عادةً ما كان يتوجّه مباشرةً إلى غرفته، لكنّ هذه الليلة كان يَنوي المرور على مكانٍ آخر قبل أن يستريح. إلى غرفة إيلينا، الّتي أصبحت على نحوٍ عجيب جَدّتَه.
“…يبدو الأمر كما لو أنّ حفيدًا يُلقي تحيّة المساء قبل النوم.” استغرب فايل من وجوده في مثل هذا الموقف، وهو سيّد هذا البيت.
لكنّ إيلينا لم تَكُن بالنسبة له مجرّد جَدّة في السّجلّ العائلي، بل كانت أيضًا ابنة فريلدين.
والدّم الّذي يجري في عروقها، بما يحمله من أصالةٍ وإمكانات، لم يكن بوسعه أن يتجاهله.
لذلك كان من الطبيعي أن يلتفت إليها ويوليها اهتمامًا. فالكبار من واجبهم أن يَحملوا همَّ الصغار.
‘نَعم، هذا هو كلّ ما في الأمر. ليس لدي نوايا أخرى.’ ورغم أنّه أدرك بحِسّه أنّها جدّتُه، إلّا أنّ قلبه لم يستوعب ذلك، فهزّ رأسه وكأنّه يُقنع نفسه.
“همم؟” لمّا وصل فايل إلى غرفة إيلينا، وقع بصره على الطعام المَوضوع أمام الباب، فتوقّف . كان قد أوصى بعشرة أطباقٍ لتُقدَّم لها.
لكن ما اختفى منها لم يكن سوى رغيفٍ واحد من الخبز.
فتقلّص جبينه قليلًا، وتسرّبت إلى داخله شفقةٌ صامتة.
“…أتُراه أمرًا يُثقِل عليها؟” لا بُدّ أنّ الحال كذلك.
فقد سمع أنّها فقدت بيتها وأباها في هجوم الغرباء. جاءت إلى هنا وحيدة، لا سند لها، طالبةً المأوى في هذا المكان.
لا شكّ أنّها وصلت بعد عناءٍ شديد، في بردٍ قارس، تُقتّر في طعامها وتبيت في العراء. وما لقيته هنا لم يكن سوى الجفاء وأمرٍ بالطرد.
فإذا كان البالغ قد يَنهار تحت هذه الظروف ويُشيّد جدارًا، فكيف بطفلةٍ لا تتجاوز الثامنة؟
“…….” تنفّس فايل ببطء، وهو يَستشعر خطأه، ثم نظر إلى الباب مليًّا وطرقه بخفّة.
طَرق، طرق–
“…إنّه أنا.” ابتلع ريقه قبل أن يُعلن عن نفسه بنبرةٍ مُتحفّظة. لم يبقَ لِتجبّره السّابق أيّ أثر.
“أتيتُ لأطمئنّ على حالكِ. هل لي أن أدخل قليلًا؟”
“…….”
“إن كان الأمر يُزعجكِ، بوسعكِ أن تُخبِريني من وراء الباب فقط.”
“…….”
لكن لم يَجد سوى صمتٍ يردّ على كلماته. فأمال فايل رأسه متردّدًا.
هل ما زالت نائمة؟ لقد ظنّ أنّها استيقظت الآن.
أم أنّها صغيرة السنّ، فتَنام ساعاتٍ طويلة حتى لو نامت باكرًا؟
في حَيرته، انحنى قليلًا وقال: “أُكرّر اعتذاري عمّا جرى اليوم. لن أسمح أن يتكرّر. أنا وعائلتي سنحمي الجَدّة من الآن فصاعدًا. فاحرصي على تناول طعامكِ والاعتناء بنفسكِ.”
“…….”
“…هاه.” زَفر فايل تنهيدةً صغيرة، وقد تجمّعت في قلبه مرارةٌ وشعورٌ بالشفقة.
أيّ ذنبٍ ارتكبه حتّى يُثقل على طفلةٍ بهذا الشكل؟ أطلق تنهيدةً أخرى، ثم اعتدل واقفًا، عازمًا على أن يُصلح ما فات، مستعدًّا للانصراف.
“آه، ها أنتما هنا!” في تلك اللحظة، اقترب لوكمان.
محا فايل عن وجهه آثار الكآبة، وأشار له بذقنه.
“ما الأمر؟”
“لا شيء خطير، لكن الشرطة تواصلت معنا منذ قليل.”
“هل حدثت كارثة ما؟” فقد كان نقص الطعام يتسبّب بأحداث شغب في أماكن عدّة.
وبرغم أنّه أدار الإقليم بحزم، فإنّ الجوع لم يَرحم أحداً. سأله فايل بوجهٍ جاد، لكن لوكمان ابتسم بحرج وهزّ رأسه.
“في الحقيقة… السيدة إيلينا خرجت إلى الخارج، فاصطدمت ببعض الغرباء.”
“…ماذا؟” ظنّ فايل أنّه لم يسمع جيّدًا، فارتسم على وجهه الذّهول، وسرعان ما دفع الباب.
هوووش–
لكن لم تكن نائمة ولا يكن هناك أحد يختبئ هنا. لم يكن بداخل الغرفة أحد.
“…أكانت مجرّد أوهام؟” لم يكن هنالك أي أثرٍ لتلك الطفلة المسكينة التي تَخيّلها.
لقد غادرت القصر لتفتعل حادثةً في المدينة ليلًا.
‘…فما الذي كنتُ أفعله؟’ لو رآه أحد، لظنّه يتحدّث إلى فراغ.
فاشتعل وجهه خجلًا، إذ لم يعش من قبل إحساسًا كهذا.
“سأذهب بنفسي.”
“هاه؟ جلالتكم أنتم…….” ارتسم على وجه فايل خليطٌ من الدهشة والسخرية والطمأنينة المتشابكة، قبل أن يستدير على عجل.
نظر إليه لوكمان مذهولًا، لكن فايل كان قد ابتعد بالفعل.
“حتى سموّ الأمير……!” ناداه لوكمان مسرعًا، لكن صوته لم يبلغه، إذ تلاشى فايل في العتمة.
“كنت أريد طمأنته أنّ الأمر بخير، لكنّه لم يسمع…” ابتسم لوكمان ابتسامةً عابرة، ثم نظر إلى الطعام المتبقّي.
“إنّه قلق على الجَدّة.” لكن لم يُدرِ هل كان قلقه موجّهًا إليها كجَدّة، أم كطفلةٍ تحتاج للرعاية.
—
‘مُشكلة.’ حرّكتُ عيني في توتر.
‘لا يمكنني البقاء هنا طويلًا….’ لقد اقترب الفجر.
إن لم أرجع بسرعة، سيكتشفون أنني لست في غرفتي.
كنت أنوي أن أخرج وأعود خلسةً وكأن شيئًا لم يحدث.
لكنّ رجال الأمن أخذونا إلى هذا المكان، فلم أتمكّن من المغادرة.
‘إن اكتشف الأمير ذلك……!’ المكان الذي حصلتُ عليه بشقّ الأنفس قد يضيع في لحظة.
قد يجدها الأمير فرصةً لطردي مجدّدًا! وقد فعلها من قبل!
فدارت عيناي في قلق.
رجالٌ غلاظ ينتشرون في كلّ مكان.
بل أشدّ حزمًا من أولئك الذين نعتوني “لحمًا” منذ قليل.
لكنّ الفرق أنّ هؤلاء…
“هـ، هاها… هل يزعجكِ شيء يا سيّدة؟”
“أنا بخير. الأمر مريح بما يكفي، فلا داعي لقلقكم.”
“آ، أبدًا! كيف نُزعجك… هاها.”
على عكس أولئك الذين كادوا يلتهموننا، بدا هؤلاء يفرضون على أنفسهم الابتسام، يترقّبوننا بحذر. وبالتحديد، يراقبون إدريك.
‘هل إدريك أيضًا من النبلاء؟’ فأبي لم يعلّمني السحر وعلم الأعشاب فحسب.
بل أطلعني أيضًا على أُسس الآداب والنظام الاجتماعي.
لهذا لم يكن غريبًا أن أفترض أنّ إدريك، صديق يوستيان، من طبقة النبلاء.
لكن، هل من المعتاد أن يكون الفارق بينهم بهذا الشكل، إلى حدّ المبالغة في التواضع؟
راقبتهم بدهشة، فيما التفت إدريك إليّ، ثم أعاد نظره للأمام.
التعليقات لهذا الفصل " 11"