذارٍ كهذا، لا يُمكنها إلّا أن تقبله.’
صحيح أنّه لم يقل صراحةً كلمة “آسف”، لكن لا بُدّ أنّها فهمت سبب ما فعله. فمهما كانت صغيرة، تملك من الذكاء ما يكفي لاستيعاب ذلك.
حرّك يوستيان رأسه موافقًا، ثمّ حوّل نظره عن الجهة الأخرى ليثبّته على إيلينا.
“الآن، هل أمكن…؟”
كان يوستيان يواصل الحديث مبتسمًا، لكنّه توقف فجأة حين رأى إيلينا تحدّق فيه بعينيها الرفيعتين نظرةً حادّة.
‘لماذا… لماذا تُحدّق بي هكذا؟ هل هناك مشكلة؟’
طالت نظرتها إليه كثيرًا، فابتلع يوستيان ريقه باضطراب.
“لِـ… لِماذا؟”
“لِماذا؟”
“أقصد… لِماذا تنظرين إليّ بتلك النظرة؟”
“ولِماذا لا أنظر إليك هكذا؟”
قالت إيلينا بلهجةٍ متدلّلة ومدّت نهاية كلامها بسخرية خفيفة وهي ترفع حاجبيها الممتلئين.
“حسنًاّاا… لِماذا يا ترى أنظر إليك بهذه النظرة؟”
كان وجهها المبتسم ببرود يُرعب يوستيان. شعر بهالةٍ مريبة تُخيّم عليه، وكأنّه سيتحوّل في أيّ لحظة إلى دُميةٍ للعب.
‘ماذا… ماذا فعلتُ خطأً؟’
لقد قدّم لها الكعك واعتذر، فلماذا إذًا…؟ ابتلع ريقه ثانيةً وهو يميل رأسه قليلاً.
“هل، هل لأنّك لا تُحبّين الكعك؟”
“لا، لا، أنا أحبّ الكعك. بل أريد أن آكلَه كلّ
يوم!”
“إذًا…؟”
“لكن، مهما يكن… أ تجلب لي كعكٌ التقطتَه في طريقك؟”
مدّت إيلينا الصندوق نحوه لتريه ما بداخله.
وحين ألقى يوستيان نظرةً إلى الداخل، أدرك على الفور خطأه.
لقد كانت القطع مكسّرة داخل الصندوق من شدّة الجري، وزاد الطين بلّة أنّ ما بقي فيها قليل جدًا.
تحوّل الكعك الذي كان يُفترض أن يكون هديةً إلى قمامةٍ التُقِطت من الطريق فعلًا.
شعر يوستيان بعرقٍ باردٍ يسيل على ظهره.
“هل يُمكن أن يكون حفيدي العزيز يرى في جدّته مجرّد سلّة مهملات، فيقدّم لها هذا؟”
“كلـ-لا هذا لا يمكن أبدًا يا جدّتي… هيهي.”
“إذًا إن لم يكن كذلك…”
وضعت إصبعها على ذقنها مائلةً رأسها بتفكير مصطنع، ثمّ ابتسمت بوجهٍ مشرق.
“هل كنت تقصد أن آكل القمامة؟”
“لـ، لا! لم أقصد هذا أبدًا…”
“إن لم يكن كذلك، فلماذا قدّمتَ لي قمامةً التقطتَها؟”
اقتربت إيلينا منه بخطواتٍ بطيئة، وهي ترفع رأسها نحو الصبيّ الأطول منها بشبرٍ واحد، مبتسمةً بخبث.
“هاه؟”
“هذ، هذا… كنتُ أعني بها اعتذارًا…”
“اعتذار؟ أليس الاعتذار كلمة ‘أنا آسف’ فحسب؟ ألم تتعلّموا الآداب بعد يا حفيدي العزيز؟ آه! أم أنّ والديك دلّلاك أكثر من اللازم؟”
صفّقت بيديها “طَقّ!” وهي تضحك ضحكةً واسعة جعلت وجه يوستيان يشحب كالأشباح.
“لـ، لا! ليس خطأ أبي… فقط ظننتُ أنّ الجميع يُحبّون هذا النوع من الاعتذار…”
“يُحبّون أن يُقدَّم لهم قمامة؟ حقًا؟”
“لم أقصد أنّها قمامة…!”
“أوَتريد أن تقول إنّك اشتريتها لي كهدية؟ لكنّ هذه الكعكات ليست مكسّرة، بل تبدو كأنّ أحدًا قضَمَها.”
“آآآه…”
ابتسمت إيلينا بوجهٍ لطيفٍ بينما تضغط عليه أكثر فأكثر.
كان يوستيان يظنّ أنّ كلّ شيءٍ يسير على ما يرام، لكنّه وجد نفسه في مأزقٍ تمامًا.
كانت إيلينا تنظر إليه كما لو أنّه أصبح لعبةً مسلّية.
تمامًا مثلما تقول نظرتها:
‘كنتُ أشعر بالملل، والآن وجدتُ لعبةً ممتعة.’
من بعيد، كان كيلسي تراقب المشهد، فتنهدت وهي تهزّ رأسها.
‘تُصبحين شيطانةً حين تكونين مع الأطفال.’
عدّلت انطباعها عن تلك الفتاة التي ظنّتها سابقًا هادئةً تكره إزعاج الآخرين، ثمّ استدارت بهدوء ليغادر.
“أرجوكِ… أنقذيني، جدّتي الكبرى…”
لكنّ كيلسي لم تفعل سوى أن أغمضت عينيها بشفقةٍ على صوت الصبيّ الحزين.
—
بينما كان فايل جالسًا في مكتبه يتابع أعماله، تقلّص حاجباه بقلق. فقد كانت مسألة تأمين المؤن أسوأ ممّا توقّع.
كانت التجارة مع الخارج ومع القوافل صعبة للغاية.
ورغم أنّهم عرضوا خمسة أضعاف السعر المعتاد، فإنّ أحدًا لم يرضَ بالبيع، ففشلت الصفقات بطبيعة الحال.
“في النهاية، ليس أمامنا سوى الاعتماد على تجّار مملكة ريفدون.”
لكنّ وجهه أبدى امتعاضًا.
فلم يكن يُطيق أولئك التجّار المتغطرسين الذين يتصرّفون وكأنّهم أصحاب الفضل.
لقد ضاق جنوده ذرعًا بهم حتى إنّهم أقسموا ألّا يذهبوا إليهم ثانيةً.
وفي العادة، لكان فايل قطع علاقته بهم فورًا، لكنّ المجاعة والجفاف جعلاه عاجزًا عن ذلك.
“طَرقٌ طَرقٌ.”
“ادخل.”
دخل شابّ أنيق المظهر بعد أن فُتح الباب.
“البارون أليكس هويدن.”
كان من خدم هايدريك، ومسؤولًا عن الشؤون المالية لمقاطعة هايمفن وهايدريك. رجلٌ كفءٌ يحظى بثقة فايل.
“ما الأمر؟”
“جئتُ لأحدّثكم بشأن عقد الموادّ الغذائية.”
“تكلّم.”
رفع الشابّ ذو الشعر الأزرق نظارته وقدّم أوراقًا أعدّها مسبقًا.
“لقد أنفقنا على عقد الإمدادات أكثر من المعتاد، لذا سنفتقر إلى الميزانية اللازمة للتحضيرات الشتوية.”
“كم النقص؟”
“نحو عشرين بالمئة مقارنةً بالعام الماضي.”
“ألم نقلّص الحجم بالقدر نفسه العام الماضي أيضًا؟”
“… اضطررنا لذلك لتأمين الغذاء الغالي. وإن استمرّت المجاعة العام المقبل، فسيرتفع السعر أكثر.”
“هاه…”
تنفّس فايل بعمقٍ وضغط على جبهته بيده، شاعراً بالإرهاق.
عادت الأزمة من جديد، أزمة الغذاء.
لقد اجتاح القحط نصف أراضي الإمبراطوريّة، ومع أنّ القصر الإمبراطوريّ يتحرّك لمعالجة الوضع، فإنّ النتائج تكاد تكون معدومة.
وهذا طبيعيّ، فكم من الدول ستفرح إن سقطت قوّةٌ عظيمة تغطّي ثُلث القارّة بسبب الكوارث الطبيعيّة!
“لو أمطرت كثيرًا، أو لو أمكننا فقط إحياء التربة الجافّة، لانتهت المجاعة… يا له من أمرٍ عسير.”
“……”
وفيما كان فايل غارقًا في التفكير، التقط سمعُه جملة “إحياء التربة”.
فتذكّر على الفور نُبَيتَ إيلينا في الحيّ الأحمر.
إطلاق نباتاتٍ من أرضٍ قاحلة؟ تلك ليست قدرةً عاديّة. في الإمبراطورية، لا يوجد أكثر من خمسة أشخاصٍ قادرين على مثل هذا السحر.
وإيلينا فعلته وكأنّه أمرٌ بسيط.
‘الطفلة التي تهدّئ الغضب وتُباركها الطبيعة.’
‘دماء فريلدين.’
ربّما تكون قادرة على تهدئة هذه الكارثة…
“ما الذي أفكّر فيه؟!”
هزّ فايل رأسه بعنف وهو يعبس.
حتى وإن بلغ به الضيق أقصاه، فلا يمكنه أن يُلقي بمصير العائلة والإمبراطوريّة على عاتق طفلةٍ في الثامنة!
ولا سيّما أنّ هناك سحرة الطبيعة في “البرج الأخضر” يعملون جاهدين لإيجاد حلّ، لذا وجب الانتظار.
لم يشأ أن يحمّلها عبئًا كهذا، على الأقل إلى أن تتأقلم مع العائلة.
“افعلوا ما بوسعكم للتحضير للشتاء دون تقليصٍ شديدٍ في الميزانية. فلو مات الناس جوعًا أو بردًا، قد يتحوّل ذلك إلى تمرّدٍ كبير.”
“أمركم، يا سيدي. آه، بالمناسبة…”
رفع أليكس الأوراق فجأةً، متنهّدًا بدهشةٍ طفيفة.
“يقولون إنّ في القصر طفلة غريبة ذات عيونٍ بنفسجيّة. هل أنجبتِ طفل سرًّا يا سيدي؟”
“هل تسأل إن كان لي ابنة غير شرعية؟”
“نعم.”
كان من المفترض أن يلمّح تلميحًا خفيفًا، لكنّه قالها صراحةً. غير أنّ فايل لم يغضب، إذ أدرك أنّه لا يقصد الإساءة.
“لو كان الأمر كذلك لارتحتُ أكثر.”
تنفّس فايل الصعداء مسندًا ظهره إلى الكرسيّ.
“إنّها جدّتي الكبرى.”
“…ماذا؟”
تجمّدت ملامح أليكس، ثمّ أجاب بتردّدٍ متأخّر، فابتسم فايل.
“لقد استدعيتُ الشيوخ، وستجتمع جدتي مع كبار العائلة قريبًا.”
“ماذا تعني…؟”
ارتبك أليكس أكثر، بينما تابع فايل بابتسامةٍ خفيفة، متقدّمًا نحو النافذة.
أنارت الشمس الدافئة أسفل وجهه، لتُظهر بوضوح بريقَ عينيه البنفسجيّتين وسط الظلال.
“عمّا قريب، ستنشب شرخٌ كبير في العائلة. ابقَ بعيدًا عنه، وركّز فقط على ما أوكل إليك.”
وفي الخارج، كانت صرخة الصبيّ تصدح:
“أرجوكِ سامحيني يا جدّتي الكبرى!”
“سامحكِ؟ على ماذا يا تُرى؟ هااه؟”
“آااه!”
ومن مكانه، رأى فايل الفتاة الصغيرة تُطارد ابنه وسط الحديقة.
أن تجعل ابنه المتغطرس يركض مذعورًا في يومٍ واحد؟ لم يستطع سوى أن يضحك ساخرًا.
ثمّ التفت إلى أليكس قائلًا بابتسامةٍ خافتة:
“استعدّ، فذئابٌ كثيرة ستنقضّ قريبًا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات