لم يستطع الضّيوف إبعاد أنظارهم عن الأجواء الفخمة والرّاقية في قصر بلاكفورد الكبير.
كان قصر الدّوق الأكبر يشبه القلعة الغامضة. مثل أراضي الشّمال، لم يُفتَح منزل العاصمة للعامّة من قبل.
لكن هذا المكان فُتح لأوّل مرّة من أجل حفل بلوغ فيفيان سنّ الرشد. كانت أصوات النّاس تعجّ بالدّهشة التي لا تخفى.
“يبدو أنّ الأمير الثّاني يهتمّ بالأميرة أكثر ممّا توقّعنا.”
“يا إلهي، تلك الثّريّات مصنوعة من كريستال الشّرق ، أليس كذلك؟ وانظروا إلى السّقف والجدران! مغطّاة بالرّخام المتوسّطي الذي لا يُشترى بالمال الآن!”
“سمعتُ أنّهم أعادوا البناء خصيصًا من أجل حفل بلوغ الأميرة ، إنّه مذهل حقًا.”
مرّت مجموعة من الضّيوف في الرّدهة، و تبعهم النبلاء في سنّ فيفيان.
على عكس الآخرين، بدت تعابيرهم متجهّمة.
“همف، مذهل؟ ما هذا!”
“ماذا سيبقى من الميراث إن ماتت فيفيان؟ حتّى الأمير الثّاني المتعالي أصبح تاجرًا.”
“في النّهاية، هو مجرّد ضبع الإمبراطوريّة، أليس كذلك؟ إنّه مناسب تمامًا لهذه الشرّيرة البغيضة.”
قبل إصابتها بالسّل، كانوا يتظاهرون بالقرب منها أكثر من أيّ أحد. لكن ما إن أدركوا أنّها “حبل متعفّن” حتّى تحوّلوا كالخفافيش.
والآن، كانوا ينتقدون كلّ شيء في الحفل ليثبتوا أنّ خيارهم لم يكن خطأ.
كان الحفل، حتّى قبل بدايته، فاخرًا بما يكفي ليثير قلقهم.
في هذه الأثناء، كانت فيفيان تستقبل الضّيوف داخل قاعة الحفل.
“شكرًا جزيلًا لحضوركما، الماركيز باستيان، و سيليا.”
“الأميرة إليانورا، أهنّئكِ على بلوغكِ سنّ الرّشد.”
“كما قلتُ سابقًا، عيد ميلاد سعيد مرّة أخرى، فيفيان!”
ابتسمت سيليا بخجل و هي تمسك ذراع الماركيز، مقدمةً صندوق هدايا. بدت متحمّسة طوال اليوم، لكن وجهها أشرق أكثر عند وصول الماركيز.
“كان يجب أن أقدّم لكِ شيئًا بدلًا من ذلك…”
“لا تفكّر هكذا. وجودك هو أكبر هديّة بالنّسبة لي.”
خلف الماركيز، وقف نبلاء من الفئة المتوسّطة المقرّبون منه. تبادلت فيفيان التّحيّات معهم واحدًا تلو الآخر.
“أتمنّى لكم وقتًا ممتعًا.”
ألقت فيفيان نظرة خاطفة على القاعة الواسعة وهي تودّع مجموعة الماركيز. خلافًا لتوقّعاتها، كان الضّيوف يتوافدون بلا توقّف.
‘ما الذي فعله أصلان بحقّ السماء؟’
عندما أصيبت فيفيان بالحمّى بسبب التّجهيز للحفل، استلم أصلان زمام الأمور.
‘أريد جعل الحفل أكثر فخامة ممّا خطّطنا. ما رأيكِ؟’
‘افعل ما تريد، أصلان. لا بأس معي بأيّ شيء.’
في الحقيقة، بدأت تشعر بالملل من التّجهيزات، فأوكلت له كلّ شيء. لم تتوقّع أن تؤدّي كلمة واحدة إلى هذه النّتيجة.
في غضون أسبوعين فقط، ضاعف أصلان حجم الحفل خمس مرّات.
‘هل هذا ؟ قليل؟!’
بسبب ذلك، حضرت وجوه غير مرغوب فيها.
“عيد ميلاد سعيد، فيفيان!”
“مرّ وقت طويل. اشتقتُ إليكِ حقًا.”
كانوا النّبلاء الشّباب و النّساء اللواتي كنّ قريبات من فيفيان قبل إصابتها بالسّل. لكن بالنّسبة لها الآن ، كانوا غرباء تقريبًا.
لكي لا تبدو متوتّرة، تظاهرت بالتّرحيب المناسب.
“صحيح. كيف حالكم جميعًا؟ كنتُ مشغولة جدًا ولم أتمكّن من التّواصل.”
“ما أهميّة التّواصل بيننا؟”
“بالضّبط! شائعاتكِ انتشرت في العاصمة، فلم نحتج للتّواصل. لم يتغيّر شيء حتّى بعد إصابتكِ بالسّل، أليس كذلك؟ يسعدني أنّكِ بخير.”
“حقًا؟”
أدركت فيفيان النّوايا الخبيثة خلف ابتساماتهم. لسبب ما، شعرت أنّ ذلك مألوف جدًا.
‘لو كنتُ فيفيان السابقة، لكنتُ ثرتُ على الفور…’
ابتسمت بهدوء.
“يبدو أنّكم مهتمّون بي كثيرًا.”
لم يكن شجار الشخصيات الإضافية يعنيها البتّة.
هدفها الوحيد و الأسمى كان قضاء بقيّة حياتها براحة في شاطئ النّخيل الزّمرّدي بالجنوب. لم تخفِ أنّ هؤلاء الأصدقاء القدامى لا يعنونها.
“استمتعوا إذن.”
“أ، آه؟”
لم تظهر الرّدود المتوقّعة، فتغيّرت تعابيرهم بشكل غريب. بدت فكرة أنّهم يحاولون استفزاز شخص غير مهتمّ بهم تزعجهم.
“هل يعاملكِ الأمير الثّاني جيّدًا؟”
توقّفت فيفيان عن المغادرة لحظة. توقّعت ما سيقولونه، ولم يخيّبوا ظنّها.
“بالطّبع يعاملها جيّدًا. يكفي أن يتحمّل نزوات فيفيان لسنة واحدة ليحصل على ميراثها…”
“لو كانت فيفيان خطيبتي، لكنتُ فزتُ بالجائزة الكبرى. ماذا لو غيّرتِ رأيكِ الآن؟ سأعاملكِ جيّدًا حقًا.”
“يا إلهي، هذا قاسٍ! هاهاها!”
في الماضي، تمسّكت فيفيان بزواجها من أصلان بكلّ قوتها، ليس حبًا، بل للهروب من قبضة الدّوق.
لكن في عيون من لا يعرفون الحقيقة، بدت تصرّفاتها مختلفة.
“حتّى الأمير الثّاني مبالغ فيه. يتصرّف كخطيب بعد أن أصبحت حالتها بهذا السّوء.”
“بالضّبط! كان يتجاهل توسّلاتها عند قدميه من قبل.”
كانوا يتظاهرون بالقلق بينما يتسلّون بينهم.
‘ماذا أفعل؟ طردهم صعب الآن…’
كظمت فيفيان غضبها، و نظرت إليهم ببرود وهي تضع ذراعيها على صدرها. كان ذلك كافيًا ليصمتوا. لقد أدركوا أنّ فيفيان تغيّرت حقًا.
كانت فيفيان الأصلية دائمًا كمن يُطارد، متوترة، وكلّ استفزاز بسيط كان يثير ردود فعل مبالغ فيها.
بدأت أجراس الخطر تدقّ في رؤوسهم.
“ن، نحن نمزح، تعرفين ذلك، أليس كذلك؟”
“لأنّنا التقينا بعد وقت طويل، لم نستطع ضبط أنفسنا من الفرحة.”
لكن الآن، مجرّد رمشة عينيها كانت تنضح بهدوء معاكس للسّابق.
شعروا بوضوح أنّ عدم اكتراثها ليس تمثيلًا.
كان هناك سبب واضح لتغيّرها…
“فيفيان، ما الأمر؟”
“لا شيء، مجرّد حديث متأخّر.”
“من بعيد، بدا وجهكِ متجهّمًا.”
عندما وضع أصلان يده على كتف فيفيان، تغيّر الجوّ فجأة.
عيناه الذّهبيّتان، اللّطيفتان عند النظر إلى خطيبته، لمعت بشراسة عند مواجهة النّبلاء.
تدفّق التوتر و كأنّ سيفًا حادًا يقترب من الأعناق.
“ربّما أصلان أساء الفهم.”
“أساء الفهم؟”
“من سيجرؤ على إزعاجي هنا؟”
“….”
كونهم كانوا مقربين من فيفيان سابقًا، كانوا جميعًا من عائلات بارزة.
لكن أمام هيبة إليونورا، أحد أبطال التّأسيس، و بلاكفورد، سادة الشّمال، لم يجرؤ أحد على فتح فمه.
‘تسك، مجرّد أشخاص تافهين، مَن يتحدّون ؟’
كان مضحكًا كيف كبحوا كبرياءهم المجروح. تخلّصت فيفيان من المجموعة بسهولة، وأمسكت بذراع أصلان لتغادر المكان سريعًا.
‘هذا الرّجل يعاني من الشّكوك مجدّدًا.’
بدت شكوكه قد هدأت مؤخرًا، لكنّه هرع إليها متّقد العينين فقط لأنّها تباطأت في الكلام مع معارفها القدامى.
لم تستطع الاطمئنان للحظة.
ربتت فيفيان على أصلان بهدوء وهو لا يزال ينظر إلى الخلف بنظرات متذمّرة.
“لم نتحدّث عن شيء مهمّ.”
“لكن…”
“كان الجوّ محرجًا بعض الشّيء لأنّنا التقينا بعد وقت طويل. إن بدا الأمر متوترًا، فهذا هو السّبب.”
“يبدو أنّني دعوتُ أشخاصًا لا داعي لهم.”
لم يبدُ وجه أصلان مرتاحًا.
تمتم بشيء غامض مثل “قلتِ إنّهم لا أحد”، لكن فيفيان كانت مشغولة بتهدئته.
“لقد أعددتَ هذا من أجلي، فكيف يكون عبثًا؟”
“قلبكِ رقيق جدًا، هذا عيبكِ.”
“أنا؟ مستحيل.”
‘أنا مستعدّة لقتل أيّ شخص يعيق شاطئ النّخيل الزّمرّدي الخاصّ بي.’
بينما كانت فيفيان تميل برأسها متعجّبة، سمعت همهمة من اتّجاه مدخل القاعة.
“ما الذي يحدث فجأة؟”
“….”
لم ترَ فيفيان سوى حشد من النّاس، لكن أصلان، بطوله الفارع، بدا أنّه اكتشف سبب الضّجيج.
تشنّج فكّه بصوت مسموع.
“مرّ وقت طويل، أصلان. وأنتِ أيضًا، أميرة.”
رنّ صوت ودود ممزوج بضحكة في القاعة.
كان التّوقيت الأسوأ.
“يبدو أنّ الجميع مندهش. ربّما كان حضوري محرجًا بعض الشّيء.”
عندما تقدّم يوهانس، انقسم الحشد كالبحر الأحمر.
كان وجهه الجميل كأمير من القصص الخياليّة، لكنّه بزيّه المطرّز بالذّهب بدا كملاك من الكتب المقدّسة، محاطًا بهالة.
رفع شعره الأشقر النّاعم و مدّ لفيفيان باقة زهور فاخرة.
“ليس من المعتاد أن يحضر أحد من العائلة الإمبراطوريّة مثل هذه المناسبات، لكن لم أرد تجاهل الدّعوة التي أرسلتِها بنفسكِ. أتمنّى ألاّ تعتقدي أنّني جئتُ لتهنئتكِ ببلوغ سنّ الرّشد بنوايا أخرى.”
“شكرًا، يا صاحب السّمو. لكن هذا مفاجئ جدًا…”
تلألأت الباقة تحت ضوء الثّريّات. عند التّدقيق، كانت مزيّنة بالذّهب والجواهر.
كانت باقة من المال بزيّ الزّهور.
‘هذا الرّجل يعرف كيف يختار الهدايا.’
أغلقت فيفيان عينيها بقوّة لكبح ضحكتها و دفنت وجهها في الباقة.
في عيون الضّيوف، بدا ذلك كأنّها تستنشق عبير الزّهور ببراءة.
“ألم تكن الأميرة في إحدى المرّات المرشّحة الأبرز لتكون زوجة وليّ العهد؟”
“الآن، تبدو مناسبة جدًا مع سموّ وليّ العهد…”
توقّفت الأصوات المتمتمة فجأة. تحوّلت الموسيقى الهادئة إلى نغمة رقص مبهجة.
أشار أصلان للفرقة، و أخد باقة فيفيان بسلاسة.
“الجميع ينتظر. بما أنّكِ البطلة، يجب أن ترقصي الرّقصة الأولى.”
“أ، آه، حسنًا؟”
في لمح البصر، اقترب أصلان و أمسك خصر خطيبته بإحكام.
التعليقات لهذا الفصل " 49"