في اللّحظة التي نقلَ فيها المترجم صرخة هامان حرفيًا، سحبَ فرسان الإمبراطورية سيوفهم، وتجمّد الضيوفُ في أماكنهم.
كانَ هامان معروفًا بأنه شخص يحظى بحبّ ملك هيرمون. و بإعلانه الحرب، انتهت كلّ أيام السّلام السابقة.
‘ماذا سيحدث لأصلان إذن؟’
نهضتْ فيفيان دون وعي عند سماع إعلان هامان للحرب.
مصدر الطّاقة السّحريّة هو قوّة الشّيطان أستاروت. وحقل المعركة هو المكان الذي تصل فيه كلّ شرور البشر إلى ذروتها.
‘التّحضيرات للذّهاب إلى الشّمال في مراحلها الأخيرة. الوجهاء و الرّعايا ينتظرونكِ بحماس لا يمكنكِ تصوّره.’
لماذا يطفو وجه أصلان، المفعم بالفخر و التّوقّع، في ذهنها الآن بالذّات؟
حتّى لو لم يكن موجودًا، لن يعني ذلك أنّها لا تستطيعَ العيش في بلاكفورد، فلماذا تتمنّى ألا يذهب إلى الحرب؟
تسارعتْ خطوات فيفيان. كانَ عليها أن تجد أصلان الآن وتكون معه…
“هذا لن يحدث.”
تردّدَ صوت منخفض ومهدّد في قاعة الاحتفال الواسعة.
دخلَ أصلان، مرتديًا زيًا أسود أنيقًا كالسّيف، من باب القاعة.
معَ كلِّ خطوة، كشفت كتفاه العريضتان وعضلاته الصّلبة كالصّخر عن هيئته المثيرة.
انبهر الضّيوف بهيبته و جاذبيّته، ثمّ لاحظوا متأخّرين أنّ هناكَ شخصًا يقف إلى جانبه.
“من هذا الفتى؟ هل هو من هيرمون؟”
“إذا كان يقف جنبًا إلى جنب مع الأمير الثّاني، فهو ليسَ طفلًا عاديًا…”
توجّه أصلان و رافي مباشرةً نحو الإمبراطور.
انقسمت الحشودُ في القاعة كما لو كان بحرًا ينفلق. كان أصلان، المحاط بإعجاب الجميع، كحاكمٍ نزل إلى الأرض أو إمبراطور لا يجرؤ أحد على تحدّيه.
شعرتْ فيفيان بشيء غريب، كأنّه بعيد جدًا ولا يمكن الوصول إليه.
بينما كانت واقفة في ذهول، دفعتها الحشود وكادت أن تسقط.
“سيّدتي!”
اندفعَ ديلان عبر الحشد وأمسكَ بها بسرعة.
“لحسنِ الحظّ هل أنتِ مصابة؟”
“أ، لا…”
“سيدي يمتلك عينًا ثاقبة. لم أجدكِ رغم بحثي في القاعة، لكنّه رآكِ على الفور.”
رفعتْ فيفيان رأسها فجأة و وجدت أصلان يحدّق بها دون تردّد.
حتّى وهو يسير بثقة نحو الإمبراطور وسط إعجاب الجميع، كان أوّل من وجدها بين هذا الحشد…
“أحم!”
شعرتْ بانتشاء غريب، فأصدرت فيفيان سعالًا خفيفًا وهزّت يدها كمروحة.
“غالميت.”
“نعم، سيد رافي.”
في اللحظة التي نطق فيها رافي، سحبَ غالميت، الذي كان واقفًا خلف هامان، سيفه نحو الخائن.
وجّه الفرسان الإمبراطوريون و محاربو هامان أسلحتهم نحو غالميت، لكنّه لم يتزحزح.
“لم أكن أتوقّع أن نلتقي هكذا، أخي.”
“رافي…!”
“أم يجب أن أناديك الآن بالخائن هامان؟”
مرّتْ نظرة حزن في عيني الفتى، لكنّها كانتْ لحظيّة.
“جريمة بيع المناصب و خداع الملك بدافع الطّمع، و جريمة طمعكَ في العرش التي دفعتك لخيانة روابط العائلة و محاولة قتلي.”
تردّد صوت رافي بوضوحٍ في القاعة الواسعة.
“وأكثر من ذلك، جريمة تواطؤك مع تجّار الإمبراطورية لبيع شعب هيرمون كعبيد، ممّا أثار غضب الملك!”
“لا، لست أنا…!”
“كلّ هذا نابع من ثقتي بكَ ، وهذا عار حقًا.”
مع تنهيدة رافي، ركل غالميت ركبتي الخائن، مجبرًا إيّاه على الرّكوع.
حينها فقط، أدركَ الإمبراطور الوضع وأمر الفرسان الذين كانوا يصوّبون نحو غالميت و رافي بالتّراجع.
تقدّم رافي و ركعَ على ركبةٍ واحدة.
“رافي خان هيرمونيا، الوريث الوحيد لملك هيرمونيا العظيم، يقدّم تحيّاته لإمبراطور أستاروت.”
“أهلاً، أيّها الأمير. يبدو أنّ هناك نزاعًا صغيرًا.”
“أظهرتُ وجهًا غير لائق في لقائنا الأوّل.”
استعادَ الإمبراطور وجهه المراوغ. ضيّقت عيناه المهيبتان عند سماع رافي يتحدّث اللغة الإمبراطوريّة بطلاقة.
“بالمناسبة، هل يمكنني أن أسألَ لماذا أنتَ مع الأمير الثّاني المفضّل لديّ؟”
“عندما كنتُ في خطر في أزقّة العاصمة، تورطت مع شخص ما، وهذه المرّة تلقّيت مساعدة من الدوق الأكبر.”
“تورطت؟”
“نعم. عندما كِدتُ أُقتل بأمر من هامان، ظهرَ منقذ واجه أكثر من عشرة مجرمين بمفرده. بفضله، نجوتُ.”
“هل هذا المنقذ هو ابني العزيز أصلان؟”
هزّ رافي رأسه، مؤكّدًا على كلّ كلمة.
“إنّها الأميرة فيفيان إليونورا، خطيبة الدّوق الأكبر.”
تفاجأ الحضور عندما قال إنّ فيفيان واجهتْ أكثر من عشرة مجرمين بمفردها.
أضاف رافي أنّه تظاهرَ بإصابة خطيرة للإمساك بهامان، و خلال ذلك، تلقّى من الدوق الأكبر معلومات عن تورّط هامان في تجارة العبيد من القارّة الشّرقيّة.
عبسَ الإمبراطور بارتياح وهو يمسح لحيته.
“إذن، أنتَ مدين لابني و زوجته.”
“نعم، محاربو هيرمونيا لا ينسون الجميل ولا العدوّ.”
“هل تعلم ماذا قال هامان قبل ظهورك؟ لقد أعلنَ الحرب على الإمبراطورية.”
تجمّدتْ ابتسامة الإمبراطور المراوغة للحظة.
“لقد جعلني ذلك أستاء بشدّة.”
يبدو متسامحًا في البداية، لكنّه يشدّد الحبل تدريجيًا حتّى يحاصرَ خصمه تمامًا.
كانَ هذا أسلوب الإمبراطور الخاصّ، لا يترك خصمه حتّى يحصل على الإجابة التي يريدها.
“ألا يجب أن نتأكّد من عدم تكرار مثل هذا الأمر؟”
“ماذا يجب أنْ أفعل؟”
“همم، حسنًا. ماذا عن إقامة علاقات دبلوماسيّة هذه المرّة؟”
أضافَ الإمبراطور بلامبالاة، كأنّ الفكرة خطرت له للتّو.
“نوسّع التّجارة الشّعبيّة و نقيم تبادلًا دوريًا على مستوى الدّولة. بما أنّ ابني و زوجته ارتبطا بك، أعدكَ أن أعامل هرمونيا كابن.”
كانت كلمة “ابن” مجرّد ذريعة لجعل هرمونيا تابعة لهذه القضيّة.
توقّعَ الجميع هزيمة رافي.
كيف يمكنُ لطفل لم يَتجاوز العاشرة أن يتغلّب على إمبراطور ماكر؟ كلّ شيء سيسير كما يريدُ الإمبراطور.
“أعتذر، لكنّ الشّخصَ الذي أنا مدين له ليس جلالتك.”
“ماذا؟”
“ألم تتجاهل جلالتكَ نصيحة غالميت بإنقاذ العبيد، وطلب هامان بقمع القراصنة؟”
نظر رافي إلى الإمبراطور بعيون صافية كطفل.
“انا مدين بحياتي للأميرة، وإنقاذ العبيد مدين للدّوق الأكبر. إذن الشخص الذي سأردّ له الجميل ليس جلالتك.”
“أيّها الأمير!”
“أنا رافي خان هرمونيا، الوريث الوحيد للملك العظيم، والمُقدّر له أن يمسكَ بزمام القارّة الشّرقيّة.”
كانت عيون رافي الثّابتة تعكس إرادة لا تلين.
“من معاملتكَ لي، لا أرى أيّ احترام لهرمونيا.”
عند سماع نبرة رافي المتضمّنة للاستياء، تذكّر النّاس أنّ هرمونيا شعب مقاتل، حتّى الأطفال في سنّ الثّالثة يحملون السّيوف.
قوّة أستاروت العسكريّة هائلة، لكنّ بحريّتها لا تضاهي القارّة الشّرقيّة.
قد لا تخسر الإمبراطورية، لكن إن وصل العدوّ إلى اليابسة، ستكون الأضرار في المناطق الشّرقيّة كارثيّة.
بدأت أصوات القلق تتعالى بين نبلاء الشّرق.
تنفّسَ ديلان، الذي كان يقف لحماية فيفيان، الصّعداء و هزَّ كتفيه.
“ها، انتهى الأمر أخيرًا. كدتُ أموت من التّوتّر.”
“ما الذي تقوله فجأة؟”
“آه…”
لم يكنْ يقصد قول ذلك، لكنّ فمه تسبّب في كارثة.
أغلقَ ديلان شفتيه بسرعة، لكن فيفيان لم تكن لتتركه.
هل أذهب و أخبره، أم تفضّل أن تعترفَ بنفسك؟
مع اقتراحها اللطيف، فتحَ ديلان فمه على الفور.
“لم يرغب سيدي أن تغادري العاصمة كشخص هارب. حتّى لو لم تعودي ، أرادَ أن تظلّ سمعتكِ نظيفة.”
عندما قالَ ديلان إنّ هذا سبب انشغاله ليل نهار، رفعت فيفيان رأسها ونظرت إلى العرش البعيد.
“أحمق، أصلان. من سيقدّر كلّ هذا الجهد؟”
عليه أن يهتمّ بسمعته أوّلًا. لماذا يقلق بشأنِ سمعة خطيبة مريضة سترحل قريبًا؟
“……”
إن اندلعت حرب مع هرمونيا، أو حتّى إن انتهت المحادثات في هذه الأجواء المتوتّرة، فسيُؤمر أصلان بالتّأكيد بالذّهاب إلى السّاحل الشّرقي.
سيرفض أصلان، وهكذا سيُعتبر جبانًا، و سينهار لقب أقوى فارس في القارّة في الوحل.
لم يعجبها ذلك لسببٍ ما.
لدرجة أنّها تخلّت عن عزمها على البقاء في الزّاوية كزخرفة رخاميّة.
“أيّها الأمير.”
تردّدَ صوت فيفيان الصّافي في القاعة الواسعة.
تقدّمتْ نحو المنصّة تحت أنظار الجميع. تحوّل وجه رافي، الذي كان ينازع الإمبراطور، في لحظة.
“أختي!”
اندفعَ رافي إلى حضنها.
برزت عروق جبين أصلان عند رؤية ذلك، لكن ديلان تشبّثَ به بكلّ قوّته لمنع تدخّله.
“كنتُ أعلم أنّنا سنلتقي مجدّدًا!”
“من الصّعب قول هذا، لكن لديّ طلبٌ منك، أيّها الأمير.”
“إن كان طلب منكِ، سأنفّذه مهما كان. فلا تكوني رسميّة معي.”
هزّ رافي يديها بحماس.
نظرتْ فيفيان إلى أصلان من زاوية عينها بينما كانت تتأرجح مع الطّفل.
لاحظَ أصلان نظرتها، فألقى ديلان، الذي كانَ لا يزال متشبّثًا، كالرّيح و سعلَ بخفّة.
حتّى مع تلك النّظرة العابرة، بدا متوترًا بشكلٍ غريب.
التعليقات لهذا الفصل " 79"