خرجتُ مِنَ الطُّرُقِ المُزدَحِمةِ المُضاءةِ، ودخلتُ إلى زُقاقٍ مُظلِم. اختبأتُ أنا وإدريك داخل صندوقٍ صغير.
“لقد ذهبَ إلى هذا الاتّجاه! ابحثوا بسرعة!”
بمُجرّد أنْ اختبأنا، مَرَّ رِجالٌ عابِسوا الوجوهِ وكأنَّهُم كانوا ينتظروننا. كان إدريك يُراقبُهم مِن ثُقبٍ صغير، ثُمَّ أخرجَ زَفرةَ ارتياحٍ.
“الحمدُ لله، لَمْ يكتشفوا مكانَنا. يُمكِنكِ الاطمئنانُ الآن، لا مُشكلة.”
ثمّ ابتسمَ لي، وكأنَّه يُريدُ أنْ يُشعرني بالأمان.
في الحقيقة، لَمْ أفهَم الأمر جيّدًا.
كان أولئك الرّجالُ الأشرار يُحاوِلون فعلَ شيءٍ سيّئ. إذن لَمْ يكن هُناك سببٌ يجعلنا نختبئ، أليس كذلك؟
لقد تعلّمتُ أنَّ مَن ينبغي أنْ يختبئوا هُم مَن يُريدون ارتكابَ أفعالٍ قَبيحةٍ ومُخزِية.
وفوقَ ذلك، أولئك الرّجالُ الأشرار لَمْ يستطيعوا استخدامَ السِّحر. لَمْ أشعُر بأيِّ مانا لديهم.
صحيحٌ أنَّ عددَهم كان كثيرًا قليلًا، لكن لَمْ يكن ذلك مُشكلةً على الإطلاق.
بل إنَّ بقائي هنا، في هذا المكان الرّطب والمُظلِم، كان هو المُشكلة الحقيقية.
‘يا ألهي أنا أتضور جوعا…’
قبلَ أنْ نأتي إلى هُنا، أكلتُ قِطعةَ خبزٍ واحدة فقط، ولهذا اجتاحني الجوع.
كنتُ أُريدُ أنْ أعود بسرعةٍ وأتناوَل الأطعمةَ الموضوعةَ خارج الغُرفة.
قَطعَ إدريك كلماتي، ووضعَ إصبعه أمامَ شَفَتَيه.
صِرتُ كالأبكم، أحدِّق فيه بصَمت.
“تبا! أين اختفى هذان الصغيران؟ أمسِكوا بهما بسرعة. يبدو أنَّ الفَتى نَبيل، لكن الفتاة التي معه لَيسَت كذلك. مع ذلك، وجهُها جَميلٌ جدًّا. إنَّها بضاعةٌ نادرة، ويجِب أنْ نُمسكَ بها، عاجلًا!”
أصغيتُ مُتعجِّبةً لِما قالوه. بضاعةٌ نادرة؟
“هاه… أظنُّهُم ذهبوا. الآن يُمكنكِ أنْ تتكلَّمي… لِماذا وجهُكِ هكذا؟”
نظرَ إليّ إدريك بدهشةٍ بعدما لاحظَ تعابيري المُستغربة.
أخرجتُ شَفتَيَّ إلى الأمام وقلتُ: “…هل أنا لَحم؟ هل أنا خنزيرةٌ سَمينة؟”
“قبل قليل قالوا إنِّي ساحرةٌ قبيحة… هل أنا غريبة الشّكل إلى هذا الحدّ؟”
كان أبي والعمّ جيديون يقولان إنَّني جَميلة.
حتى أهلُ القرية كانوا يقولون إنِّي ظَريفة.
لكن هنا، كُلُّ ما أسمعُهُ أنَّني مَطرودة، أو قبيحة، أو لَحم.
حدّق بي إدريك مذهولًا، ثمّ هزَّ رأسه سريعًا.
“لا يُمكن! ذاك المُصطلح لَمْ يقصدوا به ما تفكّرين.”
“إذن ماذا……؟ لقد رأيتُ في المدينة لُصوقًا مكتوبًا عليها (بضاعة) وُضعت فوق اللَّحم.”
“ذا… ذلك صحيح، لكن لَمْ يكُونوا يُريدون أكلكِ. أُقسم لك. كلمة بضاعة نادرة تعني… تعني…”
نظرتُ إليه بينما كان يُدير عينَيه مُفكِّرًا، لكنّ صَوتًا غريبًا قاطَعنا.
صدرَ صوتٌ من خلفنا، فالتفتَ إدريك على عَجل.
كان أحدُ أولئك الرّجال العَابسين يَقِفُ هُناك، يَنظُر إلينا بابتسامةٍ مَشؤومة.
“أرهقتموني في البحث. إذن، نَذهب الآن؟ سأُعاملكُما بلُطف، لا تخافا.”
“اصمُت! أتعرِفُ مَن تُخاطِب حتّى تتجرّأ على قولِ هذا الكلام؟!”
“هه! وماذا لو كنتَ إمبراطورَ البلاد؟ في هذه الأحياءِ البائسةِ، القُوّةُ أقوى مِن القانون!”
تقدّموا وهم يضحكون بخُبث.
فأمسكَ إدريك بمقبض سَيفٍ صغير مُعلَّقٍ عند خَصره. لم يكن سيفًا طويلاً، بل أقصر قليلًا.
رفعَ سيفَه إلى جانبه، وأخذَ وَضعيةً كأنَّه يحميني.
“إيلينا. تراجعي إلى الوراء، سأحمي…… إيلينا؟”
“ماذا تقولُ هذه الصّغيرة؟”
خطوتُ ناحيتهم خطوةً وقلتُ بحدّة: “أنا لَستُ سَمينة إلى هذا الحدّ!”
ومع كلماتي، مددتُ ذِراعي إلى الأرض، فانطلقت طاقةٌ غَمرتِ المكان، فارتجَّت الأرضُ تحت أقدامنا.
وبينما يَرتجُّ الزُّقاق، انشَقَّت الأرضُ وخرجَتْ منها غروم خضراء.
تسلّقَت الغرومُ أقدامَهم بسرعة.
أخرجوا خناجرَهم وقطعوها، لكن نموّها كان أسرع ممّا يستطيعون مُواكبتَه.
فمددتُ يدي نحوهُم وصرختُ: “لا تُعامِلوني كَلَحم!!”
امتدّت الغروم مع إشارتي، فقيّدَت أرجلَ الهاربين، وطرحتهم أرضًا.
صرختُ بأعلى صوتي: “أنا لَستُ ساحرة! ولستُ قبيحة! أنا جَميلة! أبي قال إنِّي ظَريفة! ولستُ سَمينة! لَستُ لَحمًا!! لا تُنادوني لَحمًا!!”
انهالت الغروم عليهم بالضّرب.
تردّد صَوتُ إدريك مِن خلفي، لكنّي كُنتُ غارقةً في ثورتي لَمْ أنتبه.
وفي ساعةٍ مُتأخّرة مِن اللّيل…
امتلأ الزُّقاقُ النّائيُ بأصواتِ الضّربِ والصّراخ.
لَمْ تَطُلِ الفوضى، إذ سرعان ما هَدَأت.
فقد أبلغَ أحدُ أصحابِ المَتاجر القريبة الحُرّاسَ، فجاؤوا على عَجَل.
حين رأوا الرّجالَ مُكبَّلين بالغروم ومُغمى عليهم، بَدوا مُندهشين.
قبل أنْ أجيبَ عن أسئلتهم، تقدَّم إدريك وعرضَ عليهم شيئًا ما.
ففوجئ الحُرّاس، ووقفوا له مُحترمين، ثُمَّ قيّدوا أولئك الرّجالَ وأخذوهم.
ولم يسألْني أحدٌ عمّا فعلتُه.
بعد أنْ انتهى كلّ شيء، جاءني إدريك.
“لا، لكنّي ما زلتُ غاضبة لأنَّهم عامَلوني كَلَحم.”
“قلتُ لكِ لَيس المقصود…… آه، لا بأس. من الأفضل أنْ تفهمي الأمر هكذا.”
أملتُ رأسي مُستغربة، فاكتفى إدريك بهزِّ رأسه، ثمّ نظر إلى الغروم المُتناثرة.
“لكن، كيف فعلتِ هذا؟ رأيتُكِ أيضًا تستعملين الغروم حين تَسلّقنا الجدار.”
“ها؟ رأيتَني؟ كنتُ أظنّ أنّه لا أحد يُراقب.”
اتّسعت عيناي، فضحكَ بخفّة. فرفعتُ كتفيّ وقلتُ: “الأمر بسيط. فقط جعلتُ الغروم تنمو بسرعة.”
“تنمو بسرعة؟ مِن أرضٍ خالية؟”
“نعم. طاقةُ النّمو تُنبت البذور حتّى في التُّراب اليابس الخالي مِن الماء. لكن أنْ تنمو بهذه السُّرعة، فهذا أنا وأبي فقط مَن يُمكنهما فعلُه. هه-!”
فخَرتُ بصَدرِي وأنا أتكبَّر. أمّا هو، فانحنى وأمسكَ ببعض الغروم.
“إنبات البذور في أرضٍ خالية…….”
لمسَ الغروم الرّطبة، ثُمَّ رفعَ رأسه إليّ.
“في البداية ظننتُه خِداعة. لكن، يبدو أنَّه ليس كذلك.”
أملتُ رأسي باستفهام، فألقى الغروم أرضًا وأمسكَ يديّ.
اتّسعت عيناي من المفاجأة، فيما اقتربَ مني، ونَظَر إلى عينَيّ الزّرقاوَين اللامعتَين.
حدّقتُ فيه متعجّبة. بدا أنَّه يقول شيئًا مهمًّا، لكن فجأة يطلب أن أكون له؟ ما معنى ذلك……؟
تذكّرتُ حكايةً قرأها لي أبي.
الأمير يُنقذ الأميرة، ثم يطلُب منها أن تُصبِح أميرتَه وحده.
‘لابُدَّ أنَّه يقصد ذلك!’
لم أتوقّع أنْ يأتي ذلك اليوم بهذه السّرعة.
“هَمْ- هل تُريدني أنْ أكون لكَ يا إدريك؟”
نظرتُ إليه بزهو، رافعةً ذَقني.
“لكن ذلك صعب. لأنّي سأتزوّجُ الأمير.”
“لقد قرّرتُ منذ صغري أنْ أتزوّج أميرًا وسيمًا.”
حتى وإنْ كان إدريك وسيمًا ومُميّزًا، إلّا أنّه لَيس أميرًا. فالأمير دائمًا يَملِك فرسانًا يُرافقونه، أليس كذلك؟
“هممم! شكرًا لكَ على مشاعرك، لكن أرفُضُها.”
“انتظري، إيلينا… أنا… أقصِد…”
“شكرًا على مساعدتكَ اليوم. إذن، وداعًا.”
سحبتُ يدي، وانحنيتُ له. ثمّ مشيتُ مبتعدةً، تاركةً خلفي إدريك المُتجمِّد.
ظلّ إدريك يُتابعُ إيلينا بعينيه، لكنّه لم يَستطِع إيقافها.
حاول أنْ يجد تفسيرًا آخر، لكنّ الأمر كان واضحًا.
لَمْ يكن يتخيّل أنَّه سيُرفَض بهذه الطّريقة.
أهذه هي القاعدة المشهورة: (اعتراف واحد = رفض واحد)؟
والمُصيبة أنّ مَن رَفضتهُ لم تتجاوز الثامنة.
كان هذا العرض مجرّد حلٍّ فكّر فيه لأزمةِ الجفاف غير المسبوق الذي ضربَ الإمبراطورية.
لكنّها اعتقدته اعترافَ حُب!
“ستتزوّجين أميرًا فقط، تقولين؟”
رفضتْه، وهو وريثُ العرش، حتّى مع أنّه سيكون إمبراطورًا مُستقبلًا.
“حتى وإن كنتِ الوحيدة على وجه الأرض، لن أجعلُك زوجةً لي!!”
كان هذا أوّل يومٍ في حياتِه يجرَح فيه كبرياؤه بسبب رفضٍ قاسٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 10"