“إذا احتجتِ إلى مساعدة، أخبريني في أيّ وقت. أصلان أخي، لكنّني سأكون دائمًا إلى جانبكِ، يا أميرة.”
“شكرًا، سموّك…”
لم تفهم بالضّبط ما يعنيه، لكن بما أنّه عرض المساعدة، فقد شكرته أوّلًا.
بدت إجابتها صحيحة، إذ نهض يوهانس من مقعده بوجه راضٍ.
“تبدين شاحبة. أعتذر إن كنتُ استغرقتُ وقتكِ كثيرًا.”
هل أدركتَ ذلك حقًا؟
“لا، لا بأس. أشكركَ على اهتمامكَ.”
انحنت فيفيان بأدب شديد و ودّعت وليّ العهد الرّاحل.
* * *
في ليلة حالكة حيث يغطي الجميع في نوم عميق، امتدّ ظلّ الوحش المتأرجح على ضوء الشّمعة.
الأرجل الأربعة التي كانت تزحف على الأرض ببؤس، وقفت الآن منتصبة. تحوّل الجلد المغطّى بالفرو الأسود إلى عضلات برونزيّة مشدودة و ناعمة.
“هوو.”
رفع أصلان، الذي عاد إلى هيئته البشريّة، خصلات شعره الأماميّة التي تغطّي عينيه ببطء.
‘انتهى الأمر هكذا أخيرًا.’
تقلّص وقت تحرّره من حالة الوحش بشكل ملحوظ.
في الماضي، كان يتجوّل بلا وعي لأشهر، لكن هذه المرّة عاد إلى هيئته البشريّة في غضون خمسة أيّام فقط.
في الأحوال العاديّة، كان هذا سببًا للفرح، لكن هذه المرّة لم يكن مرحّبًا بها. بل أثقل مزاجه أكثر.
“…….”
على السرير المغطّى بستارة شفّافة، كانت فيفيان لا تزال نائمة بلا علم بالعالم.
حتى بعد عودته إلى هيئته البشريّة، كان عطرها يملأ رئتيه، حلوًا و مغريًا كالفاكهة النّاضجة، كالوردة الحمراء المتفتّحة.
لم يستطع مقاومة هذا الإغراء بأيّ شكل.
لفّ أصلان شرشفًا تركته الخادمة حوله بشكل فضفاض، و سار نحو السرير.
“حتى الشّيطان لا يسمح لي بالبقاء إلى جانبكِ.”
قبل خمسة أيّام، عندما شعر بعلامات التحوّل إلى وحش، تمسّكَ بعقله الذي بدأ يغيب و ركض بلا توقّف.
دون أن يدرك ما يفكّر به، وجد نفسه قد وصل إلى مدخل الغابة.
جبل منخفض يُطلّ على قصر إليونورا.
‘إذا صرت وحشًا، هل سأتمكّن من لمس يدكِ ولو مرّة واحدة؟’
رغم وجود العديد من أماكن الاختباء في العاصمة مينيرفا، قادته غريزته نحو فيفيان.
‘الآن بعد أن عدتُ إنسانًا، لم يعد بإمكاني تجاهل الواقع.’
الاستيقاظ معًا في الصّباح، قضاء اليوم بأكمله معًا، و النّوم وجهًا لوجه على السرير ذاته.
حلمٌ حلوٌ للغاية، لكنّه لا يمكن أن يتحقّق في هيئته البشريّة.
‘نعم، بما أنّني استيقظتُ من الحلم، حان وقت القيام بما يجب.’
أصلان كأمير، كسيد بلاكفورد، كدوق أكبر، و كقائد فرسان.
البرج الذي بناه بيأس ليبقى على قيد الحياة.
‘لكن الآن، من أجل حمايتكِ…’
تحت ضوء القمر، التصقت خصلات شعر بجبهتها البيضاء المستديرة. رفع أصلان شعر خطيبته بلطف.
بدا وجهها، وهي تتلقّى لمسته في نومها، مطمئنًا للغاية.
‘ما أهمية افكاري؟ على أيّ حال، لن أعيش طويلًا…’
‘يقصد سموّ وليّ العهد أنّ تغيّر أصلان المفاجئ في سلوكه كان بسبب الإرث الذي سأتركه.’
عندما جاء ديلان دون داعٍ، أو عندما حاول يوهانس الإيقاع بينها و بين أصلان، أظهرت فيفيان تعبيرًا لم يره من قبل.
وجهٌ كسراب يرتفع في الصّحراء، يبدو و كأنّه سيزول في أيّ لحظة، كمن يخطّط للرّحيل.
توقّف أنفاسه، و لم يستطع سوى التحديق بها في ذهول.
لم يكن قادرًا على فعل شيء آخر آنذاك.
“كم مرّة كنتِ تتأملين ثم تحطّمتِ، حتى استسلمتِ أخيرًا. أنا من جعلكِ هكذا.”
كان الفجر الخافت يبزغ خلف الأفق. أمسك أصلان يدها البيضاء الصّغيرة الموضوعة على السرير بحذر.
“لن أدعكِ تظهرين هذا التعبير مرّة أخرى.”
* * *
“سيّدي؟”
توقّف دييغو، رئيس الخدم، الذي كان يتفقّد أرجاء قصر الدّوق الأكبر منذ الفجر.
في الرّدهة المظلمة قبل شروق الشّمس، وقف ظلّ ضخم ومألوف في المنتصف.
فتح دييغو فمه بوجه مطمئن.
“لقد عدتَ مبكرًا هذه المرّة. لا بدّ أنّكَ جائع، سأخبر المطبخ لتحضير الطّعام…”
“أين ذلك الشّيء؟”
“ماذا؟”
“ذلك الذي يقلّد مظهري.”
أدرك دييغو أنّه يقصد روبين، فانحنى باحترام.
“الطّفل يقيم في أكبر غرفة الضّيوف في الطّابق الثّالث. راقبناه بعناية أثناء غيابك، ولم يُظهر أيّ سلوك غريب.”
“لا داعي لمرافقتي.”
ما إن سمع التقرير، سار أصلان دون تردّد.
عبس وجهه. كلّما صعد الدّرج، ازدادت الطّاقة السّحريّة المزعجة قوّة.
أمسك مقبض باب الغرفة و غتحه بعنف، فرفع صبيّ كان يجلس على السرير يتزيّن و الخادمة التي تخدمه رأسيهما مذعورين.
“ابتعدي.”
“سيّدي!”
مدّ أصلان كفّه و أمسك بوجه روبين.
بين أصابعه المفتوحة، لمعت عينا الصبيّ الذّهبيّتان ببريق حادّ.
“كما توقّعت، إحساس مقزّز.”
“آآآآه!”
صعق! أدخل أصلان قوّة سحريّة في كفّه.
اجتاحت الغرفة رياح عاتية جعلت فتح العينين صعبًا. تحطّمت نوافذ الغرفة، وتناثرت الأثاث المكسور على الأرض.
وسط الضّجيج، صرخ الصبيّ… أو بالأحرى، ما كان صبيًا، بعويل ممزّق.
“هه، هذا الكيميرا هو ابني غير الشّرعيّ؟”
سقط الطّفل الذي كان يتلوّى من الألم على السرير.
تنقّلت ثماني عيون ذهبيّة بسرعة في كلّ اتّجاه. كانت مخالبة الحادّة تمزّق الشّراشف، و ظهره المنحني بشكل غريب يلهث بصعوبة.
الوحش العنكبوتي أراكني.
أطلق أصلان ابتسامة ساخرة عندما تأكّد من حقيقة الصبيّ.
“……!”
في تلك اللحظة، فتح الفرسان الذين هرعوا إلى الطّابق العلوي بعد سماع الضّوضّ عيونهم في ذهول.
لم يخطر ببالهم أن ما قيل إنّه ابن سيّدهم غير الشّرعيّ كان وحشًا يستخدم سحر التّحوّل—.
ألقى أصلان أراكني المحترق بالسّواد على الأرض.
“خذوه إلى السّجن تحت الأرض.”
“آ، آه، يؤلم…”
“وأيضًا، لا تتحدثوا عن ما رأيتم اليوم. عالجوا الأمر بهدوء دون أن يتسرب للخارج.”
“حاضر، سيّدي.”
قيّد الفرسان المنحنون أراكني بالسّلاسل، وأخذوا الخادمة التي شهدت المشهد معهم.
نظر ديلان، الذي أنهى التّرتيبات، إلى الغرفة الفوضويّة و تمتم.
“كنتُ أتساءل كيف حصلوا على العينين الذّهبيّتين، رمز العائلة المالكة…”
“العيون مرآة الرّوح. مهما استخدموا من سحر، لا يمكن تغييرها.”
“لكن من ذا المجنون الذي يستخدم وحشًا حقًا؟”
لو انتشر خبر وجود وحش ذكي في العاصمة مينيرفا، والأسوأ أن مكان ظهوره هو قصر دوق بلاكفورد…
مجرد تخيل ذلك أمر مروّع.
لم يجرؤ ديلان على ذكر اسم المسؤول، و فرك جبينه كمن يقول إنّ الأمر مزعج.
“حسنًا، هو شخص قادر على فعل ذلك بسهولة. لقد فكّر جيدًا من نواحٍ عدّة.”
بما أنّهُم وضعوا قشرة طفل، كان من الصّعب تعذيبه أو استخدام السّحرّ ضده دون تحفّظ.
بل كان أيضًا وسيلة فعالة لاستفزاز أزلان الملعون.
ليذكّره أن حالته، حيث يتحول إلى وحش، لا تختلف كثيرًا عن هذا الأراكني المقزز.
“نعم، استغل عقله جيدًا.”
حقق يوهانس هدفه. شعر أصلان الآن بالذل والمهانة.
“جيد جدًا…”
لكن هذا ليس لأنّه رأى نفسه في أراكني فقط .
لو لم تعد فيفيان إلى قصر الدوقية، ولو تسبّب أراكني هذا في إيذائها أثناء غيابه…
‘كدتُ أتسبّبَ في أذيتها مرّة أخرى بسببي، بعد أن جُرحَت من قبل.’
فيفيان تتأذّى لأنّها إلى جانبه. هذه المرّة كان الحظّ حليفها، لكن هل سيكون كذلك في المرّة القادمة؟
‘يجب أن أتأكّد من أنها بخير.’
مع الغضب تجاه يوهانس، اجتاحه القلق بشكل مظلم.
رغم أنّه غادر غرفتها للتوّ، اشتاق إليها بشكل لا يُطاق. أراد أن يعانق كتفيها النّحيفين، ويقبّل عينيها المنحنيتين كالقمر.
فقط لو يتمكن من معانقتها في أحضانه…
“هل حدث شيء أثناء غيابي؟”
كبح أصلان رغباته الجامحة.
من أجل فيفيان، لم يعد يصلح أن يستمر بهذه الطريقة. ليس من أجل البقاء، بل من أجل الحماية.
“وصلتنا رسالة من الجاسوس الذي زرعناه في القصر. يبدو أن عليك أن تراها بنفسك.”
“سأذهب الآن.”
انتهى وقت المراقبة بصمت، وبدأ وقت التغيير.
كل ذلك… فقط من أجل أن أحميها.
* * *
[بالأمس، لم أتمكّن من لقائكِ بسبب زائر غير متوقّع. سأتولّى أمر العلاج بنفسي. إذا زرتِ النّقابة قريبًا، سيسعدني ذلك.]
رفعت فيفيان ورقة موضوعة على طاولة غرفتها بصمت.
لم ترَ أصلان منذ الصباح، فتساءلت إن كان قد عاد إلى هيئته البشريّة بسلام، لكن يبدو أنّ هيسيوس ترك أثرًا بعد تأخير.
“قلتَ إنكَ ستأتي، ثم اختفيت. ظننت أنكَ نسيت، لكنكَ هربت كالجبان.”
[ومن قال إنني هربت؟]
فجأة، لمعت الورقة، وكُتب سطر إضافيّ في الأسفل.
[أقول إنّني اتّخذتُ احتياطات لأنّ مواجهة وليّ العهد قد تُسبّب متاعب.]
[أميرة، ما هذا الصّمت؟]
[يبدو أنّكِ لا تصدّقينني، لكن يومًا ما-]
عبست فيفيان ومزّقت الورقة بحزم.
انكسر الختم السحري الموجود على ظهر الورقة، وأصدر صوت تمزّق خفيف.
“آه، الحروف كانت تتحرك. كم كان ذلك مقززًا. كأنها دودة مقطوعة.”
تذكّرت مشهدًا في الرّواية الأصليّة حيث استخدمت إيريس هذا بعد استيقاظها كساحرة.
كانت هذه الرسالة أداة سحريّة تتيح التّواصل عندما تكون مفتوحة.
التعليقات لهذا الفصل " 59"