“آه، أنا منزعجة!”
تسلّلتْ أشعّة الشّمس الصباحيّة المتألقة مِن خلال الستائر.
فتحتُ عينيّ بتثاقل، ونظرتُ إلى السّقف مذهولة، ثم بدأتُ أتقلبّ يمينًا و يسارًا.
حالما استيقظتُ، غمرني شعورٌ بالحزن والأسى.
إذا بقيتُ هكذا، سأنتهي ببكاءٍ دراميّ وحدي. قمتُ بسرعة وأخذتُ أتجول في الغرفة بفوضى.
“لم أعدْ أتحمّل!”
لو كانت هذه روحًا شريرة غير مرئيّة، سأمسك بها وأعبر خلالها، حتّى لو كانت نصف شفّافة. سأدمّر ثلاثة أجيال منها!
لا أعلم إن كانت لها أسلاف، لكن…
‘لن تكون شفّافةً تمامًا، أليس كذلك؟’
تلكَ ستكون مشكلة حقيقيّة.
* * *
توقّفت فيفيان عن التّجوّل وهي تفكّر مليًّا في طريقة لضرب كائنٍ شفّاف، عندما قاطعها طرقٌ على الباب من الخادمة الرّئيسيّة إيما في الرّدهة.
في الآونة الأخيرة، كانت إمّا تتولّى رعاية فيفيان بدلاً من إيسيدورا.
“صباح الخير، سيّدتي.”
“أجل، صباح الخير. أين أصلان الآن؟”
“السيّد يتناول طعامه. لكن لمَ تسألين…”
“سأنزل أنا أيضًا.”
تذكّرتْ فيفيان ليلة الأمس عندما رفضها أصلان ببرود.
شعرتْ بألمٍ في صدرها، كما لو أنّها استيقظت لتوّها من حلمٍ. هذا الشّعور لا بدّ أنّه غضب و رغبة في التّحدّي. لا يمكن تفسيره إلّا بهذا.
بعد أن اغتسلت بسرعة و غيّرت ملابسها، هرعت فيفيان إلى غرفة الطّعام. حاولتْ إيما مطاردتها وهي تصرخ خوفًا من سقوطها، لكنّ فيفيان كانت في عجلةٍ من أمرها.
“آه، الأميرة؟”
كانَ ليام يحمل كومةً من الكتب متّجهًا إلى غرفة الدّراسة، فنظر إليها مندهشًا ومائلًا رأسه. أرسل مساعديه أوّلاً و سألَ فيفيان:
“هل هناك أمرٌ عاجل؟”
“آه، ليام. سمعت أنّ أصلان في غرفة الطّعام.”
“إذا كنتِ تقصدين الدّوق الأكبر، فقد صعدَ إلى مكتبه لتوّه. يبدو أنّه تلقّى اتّصالًا من الخارج.”
“مكتبه؟ شكرًا.”
غيّرت فيفيان هدفها بسرعة. بالكاد لحقت بها إيما، وهي تمسك بليام من ياقته و تصرخ في يأس.
تحرّكتْ فيفيان كالسّنجاب الطّائر و وصلت إلى المكتب.
“أصلان!”
“أوه، سيّدتي؟”
“سيّدتي؟ هل هي حقًّا السيّدة؟”
عندما فتحتْ الباب، التفتت إليها أعينٌ كثيرة.
كانَ مكتب قصر العاصمة بحجم غرفة استقبال صغيرة، لكن مكتبَ قلعة بلاكفورد كان بحجم قاعة دراسيّة.
كان هناك وزراء مألوفون و آخرون يراهم للمرّة الأولى، لكن النّتيجة واحدة: أعينهم البرّاقة كانت ثقيلةً جدًّا.
‘لمَ ينظرون إليّ هكذا؟’
شعرتْ بشعورٍ مشابه لما شعرت به عندما التقت عيناها بقمّة رأس غارسيل. تراجعت فيفيان خطوةً بخفّة.
“أم، جئتُ لمقابلة أصلان…”
“إذا كنتِ تقصدين سيّد القلعة، فقد ذهبَ إلى ساحة التّدريب. إذا أخبرتِنا بما تريدين، سنحلّه بسرعة الرّيح.”
أيّ لعنة هذه؟! لمَ لا يبقى في مكانٍ واحد؟!
صرّت فيفيان أسنانها داخليًّا، بينما أظهرت ابتسامةً مشرقة على وجهها في عرضٍ نادرٍ للمهارة.
“لا، لا يمكنني إزعاج أناسٍ مشغولين بأمرٍ شخصيّ. اعملوا براحتكم.”
“كم هي لطيفة سيّدتنا! كنت أظنّ أنّنا سنعاني إلى الأبد تحت قيادة سيّد القلعة البارد القاسي، آه!”
خلفَ ظهر فيفيان وهي تنظر إلى ساحة التّدريب، تعرّضَ أحد الوزراء الثرثار لضربةٍ على رقبته.
عندما التفتت لشعورها بالغرابة، كانَ الوزراء يومئون بوجوهٍ موثوقة. لم يكن من الممكن أن يُعتَبَروا غريبين منذ اللّقاء الأوّل.
‘هل تخيّلتُ الأمر؟’
لِسببٍ ما، شعرت أنّ عدد الأشخاص قلّ بواحدٍ عمّا كان عليه، فحكّتْ ذقنها.
“اذهبي بحذر!”
على أيّ حال، غادرت فيفيان المكتب وسط ترحيبٍ حارّ من الوزراء.
عندما وصلتْ إلى ساحة التّدريب بخطواتٍ متعبةٍ قليلاً، انفجرَ غضبها المكبوت أخيرًا. لم يكن أصلان هناك أيضًا.
“أيها اللعين!!!”
“هاه؟ سيدتي! ما الذي جاء بكِ إلى ساحة التّدريب؟”
بدلاً منه، رحّب بها ديلان بصخبٍ مبالغٍ فيه.
توقّفَ الفرسان، الذين كانوا يتدرّبون بقوّة وسط الغبار، عن الحركة و انحنوا عند قدميها.
“نحيّي الدّوقة الكبرى!”
“… سعدتُ بلقائكم.”
الوجه الاجتماعيّ. الوجه الاجتماعيّ. الوجه الاجتماعيّ.
عضّت فيفيان أسنانها و رفعتْ زاوية فمها بصعوبة.
“ديلان، ألم ترَ أصلان؟ سمعت أنّه في ساحة التّدريب.”
“لو كنتُ أعلم أنّكِ قادمة، لسألتُه مرّةً أخرى. قال إنّه ذاهبٌ إلى مكانٍ ما، لكنّني لم أسمعه جيّدًا.”
“آه، حقًّا؟ ألم تسمعه؟”
ألصقت فيفيان صرصورًا التقطته في الطّريق برقبة ديلان، متمنّيةً أن يستمتعَ بصوتِ الحشرة الموسميّة.
بعد لحظات ، غادرتْ ساحة التّدريب مع صراخ ديلان اليائس كخلفيّةٍ صوتيّة.
“لمَ كنتُ أبحث عن أصلان أصلًا؟”
آه، كم أنّ الحياة بلا معنى.
في البداية، كانت تشعر بألمٍ في قلبها كلّما تذكّرته، لكنّها الآن لم تُبالِ.
لم يتبقَّ سوى ضحكةٍ جوفاء.
“سأذهب إلى المكتبة.”
عليّها البحث عن طريقةٍ لضرب ذلك الكائن الشفّاف.
لكن خططها تحطّمت مرّةً أخرى. كانت هناك شخصيّةٌ غير متوقّعة في المكتبة.
‘لمَ أصلان هنا؟’
كان يُقلّب كتبًا قديمةً مكدّسةً بعنفٍ، ثمّ عبثَ بشعره بنفاد صبرٍ عندما لم يجد ما يريد. انتفخ فكّه وكأنّه يكبت غضبًا.
‘همم، لا أعرفُ ما يحدث، لكن من الواضح أنّ مواجهته الآن تعني الموت.’
بينما كانت فيفيان تتراجع بخفّةٍ كالمياه الجاريةـــــ
“أميرة، ماذا تفعلين هنا؟”
“يا إلهي!”
كانَ هيسيوس، بمظهر فتى، يميل برأسه. سحبته فيفيان دون أن تهدّأ من خفقان قلبها، ولم تتوقّف حتى وصلا إلى زاوية الرّدهة.
اتكأت على الحائط وانزلقت إلى الأرض.
“آه، أفزعتني! ماذا تفعل أنتَ هنا؟”
“كنتُ أهربُ من إلحاح ريجينا.”
“لا أعرف ما الموضوع، لكنّك بالتأكيد المخطئ.”
“لم أتوقّع أن تكون ثقتكِ بي منخفضةً لهذا الحدّ. أعتبر نفسي شخصًا يعيش بإخلاصٍ نوعًا ما.”
شعرتْ و كأنّها تسمع هراءً. خلف ظهر فيفيان، انتشرت هالةٌ قاتلة.
“يبدو أنّكما تستمتعان.”
شعرت أنها تسمع هذيانًا من مكانٍ ما. و خلف ظهر فيفيان التي ضحكت ساخرةً ، كانَ هناك شعور قاتم يلوح في الأفق
“عن أيّ شيء كنتما تتحدّثان بكلّ هذا المرح؟ هل هو شيءٌ لا يجب أن أسمعه؟
“كنا نناقش تصميم فستان السيّدة.”
“مثل هذه الأمور يجب أن تُنقلّ عبر الخدم.”
“الاستماع مباشرةً يساعد في عكس ذوق السيّدة بدقّة.”
مسحت فيفيان عينيها. شعرت و كأنّ شرارًا يتطاير بين أصلان و هيسيوس وهما يواجهان بعضهما.
كانَ أصلان خبيرًا في الشّكوك و رمزًا لعدم الثّقة بالبشر. بما أنّه يشكّ في هيسيوس، بدا أنّ عليها التّدخّل بنفسها لحلّ الموقف.
“نعم, صحيح. ميغيل لطيف جدًّا و يهتمّ بذوقي و وضعي بعناية.”
“حقًّا؟”
“بالطّبع. بل إنّه يقيس مقاساتي بنفسه، وهو أمرٌ يمكن أن يُترك لمساعد.”
ابتسمَ هيسبوس بمظهرٍ متفاخر، بينما صرّ أصلان أسنانه، غير راضٍ لسببٍ ما.
‘همم, هذا لا ينفع.’
يقال إن العاقل يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع. ليسَ جبنًا، بل اتباعًا لحكمة الحكماء.
بينما كانت فيفيان تتراجع بخفّة، أُمسكَ خصرها النحيف بلطف.
“إلى أين تذهبين؟”
“لـ… لتناول وجبةٍ خفيفة…؟”
“إذًا تعالي معي، سيدتي. سأرافقكِ بنفسي.”
“فيفيان ستتناولُ الوجبة الخفيفة معي أنا. اتّفقنا على ذلك.”
متى؟
أرادت السّؤال، لكنّها تذكّرت فضائل الشخص العاقل و عضّت شفتيها.
استدعى أصلان خادمًا لإحضار الوجبات الخفيفة، ثمّ قادها إلى المكتبة.
لكن هيسيوس تبعهما بسلاسة. رفع أصلان حاجبه.
“ما الأمر?”
“أبحث عن نموذج تطريز. لقد أذنت السيّدة باستخدام المكتبة.”
متى فعلتُ ذلك؟
أرادتْ أن تعترض، لكنّ الباب الذي أمسكه أصلان كان يتفتّت كالكعك، فقرّرت النّظر إلى الجبال البعيدة.
كانت هناك كومة كتب على طاولةٍ تتّسع لعشرة أشخاص.
دفعها أصلان جانبًا بسلاسة، فرفعَ هيسيوس حاجبه.
لاحظَ أصلان هذا التغيّر على الفور.
“ما الأمر؟”
“لا شيء، مجرّد….”
“تحدّث.”
“لم أكن أعلم أنّ الدّوق الأكبر مهتمّ بالسّحر الأسود. فوجئت برؤية كتابٍ سحريّ متعلّق باللّعنات.”
نقلت فيفيان نظرها إلى كومة الكتب. على عكس كلام هيسيوس، بدت كتبًا قديمةً عاديّة. لكنّ أصلان عبس و كأنّه أُصيب في مقتل.
“كيف عرفتَ ذلك؟”
“تعلّمتُ القليل عن السّحرِ أثناء مساعدتي في تصميم فستان السيّدة.”
“يبدو أنّه أكثر من مجرّد القليل “
“شكرًا لتقديركَ مهاراتي المتواضعة.”
كانت فيفيان تدحرج عينيها بينهما.
تفادى هيسيوس استجواب أصلان كسمكة مراوغة، لكنّ وجه أصلان أصبحَ أكثر شكًّا.
‘أيهت الوغد، ما هذه المزحة؟’
كانَ عليها تهدئة الموقف قبل أن يمتدّ شكّ أصلان إليها. حاولت إسكات السّاحر، لكن خصرها أُمسك مرّةً أخرى.
“آه!”
تعثّرت و فقدتْ توازنها.
ظنّت أنّها ستقع، لكن أصلان جذبها و أجلسها على فخذه.
“أصلان؟”
“الوقوف لفترةٍ طويلة قد يرهق جسمكِ.”
رمشت فيفيان بحيرة، و بسببِ فرق الطّول، تتأرجحت ساقاها فِي الهواء.
كانَ وجهُ ميغيل المبتسم سابقًا قد أصبح غامضًا، مما أكّدَ أنها بدت بمظهرٍ محرج للغاية.
‘لستُ مريضةً لدرجة أنّ الوقوف يؤذيني…’
أرادت النهوض، لكن خصرها كانَ محكومًا. بينما تتخبّط، سمعت تذمّرًا مكبوتًا فوق رأسها.
كانَ أصلان يعضّ أسنانه، و شدّ خصرها النحيف بقوّة أكبر.
“لحظة، لا تتحرّكي. الوضع مجرج قليلاً.”
“أعتقدُ أنَّ المريضَ الحقيقيّ هنا هو أنت، لا أنا.”
شعرتْ بأنفاسه السّاخنة على رقبتها ، و كأنّ به حمّى. لذا بدا أنّه يتدلّل و يطلب البقاءَ معها بشكلٍ غير معتاد.
‘هكذا تجعلُ قلب المرء يضعف…’
التعليقات لهذا الفصل " 92"