في غمضة عين، ليام الذي أصبحَ مديرًا لمعهد الأبحاث، كانَ عاجزًا عن إخفاء فرحته الممزوجة بالذهول.
“رأيت فنانين يحظونَ برعاية النبلاء، لكن شخصًا مثلي…”
“لا أفهم حقًا، يا أميرة.”
تدخّلَ هيسيوس، الذي كان يراقب حديثهما بملل.
ألقى نظرة على العقد الذي أعده الكاتب، ثم فتح فمه مصدومًا.
“حتى لو كنتِ تحبين الناس، هناك حدود! كيف تثقين بغريب و تعطينه هذا المبلغ؟”
“في الحقيقة، أنا أفكّر بالمثل. هذه فرصة لا تُفوّت بالنسبة لي، لكنني أريد أن أعرف ما الذي رأته الأميرة فيّ لتتّخذ هذا القرار.”
كانَ ليام فضوليًا، فركلَ هيسيوس الساخر وتحدّث بحذر.
كانت فيفيان تتوقّعُ هذا السؤال. من خلال حديثهما، أدركتْ أن ليام يفتخر بمهاراته.
لو ذكرت الشفقة أو الرحمة، لجرحت كبرياءه.
لكن إجابةً غامضة قد تثير الشكوك.
“لأن هيسيوس أقرّ بمهاراتك.”
“ماذا؟”
“قال هيسيوس إنكَ خبير في الأعشاب و أنكَ تريد أن ترى حالتي.”
تابعت فيفيان بهدوء.
“هيسيوس هو أعظم عالم أعرفه. ساحر بارع، وشخص أثقُ به كثيرًا.”
“……”
“إذا أقرّ شخصٌ مثله بك، فلمَ لا أثق بك؟”
الحل بسيط. كلّ ما عليها هو تقديم سببٍ يرضي توقّعات ليام و يحترم كبرياءه.
و كانَ هيسيوس الخيار المثالي.
السّحرة عادةً يمتلكون معرفة واسعة، وقد رأى ليام قدرات هيسيوس السحريّة على الجرف.
“إذن، تثقين بي لأن هذا السّاحر اللعين أقرّ بي؟”
“آسفة، ليس سببًا كبيرًا.”
“لا، لا بأس. لقد أخطأتُ للحظة.”
فرك ليام رقبته بخجل، ثم تابع.
“الثقة الحقيقيّة تبدو سهلة، لكنها من أصعب الأمور وتتطلب شجاعة. الجبناء لا يستطيعون فعلها.”
“ليام.”
“على الجرف، رأيت شجاعتكِ وأنتِ تنقذينني رغم خطر السقوط. ومع ذلك، اختبرتكِ كجبان…”
خطفَ ليام القلم والعقد.
شطب نسبة الـ70% وكتب 100%، مُعطيًا فيفيان كامل الأرباح.
“أنتِ أعظم مما تصوّرت. أخجل من شكي بصدقكِ.”
“هل هذا جيد؟ أن تتنازل عن كلّ الأرباح…”
“في المقابل، أريد أن أصبح من رجالكِ، مثل هذا الساحر. و سأضمن نجاح هذا البحث!”
عقدَ ليام قبضته، مؤكّدًا عزيمته.
هكذا، حصلت فيفيان على علاج السلّ، و تابعٍ مخلص، و100% من أسهم شركة أدوية عملاقة.
* * *
“آه…”
عادَ هيسيوس إلى غرفته و استلقى على الأرض. تحوّلَ الفتى الجميل إلى شاب طويل القامة في لحظة.
نظرَ إلى السّقفِ المنخفض المتواضع مقارنة بمختبر النقابة.
رغم اهتمام فيفيان، كانت الغرفة محدودة بسبب هويته المزيّفة كخيّاط.
“هذا ليس ذوقي.”
كانتْ حياة العاصمة ممتعة.
كانَ يستمتع بمشاهدة البشر يتقاتلون من أجل البقاء، وكان الذهب المتدفّق مكافأة جيّدة.
الشّمال الهادئ البسيط كانَ بعيدًا كلّ البعد عن ذوقه.
“هيسيوس هو أعظم عالم أعرفه. ساحر بارع، وشخص أثقُ به كثيرًا.”
“إذا أقرّ شخصٌ مثله بك، فلمَ لا أثق بك؟”
لم يحتج إلى اعتراف أحد، فهو ملك السّحرة. لا يحق للبشر الحكم عليه.
لكن عندما قالت الأميرة ذلك، شعرَ باضطراب غريب في صدره. هذا الشّعور الغريب لم يكن ذوقه على الإطلاق.
“سيدي!”
دوّت خطواتٌ ثقيلة في الرواق، وانفتح الباب فجأة.
كانت ريجينا تلهث، ثم أظهرت غضبها عندما رأت هيسيوس مستلقيًا بهدوء.
“أيها الأحمق، أين كنت؟ بحثتُ عنكَ طويلًا!”
“ما الأمر؟”
“يبدو أنني وجدت سبب الظاهرة الغريبة. تتذكّر الجرف المنهار؟ النقاط المحدّدة تتمركز حوله.”
جلستْ ريجينا بجانب رأسه و فردت خريطة، مشيرة إلى أماكن تدفّق الطاقة السحريّة الشاذّة.
“هنا، هنا، هنا، وهنا أيضًا.”
عند ربطِ النقاط، تشكّل نجمة خماسيّة مثاليّة حول الجرف.
نهض هيسيوس نصف جالس، مرّر أصابعه على الخريطة، ثم نقر لسانه.
“إذن، ليست ظاهرة طبيعيّة.”
“هذا جيد. إذا كان السبب واضحًا، يمكننا تدميره.”
“حظًا سعيدًا.”
“لا تتهرّب! ستشارك أيضًا، فهمت؟”
كلّ شيء مزعج هنا، تمتمت ريجينا ، ثم طوت الخريطة و وضعتها في جيب ردائها. ألقى هيسيوس نظرة جانبيّة عليها و ضحك.
“من المزعج الآن؟ أنتِ؟”
“…..”
عقدت ريجينا قبضتها، وانتفخت عروق يدها. سعّل هيسيوس و أبعدَ بصره بعيدًا.
“أتحدّث عن الدوق! لمَ يعاملني بحذر شديد؟ هل أنا خطرة؟”
“نظرًا لنظراتكِ الماكرة نحو الأميرة، فهو محق.”
“……”
لمع الغضب في عيني ريجينا. عضّ هيسيوس شفته، محدّقًا في الأفق.
“بينما يحمي بشدّة الشخص الذي يجب الحذر منه.”
“تتحدّثين عن الخادمة مجدّدًا؟”
“تتصرّف كأنّها سيدة القلعة، تشوه سمعة السيدة فيفيان! تقول إنها استغلّتها بقسوة و هي تضربها إذا عصت أوامرها! من سيصدّق ذلك؟”
كانت فيفيان إليونورا سيّدةً محبوبة بوضوح.
تدعمُ الدوق الذي ينقصه الدهاء السياسيّ، وتتعامل بلطفٍ مع الخدم، وفي بلاكفورد، اهتمّت حتّى بآلام الشعب البسيطة.
عندما انتشر خبر نوبة السلّ، قلق الجميع عليها.
“على أيّ حال، حاولت التّعامل معها سرًا، لكن شيئًا ما كان غريبًا. شعرت أن أحدهم يحميها.”
“مَن يحمي خادمة؟”
“رأيتُ فرسانًا مختبئين حولها.”
تذكّرت ريجينا تلكَ اللحظة.
في فجر مبكر، بينما كانت تتحضّر لمغادرة القلعة مع إيريس، كانت إيسيدورا تقف في القاعة المركزيّة، تذمّ الأميرة علنًا، وليس في ممرّ الخدم.
كادت إيريس أن تهجم غاضبة، لكن ريجينا أوقفتها.
“مهاراتكِ لا تكفي، فابقي هادئة.”
“لكن، معلّمتي، إيسيدورا تهين أختي…”
“سأتولّى الأمر بهدوء. الاغتيال تخصّصي.”
أومأتْ إيريس بثقة.
حاولت ريجينا استهداف إيسيدورا، لكن الأمر كان أصعب ممّا توقّعت. كانَ الفرسان يحرسونها دائمًا.
“علنًا؟”
“لا، لاحظتُ ذلك بنفسي. إيريس لم تلحظ. هذا يعني أنّهم فرسان متميّزون.”
“ما خطتهم؟”
“يظهر الدوق إعجابه بالسيدة فيفيان، لكنه في النهاية مجرّد رجلٍ عادي.”
ربّما سأخطف السيدة فيفيان لنفسي، قالت ريجينا بابتسامة .
تجنّبها هيسيوس بخفّة، وتلاشى تأمّله السابق تحت وطأة طموحها.
* * *
“أصلان لن يأكل؟”
“نعم، قال ألّا تنتظريه و أن تتناولي طعامكِ أولًا.”
انحنى دييغو بهدوءٍ أمام فيفيان الجالسة في غرفة الطعام.
بعد استيقاظها من مرضها، كانت ملفوفة بطبقات من الفرو الأبيض الدافئ، تشبه رجل ثلج، لكن وجهها الظاهر كانَ رائعًا كدمية.
“سمعتُ أنه يتناول الطّعام في غرفة الطعام مؤخرًا.”
“عادةً، نعم. لكن اليوم، ظهرت أعمال رسميّة عاجلة…”
“يا لها من مصادفة أن تتراكم الأعمال في يوم نزولي لتناول الطعام معه.”
منذُ استيقاظها من نوبة السلّ، لم يزرها أصلان ولو مرّة.
لم يكن جاهلًا بحالتها، فقد كانَ ديلان يتفقّدها باستمرار، و أليكس كانَ يجمع الأعشاب النادرة يوميًا.
لكن أصلان، خطيبها، لم يظهر ولم يسأل عنها. كانت برودته تطعن السماء.
“يبدو أنني أصبحت عبئًا على أصلان.”
“مستحيل، سيدتي! سيّدنا يهتمّ بكِ كثيرًا…”
أشارت فيفيان بأنها بخير، فتردّدَ دييغو وأغلق فمه. طلبت فيفيان البقاء لوحدها، فأخرجت الجميع.
“همف، إذا قمتُ بتجويع نفسي فأنا الوحيدة التي ستكونُ خاسرة.”
كانت الطاولة الواسعة مغطاة بأشهى الأطباق.
كانت مبهجة للنظر، لكن شفتيها انحنتا، راسمةً جوزة صغيرة على ذقنها.
“هل يبقي نفسه جائعًا لأنه لا يريد رؤية خطيبته؟ أحمق!”
ألا يعرفُ أنّ القوة تأتي من الطعام؟ يقولون إنّ الأشباح التي تموت بعد الأكل تكون أجمل.
هو يتجوّل ليل نهار خارج القلعة في مهام شاقة، فليأكل جيّدًا على الأقل.
“يتجنّبني كأنني طاعون…”
بينما كانتْ تتمتم بحزن، اشتعلت عيناها فجأةً.
شعرت بالغضب المفاجئ.
السلّ في هذا العالم غير معدٍ، إنّها حقيقة طبيّة مؤكّدة.
قد يبدو نزيف الدّم من الأنف و الفم مقززًا، لكن أصلان هذا!
ليس من النّوع الذي يرتعد خوفًا من الدم.
“دييغو!”
“نعم، سيدتي.”
أجابَ بسرعةٍ من خارج غرفة الطعام. نهضت فيفيان.
“أين أصلان؟”
التعليقات لهذا الفصل " 90"