“يجب إعادة الطلب. تبدو متينة، لكنها ثقيلة جدًا، تصلح للزيّ العسكريّ فقط.”
“لأنّها ملابسكَ.”
“ملابسي؟”
“أنتَ تلفّني كدبّ قطبيّ، بينما تخرج أنتَ بمعطف رقيق واحد.”
لمستْ أصابعها البيضاء النحيلة طرفَ قميص أصلان.
“أنتَ من يعاني في هذا البرد… كنتُ قلقة، فاخترتُ بضعة قطع، لكن لا أعرف إن كانت ستعجبك.”
“اخترتِ ملابس لي؟ أنتِ، من أجلي؟”
“ما الغريبُ في أن أختار ملابسًا لخطيبي؟”
كانَ صوت فيفيان يحمل نبرة من القلق وعدم الثقة، بل إنّها كانت تنظر إليه بخلسة كمن يترقّب ردّ فعل.
‘اللعنة…’
أدركَ أصلان حينها أنّها طلبت إذنه حتّى في توظيف خيّاط بسيط.
كانتْ فيفيان تعتقد أنّ بلاكفورد ليست منزلها.
تظنّ أنّ خطيبها قد يتخلّى عنها إذا غيّر رأيه، وأنّه لا مكان لها في هذه الأرض تطمئنّ إليه.
شعرَ باختناق عندما أدركَ مشاعرها.
فكّر أنّها تشعر بنفسِ البؤس الذي عاناه في القصر الإمبراطوريّ وفي العاصمة.
“ليس غريبًا. مستحيل أن يكون كذلك!”
“……”
“أنا فقط… لم أعتد أن يهتمّ بي أحدٌ بهذا الشكل، فشعرتُ بالإحرج. جعلتكِ تسيئين فهمي.”
ركعَ أصلان على ركبةٍ واحدة ليوازي نظراته مع فيفيان، كأنّه يعبّر عن صدقه.
رغم أنّ قامته الطويلة جعلته يبدو أعلى منها حتّى وهو راكع، بدا أنّ صدقه قد وصل، إذ خفَّ قلق فيفيان قليلًا.
“بلاكفورد هي مملكتي. والآن، هي أرضكِ أيضًا.”
“ماذا تعني…”
“أعني أنّه يمكنكِ التصرّف بحريّةٍ دون النظر إلى أحد. هذا منزلكِ.”
أمسكَ أصلان يدها المستقرّة على ركبتها بحذر، وهزّها بلطفٍ كما لو كان يدلّلها.
“نبدو كزوجين الآن.”
شعرَ بحركة خفيفة لأصابع فيفيان وهي تتحرّك في قبضته.
كانتْ وجنتاها محمّرتين و كأنّها تبذل جهدًا، ممّا يوحي بأنّها تشعر بالخجلِ الشّديد من هذا الموقف.
‘صحيح، لا يمكنني إجبارها. ليس بعد.’
عندما تستقرّ الأمور في الشمال، و يتقدّمُ لها رسميًا…
نهضَ أصلان مخفيًا تعبير الأسف، ففيفيان كانت بالتأكيد متعبةً بعد يوم شاقّ بجسمها الضعيف.
“ارتاحي الآن.”
“تصبح على خير، أصلان.”
بينما كانَ يتّجه عادةً نحو ستارة المخمل، استدار فجأة.
على عكسِ منزل العاصمة، كانت غرف النوم للزوجين في القلعة متقابلتين عبر الرواق.
‘أبدو سخيفًا.’
سمعَ ضحكة خافتة من خلفه، ففرك أصلان شعره بعنف.
يبدو أنّها ستكون ليلةً بلا نوم.
* * *
تسرّبَ ضوء الصباح عبر الستائر الشفّافة.
فتحت فيفيان عينيها وهي تفرك محجريهما المتيبّسين. كانت يدها مبلّلة بالدموع التي لا تعرف كم ذرفتها.
“مرّةً أخرى…”
لم تشعر أنّها نامت. كانت تشعر وكأنّها غارقة في أعماقِ البحر وحيدةً.
‘يا لهذا الجسدِ الحسّاس. أُصيبَ بهذا بسبب تغييرٍ في الفراش فقط!’
بينما كانت تنهض ببطء، صرخت وانهارت مجدّدًا. اجتاحها صداع كأنّ رأسها سينشقّ.
“كيف يمكنكِ فعل هذا بي؟ كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذا القسوة؟”
“لا يحقّ لمن يحسبون الزواج كتجارة أن يتحدّثوا.”
“حسنًا، يمكنكِ شتمي كما شئتِ. لن أتخلّى عنه حتّى لو متّ!”
“إذن، لمَ لا تموتين؟ لن أتزوّجكِ أبدًا!”
تلاحقت أنفاسها بسرعة، واختفى الصّداع فجأة.
مرّت صورة شخص يبتلع بكاءه في ذهنها، لكن عندما رفعت رأسها، لم تتذكّر شيئًا.
“هذا الفراش اللّعين، حقًا!”
ركلتْ الغطاء وتدحرجت خارج السرير.
كانَ الوقت مبكّرًا جدًا، فلم تكن هناك خادمة تنتظر في الغرفة. كان ذلك أفضل.
“أليستْ هناك روحٌ شريرة في غرفتي؟ يجب أن أستدعي كاهنًا لطردها!”
لا، لمَ تنتظر كاهنًا بغباء؟
هذه فرصة لاقتراض—أو سرقة—غرفة أصلان.
“بلاكفورد هي مملكتي. والآن، هي أرضكِ أيضًا.”
“أعني أنّه يمكنكِ التصرّف بحريّة دون النظر إلى أحد. هذا منزلكِ.”
توقّفت فيفيان فجأةً عن حركتها المستعجلة.
كانت هذه الذكرى التي تطفو في هذا التوقيت بالذات. شعرت بضميرها يؤنّبها.
‘أن لا اكون ذات ضمير سيّئ تمامًا هو أمر مطمئن.’
حسنًا، ماذا لو كانتْ هناكَ أرواح شريرة في غرفتي؟
أصلان يعمل ليل نهار خارج القلعة من أجل سلامة الشعب، فيجب أن يكون فراشه مريحًا على الأقل.
في تلكَ اللّحظة…
“نبدو كزوجين الآن.”
تذكّرتْ أصلان وهو يمسكَ يدها بقوّة كأنّه يعجنها و يرفض تركها.
حاولتْ سحبها بكلِّ قوتها، لكنّها كانت عالقة كما لو كانت بين صخرتين. حتّى عندما قرصت كفّه وضربته، لم يرمش، كأنّه حجر حقًا.
“همم، هل أسرق غرفته فقط؟”
هذا أفضل. السلامة و غيرها لا تهمّ، الأهم أن أكون مرتاحة.
ابتسمتْ فيفيان بسعادة وسحبت حبل الجرس. بعد قليل، دخلت إيسيدورا مسرعة.
“أعتذر، سيّدتي. لم أتوقّع أن تستيقظي مبكّرًا هكذا.”
“لا تقلقي. أين أصلان؟”
“السّيد لا يزالُ في الطّابق الأوّل. رأيته مع الفرسان قبل قليل.”
كانَ أصلان عادةً يستيقظ فجرًا لبدء يومه.
ظنّت أنّها استيقظت مبكّرًا، لكن يبدو أنّ الوقت أبكر ممّا توقّعت.
عندما سألت عن البقيّة، بدت إيسيدورا متردّدة.
“الأميرة الكبرى تتناول الإفطار مع معلّمتها. أمّا الدوق…”
“النعامة؟”
“…نعم.”
لم تسأل فيفيان أكثر، ولم تُضف إيسيدورا شيئًا.
منذ وصوله إلى بلاكفورد، انغمس أليكس في استكشاف الشمال. المشكلة أنّه يركب نعامة بدل الحصان ليعبر الجبال المغطّاة بالثلوج.
كانَ هناك الكثير لانتقاده، لكن…
لا يهمّ. إذا كان أليكس سعيدًا، أليس هذا كافيًا؟
“هل تفضّلين الإفطار في غرفتكِ؟”
“أريد تناوله مع إيريس هذه المرّة. لنذهب إلى غرفة الطعام.”
“حسنًا. بالمناسبة، يبدو أنّ الخيّاط موجود هناك أيضًا. لم تبدِ الأميرة الكبرى أيّ اعتراض على تناول الطعام مع خادم.”
أضافت إيسيدورا أنّه ربّما يجب على سيّدتها التدخّل.
‘إذا تدخّلتُ فعلًا، قد تُدمّر قلعة بلاكفورد بأكملها.’
لكن لم تستطع قول أنّه الساحر الأعظم في القارّة، فاكتفتْ فيفيان بابتسامة غامضة.
“قلبكِ رقيق جدًا، سيّدتي.”
تبعَ ذلك تنهيدة من إيسيدورا.
* * *
عندما نزلت فيفيان إلى غرفة الطعام، كان ثلاثة أشخاص جالسين متقابلين على الطاولة الطويلة.
كانت إيريس و ريجينا جالستين جنبًا إلى جنب، ومقابلهما هيسيوس بشكل صبيّ يمزّق الخبز.
كانت إيريس أوّلَ مَن لاحظ فيفيان، فأشارت إليها بوجهٍ مرح.
“استيقظتِ مبكّرًا؟ بالتأكيد أنتِ جائعة، تعالي واجلسي.”
“كلّ من أقابله يقول هذا، يبدو أنّني كسولة حقًا.”
لا تعرف كم مرّةً سمعت هذا خلال النزول من غرفتها إلى الطابق الأوّل.
الخدم، الفرسان، وحتّى رئيسة الخادمات إما، التي سألتها بخوف إن كانت مريضة.
“جسمكِ ضعيف، هذا طبيعيّ. دواء السلّ قويّ جدًا.”
“لمَ تقفين هكذا، يا أميرة؟”
سأل هيسيوس بلا مبالاة وهو يمضغ الخبز.
كانَ أسلوب حديثه وقحًا لخادم، فنظرت فيفيان إلى إيريس بحذر. ابتسمتْ إيريس مطمئنةً إياها.
“سمعتُ من معلّمتي. ميغيل ساحر متميّز من النقابة، أليس كذلك؟ صغير السنّ ومذهل!”
“أم…”
خلفَ إيريس، غمزت ريجينا بعنف، طالبةً منها مواكبة الكذبة.
أومأتْ فيفيان وهي تبحث عن مقعد.
كانت الطاولة المستطيلة مليئة بالكراسي، لكن الجلوسَ بجوار هيسيوس بدا الأكثر طبيعيّة.
لكنه كانَ يستند بذقنه على يده، متجاهلًا لها تمامًا، بل أدار رأسه للجهة الأخرى.
هل هذا الوغد؟
“هل تعلم كم عانيتُ بسببكِ بالأمس؟”
جلستْ فيفيان بجواره مباشرة، مُظهرةً روح الخدمة.
صفّرت ريجينا بخفّة، لكن فيفيان كانت تغلي غضبًا.
“أصلان كانَ يشكّ فيك! هل تعلم كم تعبّتُ لأزيل شكوكه!”
“يشكّ فيّ؟ مستحيل. مهما كان الدّوق سيّافًا بارعًا، لا يمكنه مجاراتي في السّحر الخالص.”
“حتّى القردة تسقط من الأشجار!”
كادتْ تموت من القلق.
“اخترتِ ملابس لي؟ أنتِ، من أجلي؟”
كانَ أصلان يعبث بالأقمشةُ التي أُحضرت من متجر الخياطة الخاص بالسيدة، ثم عبسَ كما لو أنه اكتشف شيئًا غريبًا.
كانت تصاميم المعاطف و الأقمشةِ من عمل السيدة، لكن الوسيلة التي أُحضرت بها كانت سحرية.
المشكلة هي أنَّ عدد الكائنات القادرة على استخدام هذا المستوى من السحر محدود للغاية.
شعرتُ و كأنّ قلبي سيتوقف و أنا أحاول تشتيت انتباهه بنظراتي المتوترة.
“إذا كنتِ تعتقدين أنني مجرّد قردٍعادي، فهذا مزعج، أيتها الأميرة. على أيّ حال…”
تحولت نظرة هيسوس نحوَ شريط شعر بيفيان. كان الشريط المفكوك على وشك السقوط على الطبق.
في اللّحظةِ التي لفَّ فيها خصلة من شعرها بأصابعه،
“ما الذي تفعله الآن؟”
دوى صوتُ أصلان المنخفض الغاضب من خلف الباب المفتوح.
التعليقات لهذا الفصل " 84"