في الوقت ذاته، كان يوهانس جالسًا في مكتب قصر ولي العهد، غارقًا في التفكير. على المكتب، كان هناك تقرير قصير جاء به طائر الزاجل.
أصابعه الطويلة الأنيقة نقرت على المكتب بانتظام
طق، طق.
أدرك مساعده أن مزاج يوهانس لم يكن على ما يرام، فأنحنى برأسه بهدوء دون كلام.
انتشرت ابتسامة شاحبة على وجهه الجميل كاللوحة. لكن المساعد كان يعلم جيدًا أن هذه الابتسامة كانت إشارة خطر.
“إذن، هكذا إذًا. وحش قذر يتبع الأميرة…”
“ألم تكن أميرة إليونورا تروّض الوحوش وتتباهى بها منذ زمن؟”
“تلك كانت وحوشًا حقيقية ، و ليست شيطانًا يرتدي قناع وحش.”
بدت نبرته الخافتة و كأنها تخرج بلطف للوهلة الأولى. لكن عيني يوهانس، وهو ينظر إلى التقرير، كانتا تحملان انزعاجًا واضحًا.
‘أعلم أن سوء التفاهم حول علاقتي بأصلان قد تسبب لكَ بالقلق. هذه المرة أيضًا، تسببتُ في إزعاج لسموك.’
تذكّر يوهانس رفض فيفيان المثالي الخالي من العيوب.
كان متأكدًا هذه المرة أنها ستنهار. كان أصلان يتجاهل الأميرة ببرود في كل مأدبة، مُعرضًا إياها للإذلال.
حتى لو تغيّر سلوك أصلان قليلًا مؤخرًا، فإن “المأدبة” كانت كفيلة باستحضار طبقات الاستياء و الشكوك المتراكمة لديها.
‘ألم تسمع همسات الناس للتو؟ أصلان لم يرقص مع الأميرة أبدًا حتى الآن. فكيف يُصدّق أنه يتصرف كخطيب حقيقي الآن؟’
‘هل ينوي إذلال الأميرة أمام الناس مجددًا؟’
بينما يرى وجه أصلان المتجهم، كان يوهانس واثقًا من انتصاره.
كانت الأميرة هي الوريثة الوحيدة لعائلة إليونورا. حتى لو أُهينت من أصلان ، فإن كبرياءها النبيل الذي وُلد معها لن ينكسر.
كانت من النوع الذي يفضل الموت جوعًا على تناول طعام سقط على الأرض.
استغلّ يوهانس هذا الكبرياء.
حثّها على رفض أصلان المتشبث بها و اختياره هو كشريك. أن تعيد له الإذلال الذي شعرت به سابقًا.
“كانت المرة الأولى التي لا تسير فيها الأمور كما خططت.”
تمتم بهدوء وهو يستفيق من ذكرياته. حدّق يوهانس في تقرير آخر أحضره المساعد. لاحظ المساعد نظرته وتحدث بسرعة
“جاء رد إيجابي من محكمة مينيرفا. ستُعالج نتائج التحقيق بما لا يزعج سموك.”
“و ماذا عن الماركيز باستيان؟ المحقق هو الأهم.”
“يظهر رد فعل فاترًا تجاه محاولاتنا لإقناعه، لكن لا داعي للقلق. حتى لو رفض، لن يتمكن الماركيز بمفرده من تغيير نتائج الإدارة العليا.”
كاد يوهانس أن ينتقد تفاؤل المساعد، لكنه أغلق فمه فجأة.
‘الماركيز هو أحد النبلاء الرئيسيين في التيار المحايد. إذا أخطأنا في التعامل معه، قد يكون ذلك كمن يطعن في خلية نحل. للأسف، لا يمكننا المخاطرة أكثر…’
خلال الأيام القليلة الماضية، عانى يوهانس كثيرًا للتعامل مع قضية خوان.
كان معظم من تناولوا دواءه من النبلاء المؤثرين. و عندما ظهرت مشكلة في الدواء، بدأت حالات الآثار الجانبية المكبوتة سابقًا تظهر واحدة تلو الأخرى.
تحوّلت أنظار النبلاء المستاءين نحو القصر الإمبراطوري، مما اضطر يوهانس لتحمّل توبيخ الإمبراطور لأول مرة منذ زمن.
“ماذا عن خوان؟ يجب أن يكون التحقيق جاريًا.”
“يبدو أنه فهم التحذير جيدًا، فهو لا يزال صامتًا.”
“لكنه لن يصمت طويلًا.”
لمعت عينا يوهانس بلمحة مخيفة للحظة.
لكن عندما نظر إليه مرة أخرى، كان يبتسم بلطف كما لو لم يحدث شيء.
“تأكد من التعامل مع الأمر بسلاسة. لا أريد أن أتدخل بنفسي.”
“سأحرص على ذلك، صاحب السّمو.”
تراجع المساعد بانحناءة مهذبة، و سحب يوهانس الحبل ليستدعي خادمًا.
“أريد الخروج الآن، هل يمكنكَ التحضير؟”
“نعم، سموك. يبدو أن هناك أمرًا سارًا.”
“هل يبدو كذلك؟”
كان الخادم شابًا جديدًا في القصر.
دون أن يتخيّل مضمون المحادثات التي دارت في الغرفة، أومأ برأسه بسعادة متأثرًا بابتسامة يوهانس.
تنهّد يوهانس بهدوء ونهض من مقعده.
“ها، يبدو أنكَ تفتقر قليلاً إلى الحدس.”
“ماذا؟”
“أنا لا أحب الأشخاص الذين مثلكَ كثيرًا.”
اقترب يوهانس من الخادم في لمح البصر. سُمع صوت تكسر مخيف.
عندما أفلت يوهانس قبضته، انهار جسد الخادم كغصن جاف، ورقبته مكسورة بزاوية غريبة.
“إذا أردتَ لوم أحد، فعليكَ لوم أصلان الذي أفسد مزاجي.”
تمتم يوهانس بهدوء و هو يمسح يده الملطخة بالدم بمنديل برفق، ثم تحرّك.
“أو لُم نفسك على قلة حِدْسِك.”
تلاشى صوت خطواته الثابتة تدريجيًا في الرواق.
* * *
في طريقها إلى المبنى الرئيسي بعد إرسال ديلان، هزّت فيفيان رأسها.
“ما الذي تفكر به أختي مع شخص مثله…”
كانت تشعر بالأسف لدرجة أنها لم تستطع إكمال جملتها.
دون أن تلاحظ أصلان، الذي كان يتبعها و يصدر أصوات تذمر، تذكّرت عيني إيريس المتلألئتين.
تلك العيون التي كانت تختبئ بشكل خرقاء خلف عمود، تنظر إلى ديلان دون أن تدخل المبنى الملحق.
‘كانت بالتأكيد عيون فتاة واقعة بالحبّ.’
ترك طعم مرير في فمها.
لكن هذا لم يكن فقط لأنها قلقة من أن تتعرض إيريس لعرض زواج سيُخلّد في تاريخ الإمبراطورية.
‘منذ أن كانا ينظران لبعضهما كالأبقار والدجاج، كنتُ أشعر بشيء ما…’
لقد وقعت بطلة القصة الأصلية في حب رجل آخر بدلاً من البطل.
في القصة الأصلية، مكّن الختم أصلان من الحفاظ على وعيه الإنساني حتى في حالة الوحش السحري.
كان ذلك حدثًا تاريخيًا جعل أصلان، الذي كان يعاني من صراع هويته بين الإنسان و الشيطان، يقبل نفسه أخيرًا.
‘بالنظر إلى النهاية القاتمة للقصة الأصلية، قد يكون هذا أفضل لأختي، لكن ماذا عن أصلان؟’
توقّفت فيفيان فجأة و استدارت.
كان الوحش الضخم المرعب يحدّق إليها بعيون ذهبية وديعة.
‘التعلّق حقًا أمر مخيف.’
حتى لو أصبح أصلان إمبراطورًا كما خططت، فإن قلبه الجريح لن يجد من ينقذه.
على الرغم من أنهما عاشا معًا لبضعة أشهر فقط، شعرت بالأسف على النهاية التي سيواجهها. لم يعد الأمر يبدو كشأن الآخرين.
“تعالَ إلى هنا ، هكذا.”
“كرر.”
اندسّ الأسد الأسود في حضنها بسعادة. كان منظره و هو يدفن رأسه في رقبتها و هو يعانقها لطيفًا جدًا.
إنه وديع و مطيع للغاية.
“هل تشعر بالضيق من البقاء في الداخل؟ هل نذهب للصيد معًا؟”
“كرر!”
“آه، لكن قبل ذلك، يجب أن أتلقى اتصالا. لقد اتفقوا على إرسال شخص من متجر سكارليت للخياطة.”
تأرجح ذيل أصلان الذي كان يهتز بلطف فجأة و ضرب الأرض بقوة.
كان ذلك يعني أنه منزعج للغاية، لكن فيفيان، التي بدأت تمشي مجددًا، لم تلاحظ ذلك.
“كنتُ أتمنى أن يأتوا بعد ذهاب أليكس إلى العمل. موظفو الخياطة عادة ليسوا من الشباب الوسيمين، و إذا رآهم أليكس، فسيضعهم بالتأكيد في قائمة خيانتي.”
من خلال الشائعات المنتشرة في العاصمة، توقّعت فيفيان تصرفات يوهانس.
كان نفوذه يمتد مثل جذور شجرة قديمة في أرجاء الإمبراطورية.
على الرغم من أن الماركيز باستيان تولّى التحقيق، فمن المؤكد أن يوهانس قد اشترى محكمة مينيرفا بأكملها.
و ربما تخلّص من خوان قبل أن يتحدث.
‘بما أن سمعة ولي العهد المثالية قد تضررت من هذه القضية، فهذا إنجاز كافٍ.’
قبل أن يتحوّل استياء النبلاء إلى العائلة الإمبراطورية بأكملها، قررت فيفيان نشر الترياق.
لهذا السبب أرسلت إشارة عبر متجر الخياطة للقاء هيسيوس.
“هل وصلوا بالفعل؟”
عند دخولها المبنى الرئيسي، رأت فيفيان الخدم يتحركون بسرعة وهي ترمش بعينيها.
لكن شيئًا ما كان غريبًا. هل كل هذا الاضطراب فقط من أجل شخص و عدة فساتين من متجر الخياطة؟
“نلتقي مجددًا، أيتها الأميرة.”
استدارت فيفيان و هي تقف مذهولة وسط القاعة.
ملأت باقة ورد حمراء ضخمة مجال رؤيتها.
“اخترتُ أكبر و أفخم أنواع الورد، لكنها لا تزال لا تضاهي جمالكِ.”
التقى نظرها بيوهانس من خلف باقة الزهور. ابتسم وهو يرى تعبيرها المصدوم.
“ماذا؟”
“تحياتي لسموك.”
استعادت فيفيان رباطة جأشها بسرعة و فهمت الموقف.
كان هناك ثلاثة أو أربعة فرسان خلف يوهانس، لكن بالنسبة لمرتبته كولي عهد، كان العدد قليلًا.
لم تكن تعرف هدفه بالضبط، لكنه لم يأتِ لإثارة الفوضى، على ما يبدو.
“هل الدوق موجود؟”
“لقد جئتَ لمقابلة أخي. انتظر في غرفة الاستقبال، و سأذهب لاستدعائه.”
“لا داعي لذلك. لقد جئتُ لرؤيتكِ…”
في اللحظة التي حاول يوهانس الإمساك بفيفيان، تدخّل أصلان بسرعة بينهما.
كشّر الأسد الأسود عن أنيابه و هدر بقوة تجاه يوهانس. بالنظر إلى تمزيقه صورته بالأمس، كان من المحتمل أن يفعل الشيء نفسه بالأصل.
و هذا يعني أنها، هي التي تحتفظ بالأسد الأسود، قد تُتّهم بقتل أحد أفراد العائلة الملكية…
“لا، لا يمكن!”
تحرّك جسدها أسرع من عقلها. رمت نفسها أمام أصلان، تحتضن وجهه الهادر بقوة.
“أعتذر، سموك. هذا الوحش لم يُروّض بعد!”
“ابتعدي، أيتها الأميرة، إنه خطر. أنا بخير، هيا.”
“كررر!”
أمسك يوهانس بمعصمها الأبيض النحيل. ضاقت حدقتا أصلان. كان هديره مشبعًا بنية قتل واضحة.
نظر يوهانس إلى أصلان بهدوء، و مرّت لمحة غامضة في عينيه.
“همم، هل يعقل؟”
التعليقات لهذا الفصل " 57"