عادَ أصلان بسرعةٍ إلى وجهه البارد المعتاد، لكن لمسته مع فيفيان أصبحت أكثرَ نعومة و راحة.
استلقى بجانبها، و وضع ذراعه تحت رأسها كوسادة، وكان تنفّسه يعكس رضًا عميقًا.
“بهذه الطّريقة، إنّه شعور رائع. كأنّنا زوجان.”
“هذه أوّل مرّةٍ أرى فيها ابتسامتكَ.”
“كانت تبدو محرِجة، أليس كذلك؟ انسي ما رأيته اليوم. أنا مُحرَجٌ أيضًا.”
“لا، كانت تليق بكَ. كثيرًا…”
لو كانتْ هذهِ هي المرّة الأولى التي التقت فيها بأصلان، كيفَ سيكونُ شعورها؟
توقّفَ أصلان عن الحركة للحظة، متفاجئًا بردّها. لكن ذلكَ استمر لوهلة. غيّرَ الموضوع بسلاسة حتّى لا تلاحظ.
“تبدين بمزاجٍ جيّد.”
“قبل أن تأتي، كنتُ أثرثر مع أختي و سيليا. لم نفعل ذلكَ منذُ حفل بلوغي.”
“هل أطلب من الماركيز البقاءَ لفترةٍ أطول؟”
“أنتَ لا تحبُّ الضوضاء. سمعتُ من دييغو أنّك لم تدعو أيّ أجنبي إلى قلعة بلاكفورد من قبل.”
كانَ الشّمال يميل إلى نبذ الغرباء، وبلاكفورد، بقربها من موطن الوحوش، كانت أكثرَ حذرًا تجاه الغرباء.
لكن حتّى في منزل العاصمة، نادرًا ما زارها ضيوف، و حفل بلوغها كان أوّل مأدبة تُقام.
“لا داعي للقلق. إذا كنتِ سعيدة، فأنا سعيد.”
“لكن…”
داعب أصلان خدّها الأحمر بلطف. عيناه الذهبيّتان، و هما تواجهانها، تلألأتا كقلب الشمس.
“كلّما رأيتكِ تبتسمين، أشعر و كأنّ طائرًا صغيرًا يرفرف داخلي.”
“طائر؟”
“طائرٌ صغير لطيف بعيون زرقاء و ريش ذهبي.”
بينما كانت فيفيان تحدّق في أصلان مسحورة، لمحت شيئًا.
طائرٌ صغير بحجم نصف كفّ هبط على شجرة خارج النافذة. ريشه، الذي كان أبيض في الأصل، بدا مصفرًا تحتَ ضوء الغرفة الخافت.
يبدو أنّه الطائر الذي تحدّث عنه أصلان. ضحكت فيفيان بخفّة لمظهره المفاجئ.
“لم أكن أعلم أنّك تحبّ الطيور.”
“نعم، أحبّها.”
انحنت عينا أصلان بلطف. كانَ مظهره ساحرًا و جميلًا بما يكفي ليسحر حتّى قدّيسًا زاهدًا.
“من رأسها إلى أخمص قدميها، أريد أن ألتهمها دون أن أترك أثرًا.”
“..…!”
استفاقت فيفيان، التي كانتْ تذوب في الجوّ العاطفي، و فتحتْ عينيها على مصراعيهما.
شعرَ الطّائر الصّغير بالخطر، فتوقّف عن الحركة، ثم هربَ كالريح و اختفى في الظّلام.
‘خدعني بجوّه العاطفي، لقد وقعتُ في فخه مجدّدًا!’
تذكّرت ذكرياتٍ قديمة.
حماسه و هوسه بشريحة لحم بقر بقرنين، وإصراره القوي على الحصول على ما يريد!
“كح، هل يمكنكَ الابتعاد قليلًا؟”
رفعت فيفيان رداءها المتراخي إلى كتفيها و تكوّرت على حافّة السّرير.
على المرتبة الواسعة، تكوّرت على شكلِ حلزونة صغيرة.
“فيفيان؟”
“تصبح على خير.”
يا طائر، اهرب بعيدًا و عش جيدًا!
أغلقتْ فيفيان عينيها بقوّة، متجاهلة أصلان القلق خلفها.
* * *
مرّ الوقت بسرعة، و جاءت اللّيلة الأخيرة لإقامة الماركيز و زوجته في بلاكفورد.
فتحت فيفيان قاعة المآدب الضخمة لتوديع الضّيفين.
تدفّقت الأطباق التي أعدّتها سيّدة القلعة بعناية إلى الطاولة، و رفع الفرسان و الأتباع نخبهم للعلاقة القويّة بين عائلتي الدوق و الماركيز.
“سيّدتي، هل أنتِ بخير؟”
رفعت فيفيان رأسها و هي تدور حول الطاولات للتأكّد من راحة الجميع.
حيّاها الفرسان الشّباب بانضباط.
“سمعنا أنّه أُغمي عليكِ قبل أيّام بسبب الإرهاق من تحضير مأدبة. لا أحد يقول ذلك، لكن الجميع قلق عليكِ.”
“فقط تقيّأتُ بعض الدم و فقدتُ الوعي. ليس شيئًا كبيرًا.”
“كيف تحملين شيئًا ثقيلًا كهذا؟ أعطني إيّاه!”
أخذَ أحد الفرسان صينيّة صغيرة من يدها بسرعة.
كانَ الجميع رجالًا أقوياء البنية. بينهم، بدت فيفيان كقطعة قطن بيضاء هشّة .
رفعت فيفيان الفرو إلى رقبتها و ابتسمتْ باحراج.
“جسدي ضعيف، لذا لم أكن سيّدة جيّدة. اليوم على الأقل، أريد أن أؤدّي دوري جيدًا.”
“كيف تقولين إنّكِ لم تفعلي شيئًا!”
“اسألي أيّ شخص في بلاكفورد، و سيمدحكِ. هناك الكثيرون سيقفون إلى جانبكِ حتّى لو تشاجرتِ مع السيّد.”
“شكرًا على كلامكم.”
ربّتتْ فيفيان على الفرسان المتحمّسين و عادتْ إلى مقعدها.
‘كلّ شيءٍ يسير بسلاسة. كما خطّطت.’
لم يكن الهدف الحقيقي للمأدبة مجرّد وداع عادي.
لهذا الغرض، تجوّلت فيفيان في القلعة متظاهرةً بالعمل، و استخدمتْ مهارة تقيؤ الدم المُعدّة مسبقًا لجذبِ الانتباه.
‘لكن أصلان، لسببٍ ما، كانَ غاضبًا جدًا.’
بما أنّه كانَ دائمًا سريع الغضب، قرّرت عدم الاكتراث.
عاد أصلان، الذي كان غائبًا مع الماركيز، وجلس بجانبها، ممسكًا بخدّها بلطف.
“كيف حالكِ؟ هل مزاجكِ جيّد؟”
“لا شيء يزعجني. قلتُ ذلك عدّة مرّات.”
“هكذا قلتِ، ثم أُغمي عليكِ قبل أيّام. لديكِ موهبة لجعل الناس يفقدون عقولهم.”
“شكرًا لك، أصلان.”
لم تكن متأكّدة إن كانت موهبة جعل الناس يجنّون شيئًا جيّدًا أم سيّئًا، لكنّها تجاهلت كلامه و نظرت إلى قاعة المأدبة.
كانت المرّة الأولى التي تُفتح فيها القاعة منذ بنى أصلان قلعة بلاكفورد.
علاوةً على ذلك، كانت السيّدة المحبوبة، رغم مرضها، قد أعدّت الحدثَ بنفسها.
حتّى لو لم يكن حفل بلوغ، كان عليها إنجاح هذا الحدث. تحمّس خدم الدوقيّة و خدموا الضيوف بإخلاص.
كانت إيسيدورا بينهم.
‘متعب، أليس كذلك؟ بالتّأكيد أنتِ غاضبة.’
لا شيء يمكن أن يهين كبرياء إيسيدورا أكثرَ من خدمة فتاة صغيرة تَحتقرها. كانت شفتاها متورّمتين من الغضب.
ابتسمت فيفيان وأمسكتْ بذراع أصلان.
“حانَ وقت تقديم الحلوى. سأذهب.”
“دعي الخدم يتولّون الأمور البسيطة و ارتاحي. لقد تعبتِ بما فيه الكفاية.”
“سموّه محقّ. لقد تلقّينا بالفعل ما يكفي من كرمكِ، سيّدتي. وجهكِ يبدو شاحبًا.”
تدخّل الماركيز بقلق، لكن فيفيان هزّت رأسها وقالت إنّها بخير.
في الحقيقة، وضعت بودرة أفتح بكثير من المعتاد لتبدو شاحبة. كانت بشرتها بيضاء أصلًا، لكن الآن بدت خالية من الحياة.
“غدًا سنفترق، ولا أعرف متى سنلتقي مجدّدًا. أريد خلق ذكريات سعيدة حتّى النهاية.”
“فيفيان.”
“سأعود بسرعة. حسنًا؟”
“…..”
أفلتَ أصلان يدها بهدوء، التي كان يمسكها بقوّة.
ابتسمتْ فيفيان و استدارت. رأت إيسيدورا تدخل ممرّ الخدم.
لاصطياد النحلة، يجبُ هزّ الخليّة أوّلًا.
“آه، أنا متعبة جدًا. لمَ أنا مضطرّةٌ للقيام بهذا العمل الوضيع؟”
“ألا تشعرين بالفخر؟ هذه أوّل مرّة أرى السيّدة متحمّسة هكذا.”
يبدو أنّ هناك خادمتين أو ثلاثًا غير إيسيدورا.
تردّدتْ أصوات الحديث في الممرّ الضيّق.
“بالطبع هي متحمّسة. تجلس كسيّدة القاعة الذهبيّة، و تتباهى، فما المشكلة؟”
“أنتِ غريبة اليوم. ما الذي حدث؟”
“إيسيدورا كانت دائمًا غريبة. دائمًا ما تشتكي من السيّدة، أليس كذلك؟”
“آه، ربّما أنا متضايقة لأنّني عملتُ طوالَ اليوم دون راحة.”
عندما بدأ الجميع بتوبيخها، أدركتْ إيسيدورا أخيرًا نظراتهم. مسحت شعرها المتطاير و تنهّدت بقوّة.
“أنتم تعرفون. أنا الخادمة الخاصّة بسيّد القلعة.”
“وماذا في ذلك؟”
“أعني أنّني لستُ في موقع للقيام بهذه الأعمال الوضيعة. الوحيد الذي يحقّ له أمري هو سيّد القلعة، لكن السيّدة تأمرني بدخول المطبخ وما إلى ذلك…”
“اسمعي، ألستِ تتخطّين الحدود ؟”
تحوّل الجوّ إلى برودةٍ أكبر بعد كلماتِ إيسيدورا التي بدتْ كتبرير.
بينما كانت الخادمات الأخريات يوبّخنها، صنعت فيفيان صوتًا متعمّدًا من حذائها. التفتت أنظار الخدم إليها.
“سيّدتي…”
“عمّ تتحدّثون؟”
ابتسمتْ فيفيان ببراءة و تدخّلت.
هزّت الخليّة، و النحلة الغاضبة التي أُصيبت في مقتلها أنهكت نفسها.
حانَ دورها الآن.
“جئتُ لأخذ الكعك، لكنكم تبدون مشغولين. لا تهتمّوا بي، أكملوا حديثكم.”
“…..”
لم تستطع الخادمات الابتسام رغمَ ابتسامة السيّدة الموقّرة.
لقد رأوا بوضوح. خدّاها، اللذان كانا دائمًا متورّدين، كانا شاحبين كأنّ الحياة قد غادرتهما.
السيّدة الطيّبة و الرّقيقة تخطّط لتجاهل سماع خادمة تهينها.
“سيّدتي، لا تسامحيها. يجب معاقبة إيسيدورا!”
“هل يمكنكم الخروج؟”
“لكن سيّدتي…!”
“أريد التحدّث مع إيسيدورا على انفراد. و أرجو أن تبقوا ما سمعتموه سرًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 96"