“يجب أن يكون كلّ شيء مثاليًّا. إذا تكرّر مثل هذا الأمر مجدّدًا، ستعرفين العواقب دون أن أقول.”
“سأحفظ ذلك، سيّدي.”
خشية أن تستيقظ فيفيان الغارقة في النّوم بفعل الدّواء، همس أصلان بتحذير خافت ثم عاد إلى غرفة نومه.
وضعهل على السّرير، غطّاها باللّحاف، ثم أطفأ جميع أنوار الغرفة.
عندما غرق المكان في ظلام دامس، تلألأ ضوء القمر الخافت عبر النّافذة الكبيرة.
“كلّما تألّمتِ، أدرك مدى عجزي.”
كلّما التقى بعيني فيفيان الزّرقاوين، اجتاحت آلاف المشاعر قلبه في لحظة.
‘قدمكِ متورّمة بالفعل.’
‘آه!’
‘هل يؤلمكِ؟’
‘لا، إنّه…’
عندما دلّك ساقها، و هي ترتعش كأنّها تشعر بدغدغة، بدت له كطائر صغير هشّ.
كان خدّاها المحمّران محبّبين، وأنفاسها المتقطّعة ثمينة لدرجة أنّه لم يكن يطيق فقدانها.
لم يرد التّخلّي عن لمستها، لكن خوفًا من أن تراه فيفيان مخيفًا، كبح مشاعره المتصاعدة في أعماقه بكلّ قوّته.
‘في هذا الحفل، عمّا سيتم إنتقادي؟ أيّ شائعة سخيفة ستنتشر عني؟ أنا خائفة.’
‘لا أحد. لا يوجد.’
ارتجفت كتفاها الرّقيقتان في حضنه. كان صوتها المهمهم ضعيفًا و مبحوحًا.
غضب من نفسه بشدّة.
رغم خطبتهما، تجاهلها لفترة طويلة.
لو أدرك مشاعره مبكّرًا، لكان أنقذها من الأذى، لكنّه بدلًا من ذلك تجاهل آلامها و حثّها على فسخ الخطبة، مؤذيًا إيّاها.
ألم يسخر من حزنها واصفًا إيّاه بدموع التّماسيح؟
“أنا أكره نفسي لهذا.”
يعلم أنّه لا يستحقّ التّطلّع إليها، لكنّه يتجاهل ذنبه القديم عمدًا.
ابتسامتها اللّطيفة تجعل قلبه يرتجف، وتشتعل رغبته كالنّار.
“ومع ذلك، لا أستطيع التّخلّي عنكِ. لن تتمكّني من الهروب أبدًا.”
بجانب فيفيان النّائمة، مدّ أصلان يده بحذر و مسح خدّها.
شعر بحرارة خفيفة في كفّه، كأنّها تعاني من الحمّى.
فجأة، ارتجفت فيفيان.
“آه، أشعر بالبرد…”
توقّف أصلان لحظة، ثم أمسك يدها تحت اللّحاف. على عكس جبينها، كانت يدها باردة كالجليد.
اجتاحه شعور بالعجز مجدّدًا.
أنزل بصره ببطء.
هل هذا الاندفاع حقًا من أجل فيفيان، أم مجرّد ذريعة لأنانيّته؟
“أشعر بالبرد…”
عضّ شفتيه، ثم رفع اللّحاف و استلقى بجانبها.
مدّ ذراعه تحت عنقها، و تسلّل بأصابعه بين أصابعها البيضاء النّاعمة، متشابكين كأنّهما يد واحدة.
شعرت فيفيان بالدّفء في نومها، فتحرّكت نحو أصلان.
احتضنها بحذر و أغمض عينيه.
كانت ليلة يتراقص فيها ضوء القمر.
* * *
حلّ يوم حفل بلوغ فيفيان سن الرشد.
كان الحفل سيبدأ رسميًا بعد غروب الشّمس، لكن بعض الضّيوف بدأوا بالوصول منذ الظّهيرة.
بينما كان أصلان يستقبل الضّيوف في الطّابق الأوّل، بدأت فيفيان التّأنّق في غرفة نومها بمساعدة الخادمات.
“أخيرًا جاء هذا اليوم! عيد ميلادكِ الثّامن عشر، مبارك يا فيفيان!”
“هذا الحفل سينجح دون شكّ. بطلته ساحرة وجميلة لهذه الدّرجة!”
كانت سيليا و إيريس تثرثران بحماس حولها.
نظرت فيفيان إلى انعكاسها في المرآة.
كانت ترتدي فستانًا أبيض نقيًا. زُيّن القماش بتطريز فضّي وألماس صغير يتلألأ كالمجرّة عند تحرّكها.
تابعت إيريس:
“أتمنّى أن يأتي اللّيل سريعًا. هذا الفستان رائع، لكن ذروة اليوم ستكون الفستان السّحري!”
“قلتِ إنّني سأغيّره بعد غروب الشّمس، أليس كذلك؟ هل وصل الفستان؟”
“سيصل قريبًا. السّيّدة لا تزال تعمل عليه حتّى اللحظة الأخيرة.”
بينما كانت فيفيان تُعدّل زينة شعرها، سُمع طرق على الباب.
“يا إلهي!”
“صاحب السّمو، تبدو رائعًا اليوم.”
دخل أصلان بزيّ فاخر، لكنّه توقّف فور دخوله.
كانت عيناه موجّهتين نحو فيفيان الجالسة أمام المرآة. لم يرمش، متابعًا كلّ حركة صغيرة لها.
غطّت سيليا ابتسامتها بمروحة و همست لإيريس
“من الأفضل أن نتركهما قليلًا.”
“توقيت مثالي، أليس كذلك؟”
نهضتا بحجّة تفقّد قاعة الحفل، و أشارتا سرًا للخادمات بالمغادرة.
بعد خروج الجميع، رفعت فيفيان عينيها من المرآة.
“أصلان، ما الأمر فجأة؟”
لم يكن مهتمًا عادةً بالشكل ، لكن أصلان اليوم كان وسيمًا بشكل لافت.
بدلًا من زيّه الأسود المعتاد، ارتدى ثوبًا مزيّنًا بالذّهب و الجواهر.
قامته الطّويلة، أكتافه العريضة، خصره المرن كالفهد، كلّ ذلك جعله رجلًا يأسر قلب أيّ امرأة، لكنّه كان ينظر إلى فيفيان وحدها بنظرات مفتونة.
“أصلان؟”
“….”
مالت فيفيان برأسها. لم يجب، فبدت زيارته مجرّد تفقّد.
‘حتّى في مثل هذا اليوم، هو جادّ في مراقبتي.’
مع كثرة الضّيوف، كان من الطّبيعي أن يكون متوترًا. لعنة الشّيطان كانت سرًّا عظيمًا يجب ألّا يكتشفه أحد طوال حياته.
“لم أرقص منذ زمن، لا أعرف إن كنتُ سأنجح.”
اختارت فيفيان موضوعًا لتخفيف التّوتّر.
في الواقع، كانت هذه أوّل مرّة ترقص فيها بهذا الجسد.
بما أنّها بطلة الحفل، سيتعيّن عليها الرّقص أمام الجميع، لكن من المؤكّد أنّها ستدوس على قدمي شريكها.
“يجب أن أعتذر لشريكي مسبقًا، وأطلب منه تجاهل أيّ خطأ أرتكبه.”
“أنا بالطّبع…”
“لا أعرف من سيكون شريكي. هل سيوافق ديلان إذا طلبتُ منه؟”
في يوميّات فيفيان، لم يطلب أصلان منها الرّقص و لو مرّة. حتّى عندما مدّت يدها، رفضها دائمًا بحدّة.
منذ لقائهما الأوّل كخطيبين وحتّى آخر مأدبة أعلن فيها فسخ الخطبة.
‘لا يمكن أن يكون أصلان لا يعرف كيفية الرّقص الاجتماعي. لقد كره الرّقص مع فيفيان فقط.’
في الرّواية الأصليّة، كان يرافق البطلة إلى الحفلات و يرقص معها مرّات عديدة.
‘لكن ديلان خادمي، فلن تكون هناك مشكلة.’
لا تعرف كيف كانت فيفيان الأصليّة، لكنّها لا تريد التعرّض للإحراج أمام الجميع.
لذا، من الأفضل اختيار ديلان كشريك آمن من البداية. أليكس خيار جيّد أيضًا، لكنّ ذلك سيترك إيريس بلا شريك.
“سترقصين الرّقصة الأولى مع ديلان؟”
تقلّصت عينا أصلان بشراسة.
“لماذا؟”
“لأنّكَ…”
لن ترقص معي.
لم تستطع قول ذلك صراحةً، فتوقّفت لحظة. فرك أصلان شعره بعنف كأنّه أدرك شيئًا.
“صحيح، لقد جرحتكِ كثيرًا من قبل…”
تمتم بتأنيب ضمير، لكن فيفيان لم تسمع جيّدًا.
‘لماذا يتصرّف هكذا فجأة؟’
بينما كانت تتساءل، أغمض أصلان عينيه ببطء، ثم تقدّم نحوها ومدّ يده.
“إذا كنتِ قلقة، ما رأيكِ أن نتدرّب مسبقًا؟”
“هل هناك من يمكن استدعاؤه الآن؟”
“بالطّبع.”
أمسك خصرها النّحيل بيده الكبيرة، و رفعها من مقعدها أمام المرآة بسلاسة.
واجهها أصلان و مدّ يده مجدّدًا.
“هل تمنحينني شرف احتكار جمالكِ، سيّدتي؟”
“أصلان…”
تسرّب صوت الموسيقى من النّافذة المفتوحة. ملأت النّغمات الهادئة التي يعزفها الفرقة صمتهما.
‘صحيح، الحفل ذو طابع سياسي.’
يبدو أنّه سيكون شريكها هذه المرّة رغمًا عنه. يريد التّدرّب مسبقًا لتجنّب الإحراج أمام الجميع.
قبلت فيفيان تصرّفه، و وضعت يدها فوق يده.
“حسنًا.”
جذبها أصلان نحو صدره، فالتصق جسداهما. بدأ يتحرّك ببطء على إيقاع الموسيقى.
“أنتِ رائعة اليوم، فيفيان.”
“شكرًا.”
ربّما بفضل حضنه، بدت حركاتها طبيعيّة كأنّها اعتادت الرّقص، رغم أنّها المرّة الأولى. يبدو أنّ مهارات فيفيان الأصليّة لم تقتصر على السّيف.
لاحظ أصلان مهارتها، فتمتم باندهاش
“كنتُ سأقترح أن تصعدي على قدمي إن احتجتِ…”
“ستتأذّى إن فعلتُ ذلك! كعب حذائي مرتفع جدًا.”
“هذا لا شيء مقارنةً بأذيّتكِ.”
“أذيّة؟ أنا بخير تمامًا.”
صحيح أنّها أصيبت بالحمّى مرّة أو اثنتين بسبب التّجهيز للحفل، لكنها لم تُجرَح.
كان يومًا طال انتظاره، و كانت حالتها جيّدة.
لكن كلّما هزّت رأسها، بدا وجه أصلان أكثر تأنيبًا.
غير مدركة لذلك، نظرت فيفيان عبر النّافذة وهي في حضنه.
“الطّقس رائع حقًا.”
“صحيح.”
“أتمنّى أن ينجح الحفل الذي طال تحضيره. أنا متحمّسة جدًا.”
كلّ شيء كان مثاليًا دون أيّ خطأ، في فترة ظهيرة هادئة.
كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.
التعليقات لهذا الفصل " 48"