في هاوية لا قرار لها كالجحيم السفلي، كان أصلان يتوه في متاهة ذاكرته الطويلة.
“أيها الشيطان الملعون الذي يمزق روحي و يستولي على جسدي، ما الذي ستلقيه عليّ هذه المرة لتغرقني في اليأس؟”
كريك كريك كريك كريك.
مع صوت ضحكة مخيفة تتردد كطنين الأذنين، تغير المشهد.
قاعة احتفال فاخرة في القصر الإمبراطوري. لكن طريقة رؤيته للمكان اختلف عن الصورة التي يعرفها أصلان. الدماء كانت تغمر عينيه و أصبحت رؤيته بلون قرمزي داكن.
طقطقة منتظمة لصوت كعوب الأحذية تقترب. خفض أصلان بصره.
“فيفيان إليونورا من بيت إليونورا، تحيي سمو الدوق الأكبر.”
امرأة تنحني بأدب كما اعتادت، و أصلان الذي يتجاهلها وكأنها مألوفة لديه.
ضحكات و همسات ساخرة تنبعث من حولهم، والسهام التي تصوغها الألسن دائمًا ما تتوجه نحو فيفيان.
لا شك أنها سمعتها، لكنها…
“…”
رموشها الرقيقة كجناحي فراشة ترفرف ببطء. كان هذا هو كل رد فعلها.
لو أنها فقط صرخت أو غضبت، ربما كان سيشفق على ضعفها ، لكن تلك العيون التي لا تظهر أي مشاعر بدت له مقززة.
‘كأنها دمية بلا مشاعر. إنها حقًا امرأة أرسلتها الإمبراطورة.’
ولأنه لم يستبعد أنها من أتباع الإمبراطورة، فقد كان دائمًا في حالة حذر منها، بل كان يتعمد تحطيمها أمام الجميع.
وجود فيفيان إليونورا بحد ذاته كان أقوى دليل على خضوعه في النهاية للإمبراطورة.
كان يشعر بالغضب كلما رآها.
“يا للضجر. متى ستختفي من حياتي؟”
ومع ذلك، كان لا إراديًا يوجه نظره نحوها. إلى خادمة الإمبراطورة البغيضة، دون أن يعرف السبب.
تراكم الوقت ليشكل أيامًا، والأيام تتوالى لتدور الفصول.
وفي اليوم الذي دخل فيه عامه الثالث من الخطوبة مع فيفيان إليونورا، أعلن أصلان فسخ الخطوبة.
“منصب الدوقة الكبرى لن يكون لكِ يومًا. ستصلكِ ورقة فسخ الخطوبة قريبًا، فانتظريها بهدوء.”
“….”
أخيرًا، ظهرت تعابير وجهها.
في عينيها العميقتين كالمحيط، كان هناك حقد دفين. شفاه مضغوطة و كأنها تكتم البكاء، ونفس منخفض يرتجف.
وفيما تنهار جاثيةً على الأرض وهي تسعل، كان دم داكن يتسرب إلى منديلها.
“ستندم على هذا اليوم، يومًا ما.”
مع سخرية الشيطان الممزوجة بالهمس، انطفأت الرؤية كأن أحدهم أطفأ النور.
غرق أصلان مرة أخرى في ظلامٍ عميق لا قرار له.
* * *
“لا تقلق. أنا سوف أنقذك.”
من أنتِ؟ كيف تستطيعين التحدث إليّ بهذه البساطة، رغم أنني بهذا القبح و البشاعة؟ كيف يمكنكِ أن تبتسمي لي هكذا؟
متى استعاد أصلان وعيه، لقد كان تائهًا في الهاوية؟
بينما كان جسده مملوكًا للشيطان، و هو يسيطر عليه تمامًا، رمش بعينيه فجأة.
عاد بصره إليه. أمامه كانت فيفيان إليونورا، تلك المرأة التي يضيق بها ذرعًا.
في لحظات قصيرة، مرت في رأسه عشرات الاحتمالات.
كان يقاتل قتلة مأجورين حين استولت عليه اللعنة. وعندما استعاد وعيه، كانت فيفيان أمامه. لم يستطع ألا يشك.
‘هل قامت باغوائي؟’
كانت هذه أولى شكوكه.
‘هل رأت ذلك؟’
كان هذا الشك التالي.
رأت حقيقته… أن الأمير الثاني أصلان ريجيف أستاروت، الذي يحظى باحترام المجتمع الأرستقراطي و تتم طاعته من قِبل الفرسان، ليس سوى وحش دميم مقزز.
لكنه حين نظر للأسفل، أدرك أن هناك شيئًا خاطئًا. جسده ما زال مغطى بشعر خشن و فوضوي.
أدرك أصلان أنه لا يزال في هيئة الوحش.
‘لماذا يحدث هذا… هل جننت أخيرًا؟’
كلما تحوّل بفعل اللعنة إلى شكل وحش، كان يفقد وعيه و ذكرياته. لكنه الآن، رغم هيئته الوحشية، كان يحتفظ بوعيه البشري.
في لحظة امتلأت نظراته بالارتباك.
انفجار!
بدأت فيفيان إليونورا تضرب القفص الحديدي بفأس.
رغم وجهها الشاحب جراء نوبة السل، كانت تلهث دون أن تستسلم.
و أخيرًا، عندما تحطم القفل وأغمي على فيفيان من الإرهاق، قرر أصلان قتلها.
بما أنها رأت هيئته الوحشية، فقد كان من الصواب قتلها فورًا. بضغط بسيط على عنقها الرقيق، كان يمكنه إنهاء الأمر بسهولة.
“….”
لكن لماذا؟ عندما خطرت الفكرة بباله، لم يستطع تحريك قدمه، و كأن شيئًا ما يقيده.
نظر أصلان إلى فيفيان بنظرات مشوشة. وجهها الذي كان ورديًا، بدأ يفقد لونه تدريجيًا.
ضغط أصلان على أسنانه حتى صدرت منها فرقعة.
‘نعم، لا زلت بحاجة لهذه المرأة. لأوقف الهجمات السياسية من قبل ولي العهد، حتى لو اضطررت إلى تمثيل مسرحية تافهة.’
ها ها ها، أهذا السبب الحقيقي فعلًا؟
‘اصمت. اخرس.’
دافعًا همسات رأسه بعيدًا، حمل أصلان فيفيان المغمى عليها على ظهره.
* * *
رغم تحوله إلى أسد أسود اللون، ظل وعي أصلان صافيًا.
في الكهف الذي احتمى به من الأمطار الغزيرة التي كانت على وشك الهطول، راقب أصلان كل تصرفات فيفيان، وأدرك.
‘الأميرة لا تعرف شيئًا عن حقيقتي.’
كانت تتعامل معه كحيوان عادي. تعالج جروحه، وتتحدث إليه كما تتحدث لطفل.
كان تصرفها طبيعيًا جدًا، حتى أن أَصلان، دون أن يدري، أسقط حذره منها.
‘هل كانت تحب ترويض الوحوش؟’
قبل أن تصاب بالسل، كانت تحب الصيد، وكانت ماهرة في ترويض الوحوش التي تصطادها.
وأكثرهم تميزًا كان الذئب الفضي الذي كانت تعشقه. رآها أصلان عدة مرات تتعامل معه كما لو كان كلبًا أليفًا، تأخذه معها أينما ذهبت.
بالطبع، كانت تستغله أيضًا لتخويف الناس.
‘رغم أنني منزعج لأنها أخطأت في تصنيفي كحيوان عادي، لكنها لم تهرب، وهذا جيد. على الأقل وفّرت عليّ عناء البحث عنها مرتين.’
جلس أصلان في زاوية من الكهف يراقب تحركات فيفيان.
رغم أنها في المراحل الأخيرة من السل، ولم تكن تستطيع حتى حمل جسدها، ظلت تصر على فحص الكهف بكل حذر وهمّة.
لم يستطع أصلان فهمها.
‘يا لها من حمقاء.’
حتى عندما تنخفض حرارتها قليلًا، كانت تسعل دمًا وتفقد وعيها، لكنها رغم ذلك مزقت فستانها الدافئ لتعطيه له، دون أن تبدي أي تردد.
بينما هي، لم تكن ترتدي سوى ثوبها الداخلي الرقيق..
من تحت حمالة كتفها، كان يمكن رؤية جسدها النحيل بوضوح. أطرافها أصبحت شاحبة منذ وقت طويل.
‘لا، لا أريد أن أرى ذلك.’
جسد مريض هزيل نحيل.
في كل مرة يرى فيها آثار الموت المحفورة في جسدها، كانت تنهض بداخله مشاعر غضب مجهولة السبب.
أراد أن يُعرض بنظره عن تلك المأساة. شعر وكأن هناك من يضغط عليه ليحفر في ذاكرته هذا المشهد الضعيف المثير للشفقة إلى الأبد.
رغم معرفته بعدم منطقية الأمر بالنسبة لوحش، إلا أنه شعر وكأنها تتعمد التصرف هكذا لتُريه ذلك، فشعر بالانزعاج.
طَفّ.
دفع أصلان فيفيان، التي كانت تتنقل في أرجاء الكهف تبحث ، لتجلس بهدوء.
وحين أسندت نفسها إليه براحة، هدأ اضطراب ذهنه الذي كان في حالة فوضى. بل وحتى شعر برغبة غير معقولة في الاقتراب منها أكثر.
‘لا تفكر.’
حول نظره عن قصد ونظر إلى خارج الكهف حيث كانت الأمطار تهطل بغزارة.
دون أن يدرك ذلك، كانت فيفيان قد نامت و بدأ يصدر منها صوت تنفس منخفض ومريح. شعر أصلان بدفئها و أراح رأسه بهدوء.
لكن السلام لم يدم طويلاً.
“أعتقد أني سمعت صوتًا الآن.”
“أين؟”
رغم أنهما اختبآ في كهف على جرف وعر، إلا أن كلاب ولي العهد وجدوا طريقهم إلى هناك.
أصبح عقل أصلان بدأ يعمل بسرعة. أكثر ما شغله هو إن كان سيستطيع حماية فيفيان إليونورا.
كانت فتاة نشأت في أسرة نبيلة مترفة. وفوق ذلك، كانت في حالة احتضار، بالكاد قادرة على الاعتناء بنفسها.
جرح صغير واحد قد يودي بحياتها.
‘مهما حدث، لا يجب أن تموت. تذكّر هذا… آآه!’
بينما كان يحتضن فيفيان و يحرس المنطقة، ظهرت في عينيه غريزة قاتلة.
تلك الجملة التي تقول “لا تقتل”، والغضب تجاه يوهانس، شلت أخيرًا عقل أصلان الذي بالكاد حافظ على اتزانه.
قبل أن يدرك، قفز على أحد القتلة و مزق عنقه بأسنانه.
اندلعت معركة دموية، وسقطت أرواح كثيرة. لكن شد الحبل بين القوى لم يدم طويلًا.
“هناك شيء مريب داخل الكهف!”
“بالتأكيد هناك شيء. اقتحموا المكان!”
ازداد هجوم العدو ضراوة مع محاولة اقتحام الكهف. كلما اشتد الهجوم، ازداد جنون أصلان في الدفاع. كان عليه أن يحمي فيفيان.
‘يجب أن تكون موجودة. يجب أن تكون هي…’
لكن لماذا؟
صحيح أن وجودها سيسهل صد هجوم فصيل ولي العهد، لكن هل يعني ذلك أن حياتها أغلى من حياته؟
النفوذ الذي بناه بصعوبة بعد أن صعد من جحيم يغلي، أتباعه.
هل حياة أميرة واحدة أهم من كل ذلك؟
أصلان كان مشوشًا. لم يستطع فهم سبب حمايته المستميتة لها.
آه، عقله يغرق في السواد.
“ثغرة!”
القاتل لم يفوّت اللحظة التي تجمد فيها أصلان. حاول أصلان تدارك الموقف وتحرك، لكن…
‘اللعنة، هل تأخرت؟’
ارتفع سيف القاتل فوق رأس أصلان. وعندما استعد للألم وعض على أسنانه…
“كآآآآه!”
“عد إلى رشدك، أ-أيها-أيها الكلب! هل تريد أن تموت هنا؟!”
قفزت فيفيان في لحظة، وغرزت خنجرًا في مؤخرة عنق القاتل.
لم يصدق أصلان ما رأته عيناه.
فيفيان إليونورا، التي لم تمسك سوى بخنجر صغير بطول راحة اليد، تخلصت في لحظة من القاتل الذي كان يهاجمه.
شعرها البلاتيني الرائع انسجم بشكل مذهل مع رشاشات الدم. مثل محاربة تغلفها رائحة الدم، كانت تقتل خصومها بسهولة.
‘مهارات كهذه…’
لم يسمع من قبل أن ابنة أحد النبلاء تجيد استخدام السيف.
لكن هذا الاندهاش لم يدم سوى لحظة. كل حركاتها طُبعت في ذاكرته كلوحات فنية.
مثل زهرة عباد الشمس التي تتبع الشمس، وجد نفسه يحتفظ بصورتها بشكل غريزي في عينيه.
“هل تظن أني لم أترك مخرجًا للهروب؟ مكان موتي أنا من أقرره. و موتي ليس الآن.”
حين انهار الكهف، كاد قلبه ينفجر، وعندما خرجت من بين الصخور وهي تلاعب خنجرها وتبتسم، لم يستطع إلا أن يُعجب بجرأتها وذكائها.
ثم…
“كنت أستعد نفسيًا منذ علمت بإصابتي بالسل، لكن لم أكن أريد أن أموت وحيدة هكذا.”
عندما فكّر في أنه يريد إنقاذها و هي تحتضر، بدأت الطاقة السوداء التي كانت تهيج أصلان تتلاشى تدريجيًا.
الوحش القبيح العنيف تحوّل شيئًا فشيئًا إلى رجل وسيم و جذاب.
ركع أصلان على ركبة واحدة و رفع عنق فيفيان برفق في حضنه. ابتسمت فيفيان بحزن حين شعرت بلمسته.
“الآن، يبدو أنها النهاية…”
“ليس بعد، يا أميرة.”
حجب أصلان بجسده المطر الذي كان يتساقط عليها.
رفع خصلة الشعر الملتصقة بجبهتها، فانكشفت ملامح وجهها الشاحب بوضوح أكبر.
“افتحي عينيكِ، يا أميرة.”
“……”
“تنفّسي!”
كان يخشى أنفاسها التي تتلاشى تدريجيًا. وبينما كان يلمس جسدها المتجمد بيأس، خفض رأسه كما لو أنه اتخذ قراره.
سقط نفس دافئ من شفتيه على شفتيها الشاحبتين.
ثم صدر منها نفس ضعيف.
‘لماذا كلما اقتربت منكِ، أشعر بالجوع؟ لا أستطيع الاحتمال، أريد أن أقترب أكثر، أن ألامسكِ… مثل وحش جشع.’
ماذا فعلتِ بي بحق السماء؟
بينما كان يحتضن جسدها البارد في حضنه بلا فراغ، وجد أصلان أخيرًا الجواب.
التعليقات لهذا الفصل "5"