صُدمَ الفرسان المرافقون لفيفيان بشدّة بسببِ اعتراف وودي الدامع.
حاولوا اقتياده بالقوّة، لكن بفضلِ تدخّل فيفيان، اكتفوا بالتّحقيق معه لليلة واحدة.
منذ ذلك الحين، أصبحَ وودي وعائلته يتبعون فيفيان كما لو كانتْ حياتهم.
“كيفَ حال أخيك؟”
“بفضل رعايتكِ، تحسّنَ كثيرًا. لا أعرف كيف أشكركِ…”
“هذا جيّد.”
أثناء محادثتهما القصيرة، رحّب بها سكّان القرية بوجوه ودودة.
أثناء بحثها عن الجواسيس، ساعدتْ في حلّ بعض القضايا الإنسانيّة التي لم تستطع تجاهلها، فوجدت نفسها فجأةً كعازفة فلوت تسحر النّاس.
“سيّدتي، أنهينا للتّو تحضير خبز طازج، هل تودّين تجربته؟”
“أنف سيّدتنا احمرّ من البرد! هذه قارورة ماء ساخن، ستدفئكِ.”
“اللّصوص الذين تذوّقوا قبضة سيّدتنا تابوا جميعًا!”
“ليس قبضة، بل اقتراح لطيف و ودود، أليس كذلك؟”
توقّفت فيفيان لتصحيح المعلومة الخاطئة.
كانَ بعض الشباب المندفعين قد حاولوا سرقة عربتها، فأمسكتهم و علّمتهم درسًا بسيطًا.
قبضة؟ هذا هراء. بالتأكيد هناك خطأ في ذاكرتهم.
“كنّا عبيدًا في إقليم ألبا، لكن هربنا لعدمِ تحمّل ظلم السّيد هناك.”
“أنتِ أوّل نبيلة تستمع إلى قصص أمثالنا، سيّدتي.”
“أريد أن أكون ابنًا لا يُخجلُ والديّ المتوفيّن. اضربيني بشكلٍ أقوى، سأعيش بشرف من الآن.”
مرّتْ شكوك في ذهنها حول ما إذا كان خطأ في الذاكرة فعلًا، لكنّها لم تكن مسألة مهمّة، فقرّرت تجاوزها.
“سيّدتي، حانَ وقت العودة.”
“بالفعل؟”
“البقاء في الخارج طويلًا مضرّ بصحّتكِ.”
تحدّثَ أحدُ الفرسان المرافقين بقلق.
لم تتقدّم خطوةً نحو هدفها في جمع معلومات عن إيسيدورا، لكنّها شعرت أنّ تنفّسها أصبحَ أثقل قليلًا.
“و أيضًا، وصلتني رسالة من القلعة تقول إنّ التجّار وصلوا.”
“ألم يتمّ تأجيلهم إلى الأسبوع القادم؟”
“يبدو أنّ الرسول أخطأ الطريق.”
“لا مفرّ إذن. لا يمكنني أن أجعلهم يقطعون هذا الطّريق الوعر مرّتين.”
كانتْ تفكّر بالفعل في تفصيل ملابس جديدة، لكن لأصلان، وليس لها.
‘إذا جمّدتَ نفسك، سأموت أنا أيضًا.’
كانتْ الرّابطة اللّعينة التي فرضتها العلامة تجمعهما كزوجين متّحدين.
* * *
“مرّ وقت، أيّتها الاميرة.”
تشتّت الطّاقة السحريّة الفضيّة ببريق في الهواء.
نظرت فيفيان إلى الشّخص الذي تقابل عينيه، و تراجعت خطوةً لتتأكّد إن كانت قد أخطأت الطريق.
‘صحيح؟’
كانت الغرفة التي يُفترض أن ينتظرها الخيّاط. لكن بدلًا من ذلك، وقف ميغيل، مساعد متجر سكارليت للخياطة.
“لقد اكتسبتُ خبرةً في المتجر و أصبحتُ خيّاطًا مستقلًا رسميًا. يجب أن تعرفي ذلك، أيّتها الأميرة.”
“كيف وصلتَ إلى هنا؟”
“أنا سعيد حقًا برؤيتكِ، لكن يبدو أنّكِ لستِ كذلك. لا تزالين باردةً كالعادة.”
ومضَ الضوء للحظة، و تحوّلَ الصّبي إلى شابّ وسيم.
‘حسنًا، هذه النقطة ليست سيّئة.’
عندما استخدم هيسيوس السحر، تطايرت الطاقة السحريّة الفضيّة حوله كبذور الهندباء.
جلسَ على الأريكة بنفور وهو يلوّح بيده بملل.
“هذه الأرض غنيّة بالطاقة السّحريّة بالأصل، لكن هذا مبالغ فيه. أفهم الآن لماذا طلبت ريجينا المساعدة.”
“هل الوضع خطير لدرجةِ أن تطلبَ مساعدة منكَ بشكلٍ مباشر؟”
“ليس كذلك. لقد تطوّعتُ بنفسي.”
“أنت؟ أنتَ بالذات؟”
“لماذا كلّ هذا الدهشة؟ تبدين و كأنّكِ تشكّين في أنّني لست هيسيوس الحقيقيّ.”
آه، تمّ كشفي.
يبدو أنّه هيسيوس الحقيقيّ بفضلِ حدسه السريع.
لكنّها لم تفهم الأمر. كان هيسيوس، كما تعرفه، مثل قطّة شوارع. يكره التقيّد بمكان، ولا يصغي لأوامر أحد.
حتّى لو توسّلت ريجينا لإنقاذها، لم يكنْ من النّوع الذي يمكنُ التأكّد من قدومه.
“فقط… العاصمة أصبحت مملّة.”
تردّد هيسيوس للحظة، ثم هزّ كتفيه بلا مبالاة.
“في الأيام الأخيرة، شعرت أنّ العاصمة مملّة جدًا. فكّرتُ في السبب.”
“…..”
“فكّرت، لكن لم أجد إجابة. ثم جاءت رسالة من الشمال، و أثارَ ذلك اهتمامي.”
رسم هيسيوس دائرة سحريّة صغيرة بأطراف أصابعه، و تطايرت كرات صغيرة من الطاقة. أصبحت الطاقة السحريّة مثل بذور الهندباء أكثر كثافة.
“يكفي من الحديث الجانبيّ. جئتُ لأطلب منكِ معروفًا.”
“ما هو؟”
“اسمحي لي بالبقاء في القلعة. لا يوجد مكان للمسافرين في بلاكفورد. لم أرَ منطقة بهذا الحذر من الغرباء من قبل.”
‘لم أواجه أيّة مشكلة، فلماذا أنت…’
كانتْ هي الغريبة الأكثر وضوحًا هنا.
كانت عائلة إليانورا تمثّل النبلاء في وسط القارّة، و شعرها البلاتينيّ اللامع وقوامها النحيل كانا لافتين بين الشماليّين.
بينما كانت فيفيان تفكّر إن كان هيسيوس يخدعها، خطرتْ فكرة في ذهنها.
“لا، بل كيف ستتأكّد من أنّ أصلان لن يكتشفكَ إذا بقيتَ في القلعة؟ إذا عرف أنّني أتواصل مع النقابة، سأكون في ورطة.”
“مع وجود ريجينا و أميرة أخرى، الطاقة السحريّة المتبقيّة لن تكون مشكلة. سأبقى متخفّيًا كميغيل، الخيّاط.”
عادَ هيسيوس إلى شكل الصبيّ البالغ ستّة عشر عامًا في لمح البصر.
“بالطبع، إذا ساعدتني، سأردّ لكِ الجميل بنفس القدر.”
إذا كانَ هناك مقابل، فالأمر مختلف.
جلستْ فيفيان بحماس، و عينيها تلعمان.
كانت تأمل أن يساعدها في إيجاد طريقة لكسر العلامة بشكلٍ أسرع، لكنّ هيسيوس نهض من الأريكة و وضعَ يده على صدرها.
“آه…!”
في تلكَ اللحظة، شعرت بثقلٍ قويّ كما لو كانت تسقط من مكان مرتفع.
أمسكت فيفيان بذراع الأريكة دون وعي. استمرّ الإحساس الغريب للحظة، ثم نظرت حولها بدهشة.
اختفت الطّاقة السحريّة التي كانت تملأ المكان تمامًا.
“ما الذي حدثَ للتوّ؟”
“سأعلّمكِ كيفيّة امتصاص الطاقة السحريّة. قدرة نادرة، أليس من الخسارة تركها تضيع؟”
“ألم تكن أنتَ من فعل ذلك؟”
“كلّ ما فعلته هو تحفيز دمكِ لتدوير الطاقة السحريّة. القدرة نفسها تخصّكِ.”
أضاف أنّها تخصّها حتّى تكسر الدّائرة السحريّة في قلبها.
فركت فيفيان صدرها المذهول و غرقت في التفكير.
في البداية، تساءلت عن فائدة امتصاص الطاقة السحريّة، لكنّ صورة أصلان محاطًا بالطاقة السحريّة السوداء مرّت في ذهنها.
‘إذا كانت هذه علامات اللعنة، و إذا استطعتُ قمعها…’
لكن قبلَ ذلك، كان عليها التأكّد من شيء. رفعت فيفيان رأسها فجأة.
“هل أنتَ متأكّد أنّ امتصاص الطاقة السحريّة لن يؤذي جسدي؟”
“لستُ متأكّدًا تمامًا… ربّما؟”
“ربّما؟”
“ربّما.”
هذا الوغد!
أمسكتْ فيفيان بالمحتال الذي حاولَ تجاوز النقطة الأهمّ دون إجابة واضحة.
* * *
في وقتٍ متأخّر من اللّيل، تحت سماء مرصّعة بالنجوم، عادَ أصلان مع مجموعة من الفرسان إلى القلعة.
كانوا يجوبون الأسوار الخارجيّة منذ أيّام لقمع مواطن الوحوش.
“أهلًا بك، سيدي. تمّ تحضير العشاء في غرفة الطعام.”
“أين فيفيان؟”
خلع كبير الخدم معطف أصلان بمهارة، و هو ينحني.
كان المعطف الأسود ملطّخًا بالدماء و الغبار، دليلًا على مدى صعوبة المهمّة.
“ذهبت سيّدتي إلى القرية صباحًا. وفي فترة ما بعد الظهر، التقت بخيّاط لتفصيل ملابس جديدة.”
“خرجتْ اليوم أيضًا؟ ألم أقل بوضوح أن تمنعها؟ الجوّ بارد جدًا، ماذا لو أُصيبتْ بالحمّى؟”
كانَ هو نفسه يرتدي قميصًا رقيقًا تحت معطف فقط، لكنّه كانَ يبالغ في قلقه إذا سعلت فيفيان و لو قليلًا.
“كانت إرادة سيّدتي قويّة، فلم نتمكّن من منعها. لكنّني أوصيتُ الحرّاس مرارًا ألّا يتركوها تتعرّض للبرد طويلًا.”
“هذا غير كافٍ. أخبرهم أن يحموها من أيّ نسمة هواء.”
“حسنًا، سيدي.”
“اللعنة… مواطن الوحوش لا تنتهي مهما قمعتها.”
تمتم أصلان بالشتائم و هو يتّجه إلى غرفة الطعام. تبعه كبير الخدم وقال:
“و أيضًا سيدي…”
“ماذا؟”
“يبدو أنّ سيّدتي أُعجبتْ بمهارة الخيّاط الذي زارته اليوم. سألت إن كان يمكن توظيفه كخيّاط شخصيّ.”
“وما المشكلة؟ و ظّفوه، سواء كان واحدًا أو مئة.”
لم يكنْ يعلم أنّه سيتندّمُ على هذا القرار، و أضاف أن يُسمحَ للخيّاط بالبقاء في القلعة.
“بل، من الأفضل أن أتحدّث معها مباشرة. لقد كنتُ مقصّرًا مع فيفيان.”
“سيّدتي ستفرح بذلك.”
تمتمَ الفرسان الذين كانوا يتّجهون إلى غرفة الطعام بشيء مثل “مقصّر؟ هل سمعتُ خطأ؟” لكن لحسن الحظ، لم يسمعهم أصلان.
استدارَ و صعدَ درج الردهة بخطوات واسعة.
“هل عدتَ؟”
عند دخوله الغرفة، رأى فيفيان جالسة على الأريكة تتفقّد الأقمشة.
بمجرّد أن تقاطعت أعينهما، هدأت حدّة مزاجه، الذي كانَ حادًا كشفرة طوال اليوم، في لحظة.
خوفًا من إيذاء فيفيان إذا كانتْ مريضة، نفض أصلان قميصه الملطّخ بالغبار و اقتربَ منها.
“كيف حالكِ؟ هل تشعرين بصعوبة في التنفّس؟”
“أنا بخير تمامًا.”
“حقًا؟ أنتِ دائمًا تقولين إنّكِ بخير حتّى لو كنتِ مريضة، فلا أشعر بالطمأنينة.”
مسحَ خدّها المحمّر.
كانَ أكثر دفئًا من المعتاد، لكن يبدو أنّ ذلك بسبب قربها من المدفأة، و ليس الحمّى.
“…..”
في صمتٍ خفيف، تقاطعت أنظارهما مجدّدًا.
أصبحَ تنفّس أصلان أثقل قليلًا. شعر بحرارة لا تُطاق في كفّه الملامسة لها، فأدارَ نظره بسرعة.
“ما هذه الكمية ؟ هل هذه الأقمشة التي اخترتِها؟”
كانتْ هناك أكوام من الأقمشة متراكمة على الطاولة الواسعة.
مالَ رأس أصلان وهو يتفقّدها بعجلة. كانت ثقيلة و داكنة اللون، لا تُناسب فيفيان.
التعليقات لهذا الفصل " 83"