دفع هيسيوس فيفيان فجأة للتخلّص من كلّ الدّواء، مقدمًا لها ترياقًا من صنعه.
شعرت فيفيان بالضّغط من الجوّ المفاجئ، فلم تتمكّن من قول إنّها لم تتناول الدّواء، و ابتلعت الترياق كلّه دون تفكير.
عندها فقط عاد هيسيوس إلى ملامحه المعتادة.
‘يا أميرة، ما الذي تنوين فعله الآن؟’
‘حسنًا…’
كانت شهرة خوان قد بدأت للتّو في الانتشار، و تزايدت الزّيارات الطّبيّة له.
بما أنّ عدد النّبلاء المتضرّرين لا يزال قليلًا، فإنّ إثارة القضيّة الآن لن تُلحق ضررًا كبيرًا بيوهانس، هذا مؤكّد.
‘إلى أيّ مدى يمكن لهذا الترياق أن يزيل السّم؟ هل ستبقى آثار جانبيّة؟’
‘هل تشكّكين في قدراتي الآن…’
توقّف هيسيوس فجأة عن الكلام.
بدا و كأنّه يحاول استنتاج سبب سؤالها المفاجئ عن الآثار الجانبيّة، ثمّ لوى شفتيه باهتمام.
‘من هو الهدف؟’
‘هيسيوس، ألا ترغب في جني المتعة و الرّبح معًا؟ ليس فقط أموالًا طائلة، بل ستشهد أيضًا مشهدًا رائعًا لأناس متعجرفين يتوسّلون عند قدميك.’
‘أن تفكّري بهذا في لحظة قصيرة، لا أعلم لمَ لم ألاحظ شخصًا مثلكِ من قبل .’
عادت فيفيان من ذكرياتها.
كلّ شيء كان تحت سيطرتها. ظهور يوهانس المفاجئ، و كلّ المواقف غير المتوقّعة التي ستحدث لاحقًا.
“النّهاية الكبرى تقترب. لكن قبل ذلك…”
أخرج هيسيوس من جيب ردائه صندوقًا صغيرًا وناوله لها.
كان بداخله سوار من التوباز الأزرق يشبه عيني فيفيان.
“عيد ميلاد سعيد، يا أميرة.”
أحاطت طاقة سحريّة ساطعة جسد هيسيوس بالكامل.
تلاشى الضّوء في غمضة عين، ولم يبقَ في الغرفة سوى فيفيان وحدها.
* * *
مع ميلان القمر و تعمّق الليل، خفت ضجيج قاعة الحفل فجأة.
“هل أطلتُ الانتظار؟”
تلقّت فيفيان أنظار الجميع و هي تنزل الدّرج بحذر.
تألّق فستانها ذو الطّيّات الواسعة كجوهرة تمتصّ ضوء القمر. تدفّقت تنّورتها المتعدّدة الطّبقات مع حركاتها بنعومة كالماء.
نسيج شفّاف يشعّ بنفسه، فستان رائع وجميل لم يُرَ مثله من قبل.
“يا إلهي…!”
“كأنّ ملاكّا هبطت إلى الأرض.”
لكن جمال فيفيان السّاحر طغى على قلادة الماس البرّاقة و الفستان المتلألئ.
بفضل بتلات الزهور في ماء الاستحمام، كان جسدها ينبعث منه عبير زهور خفيف، و كان خدّاها و شفتاها متورّدين كالخوخ النّاضج.
لم ينظر أحد إلّا إليها. غرقت قاعة الحفل الواسعة في صمت عميق.
“…..”
توقّفت في منتصف الدّرج، و ابتسمت و هي تنظر إلى القاعة.
أصلان كان يتحدّث مع وفد من إقطاعيّة الشّمال، الماركيز و زوجته كانا يرقصان ممسكين بأيدي بعضهما.
ديلان يتسكّع حول إيريس لسبب ما، و أليكس الذي اختفى لا يُعلم إلى أين.
وأصدقاء فيفيان القدامى ينتزعون شيئًا بحركة عجولة من خادم ذي شعر فضّي.
“فيفيان…”
استفاقت من أفكارها.
كان أصلان يقف أمامها الآن. رغم وقوفه على درجات أدنى منها، كان طوله اللافت يجعل عينيهما تلتقيان مباشرة.
حرّك شفتيه كأنّه يريد قول شيء، لكنّه لم ينطق.
تحدّثت فيفيان أوّلًا:
“الجميع صامت، إنّه محرج.”
“…..”
“جهّزتُ نفسي لهذه المناسبة، ألا يناسبني؟”
“لا! ليس كذلك…”
أغلق أصلان فمه فجأة، ثمّ تمتم و كأنّه مسحور:
“جميلة. أجمل ما رأيت.”
ابتسمت فيفيان بلطف و وضعت يدها على ذراع خطيبها. حدّق أصلان في عينيها الزّرقاوين، ثمّ بدأ يتحرّك.
عندما نزلا إلى الطّابق السّفلي، تجمّع الضّيوف المذهولون حولها.
“لقد فوجئتُ! ظننتُ أنّ ملاكًا هبطت!”
“خطيبة بهذا الجمال، يا لحسن حظّ الدّوق الأكبر!”
غطّت فيفيان فمها كأنّها خجولة، ونظرت بعيدًا. صادف أن التقت عيناها بيوهانس الواقف بين النّاس.
“يا أميرة، حقًا…”
ما إن فتح فمه حتّى اشتدّت قبضة أصلان حول خصر فيفيان.
في تلك اللحظة، لوى يوهانس شفتيه بطريقة دقيقة.
“آه!”
رنّ صوت سقوط مدوٍّ فجأة في القاعة . استدار النّاس المذهولون معًا.
“آه، كح!”
كان أحد أفراد المجموعة التي سخرت من فيفيان سابقًا يمسك صدره و يلهث، ثمّ انهار على الأرض محطّمًا زخرفة رخاميّة.
كانت عيناه محتقنتين بالدّم، و فمه يتقيّأ و يزبد . كانت هناك مساحيق ورديّة مبعثرة حوله.
“آه، كح.”
لو كانت القاعة صاخبة، لكان ردّ الفعل محصورًا ببعض المحيطين.
لكن بما أنّ الجميع كان صامتًا ينظر إلى فيفيان، رأى الجميع الرّجل يتلوّى على الأرض بوضوح.
صرخت السّيدات النّبيلات، و لم يتمكّن حتّى السّياسيّون المحنّكون من إخفاء ذهولهم.
“فهمت الوضع.”
أخفى أصلان فيفيان خلفه وأشار بعينيه إلى ديلان. تقدّم نبيلان متخصّصان في الطّب للمساعدة.
فحص أحدهما الرّجل المصاب بالنّوبة بمساعدة ديلان، بينما حقّق الآخر في الدّواء المبعثر حوله.
“هذه بوضوح أعراض تسمّم.”
“هل يمكن تحديد السّبب؟”
“من الواضح أنّ هذا الدّواء من مستشفى مينيرفا…”
تردّدت محادثة الثّلاثة في القاعة الهادئة.
نظرت فيفيان إلى يوهانس بنظرة خاطفة. رغم الضّجيج، بدا وجهه هادئًا، لكن عينيه كانتا تحدّقان في كيس الدّواء على الأرض.
كانت شكوك النّاس تميل بوضوح نحو جهة واحدة.
“دعني أرى.”
ترك أصلان فيفيان مع الفرسان و تقدّم. التقط كيسًا من الأرض و فتح باب الشّرفة
.
كانت هناك بعض العصافير جاثمة على السور.
فتّت بعض البسكويت في يده، خلطه بالدّواء، ونثره على الأرض.
“أصلان، انتظر!”
شعر يوهانس بالخطر و تقدّم بسرعة، لكنّه تأخّر.
العصافير التي أكلت الخليط طارت بجنون، ثمّ سقطت و كرّرت نقر الدّواء.
لم تلتفت إلى البسكويت، بل تدحرجت في الدّواء فقط حتّى ماتت.
“…..”
تحطّم كيس الدّواء في يد أصلان.
“ما الذي يحدث؟”
لمع عيناه الذّهبيّتان في الظّلام.
نظر إلى السّماء الليليّة و كأنّه يكبح غضبه، ثمّ أدار ببطء نظره ليرى وجه فيفيان.
للحظة، بدت عيناه مغمورتين باليأس.
“هذا الدّواء بوضوح…”
رأت فيفيان هالة سوداء تتصاعد حول أصلان.
كانت أكثر سوادًا من الليل، تحيط بجسده تدريجيًا. ركضت إليه دون تفكير.
“أصلان، هل أنتَ بخير؟”
“هذا الدّواء الذي كنتِ تتناولينه.”
“ماذا؟”
“نفس الدّواء الذي كنتِ تتناولينه طوال الشّهر الماضي، هذا الدّواء اللعين…!”
صرّ أصلان على أسنانه وأمسك يوهانس من ياقته قبل أن تمنعه فيفيان.
“هل كان هذا هدفك؟”
“أصلان، توقّف! أصلان!”
“أنا أسألك، هل كان هذا هدفك؟”
“امنعوا سموّه! بسرعة!”
تعلّق نبلاء الشّمال بذراع أصلان، لكن لم يكن بإمكانهم مقاومة قوّته. تناثروا كالأوراق.
أدارت فيفيان نظرها.
كان النّبلاء ينظرون حائرين بين أصلان الهائج و العصافير الميتة.
قرّر يوهانس استغلال الوضع كضحيّة، فأطرق صامتًا رغم قبضة أصلان على ياقته.
‘هذا لن يفيد. يجب أن تتّجه الأنظار بوضوح إلى يوهانس…’
شعرت أنّها تستخدم حركتها القاضية كثيرًا مؤخرًا، لكن لا مفرّ.
“كح، كح!”
غطّت فمها بالمنديل، متظاهرة بصعوبة التّنفس، و تعلّقت بذراع أصلان.
“كح، آه!”
أطلق يوهانس تقريبًا و أمسك بها بسرعة.
“فيفيان، اهدئي! فيفيان!”
“أصلان…”
“أين تتألمين؟ هل أنتِ بخير؟”
غطّ كفّه الكبير خدّها بعجلة. احتضنته فيفيان وهي تلهث.
“لا تفعل هذا، أرجوك. سموّ وليّ العهد ليس مخطئًا. كح، كان فقط يوصي بزيارة خوان للعلاج، كح، كح!”
“لكن من اختار خوان ليكون طبيبًا ملكيًا هو…!”
كاد أصلان يعترض، لكنّه احتضنها بحنان وهي تنظر إلى يوهانس كأنّها تؤكّد براءته.
تحوّلت أنظار الضّيوف الذين تابعوا الحوار إلى وليّ العهد.
تجمّد وجه يوهانس.
“اقبضوا على خوان فورًا.”
كانت عيناه، و هو ينظر إلى الدّواء المبعثر، تعكسان يأسًا لا يمكن إخفاؤه.
“لم يهرب بعد.”
“حاضر!”
انحنى فرسان الحرس الملكيّ بسرعة و اندفعوا. تبعهم ديلان بأتباعه بسرعة بناءً على إشارة أصلان، خشية أن يخفي يوهانس الأدلّة.
نظر يوهانس إلى أخيه الأصغر بنظرة قاسية، ثمّ خاطب النّبلاء:
“سأحقّق في هذا الحادث بسرعة و دقّة. لذا، لا داعي للقلق، انتظروا النّتائج بهدوء.”
“هذا كإخفاء الحقيقة.”
“ماذا؟”
“ألستَ أنتَ من رشّح خوان ليكون طبيبًا ملكيًا؟”
وقف أصلان أمام يوهانس، وعيناه تفيضان بنية قاتلة. كان تحدّيًا صريحًا لسلطة وليّ العهد.
“احترس من كلامك، أصلان. صبري على غرورك له حدود.”
“بل قل إنّك كنتَ تريد استهدافي. أم أنّكَ تخاف منّي؟”
“هذا التّحذير الأخير.”
“إن لم يكن كذلك، فكيف تجرؤ على المساس بخطيبتي!”
التعليقات لهذا الفصل " 51"