بمجرد إشارة من هيسيوس، أُغلِق الباب خلفه بصمت.
“مر وقت طويل، هيسيوس.”
“نعم. كنتُ أود رؤيتكِ أكثر، لكنكِ لا تتركين لي فرصة.”
مرر هيسيوس خصلات شعره الفضي الطويل إلى الخلف، و رفع يد فيفيان بأدب و لمس ظاهر كفها كما يفعل النبلاء.
اليوم، و لسبب ما، عاد إلى هيئة شاب في العشرينات.
حتى عندما كان يتظاهر بأنه طفل، كان يُعتبر فتىً جميلاً، أما الآن فبدا جذابًا و وسيماً لدرجة أن أي شخص يمر به في الطريق كان ليلتفت إليه.
“لسنا على علاقة وثيقة تسمح لنا بأن نلتقي كثيرًا، أليس كذلك؟”
“ولمَ لا؟ بفضلكِ، وضع نقابة السحرة المالي في أوج ازدهاره.”
كما هو متوقع، لا شيء يُدرّ أرباحًا كالسلع الفاخرة.
لقاؤه القصير في الورشة، حيث أضفى سحرًا عالي المستوى على القماش، جلب له أجراً يفوق ذاك الذي يحصل عليه عند مقاتلة الوحوش مع فرق الإبادة.
خصوصًا أن فيفيان اقترحت أن تزول قوة السحر بعد فترة معينة، ما يعني أن الأرباح ستستمر مستقبلًا.
“الجميع ممتنون لكِ كثيرًا. سيكون من اللطيف أن تزوري النقابة في وقتٍ ما.”
“هل ستقدّمون لي شيئًا؟”
“وهل سيكون مجرد ضيافة فقط؟”
“إذن، هل أنتَ أيضًا ممتن لي؟”
“بالطبع.”
عندما ابتسم هيسيوس بعينيه، سُحرَت فيفيان للحظة قصيرة.
بدأت تدرك لمَ يتجوّل أحيانًا بهيئة طفل.
سواء أكان بطبيعته مغريًا، أم أن جماله هو ما يجعل الأمر يبدو هكذا، إلا أن ابتسامته الآسرة كانت تشدّ النظر رغماً عنها.
حتى هي، التي تعرف شخصيته الملتوية، لم تستطع تجنب ذلك، فما بالك بالآخرين؟ لو ظهر بشكله الحقيقي دائمًا، لما تركه الناس و شأنه.
‘لا، ما الذي أفكر فيه الآن؟’
إذا استغرقت وقتًا أطول، سيشعر ديلان بالريبة.
عادت فيفيان من أفكارها إلى الواقع، و وضعت كيس الدواء على الطاولة.
“ما هذا؟”
“إن كنتَ ممتنًا حقًا، فحقق لي طلبًا واحدًا فقط.”
“سمعت أن طبيب مستشفى مينيرفا أصبح حديث العاصمة مؤخرًا، بفضل مهاراته المذهلة. ماذا تريدين مني أن أفعل؟”
“حتى الطبيب الخاص بالعائلة لم يتمكن من تحديد مكونات هذا الدواء. سمعت كثيرًا عن فعاليته المذهلة، لكن الاستمرار في تناوله دون معرفة ما هو يثير قلقي.”
“هل هذا دواء وُصف لكِ؟”
“نعم.”
فتح هيسيوس الورقة.
و عندما رأى مسحوقًا ورديًّا مجففًا، ضيّق عينيه كما لو أنه يراه لأول مرة.
“لونه غريب. لكن لا أعتقد أن تحليله سيكون صعبًا. لدينا في النقابة سحرة من قارات أخرى أيضًا.”
“هل سيتولّى هؤلاء هذه المهمة؟”
“من يدري؟ طبعًا، بما أن الأمر يتعلق بكِ، سيظهر الكثير من المتطوعين، لكن بما أن الطلب منكِ شخصيًا، أفكّر في توليه بنفسي.”
“من أجل تحليل دواء فقط، ستتولى الأمر بنفسك؟”
تساءلت في نفسها ما إن كان الأمر يستحق كل هذا، لكنها شعرت بالاطمئنان لأن هيسيوس سيتولاه بنفسه.
أسندت ذقنها إلى يدها، وقالت بارتياح:
“حسنًا. أخبرني بالسعر الذي تريده.”
“لن آخذ شيئًا.”
“عفوا؟”
“لا الآن، و لا مستقبلًا. إن حصلتُ على أي مال منكِ، فإن رفاقي في النقابة سيقتلونني. و أيضًا…”
بدت عليه رغبة في قول شيء ، لكنه سكت برهة و غيّر الموضوع.
“لقد أثار اهتمامي أيضًا. أن يكون هناك دواء قادر على جعل شخص يُحتضر يستعيد حيويته خلال أيام… أردت أن أعرف ما نوع الدواء المجنون الذي يمتلك هذه القدرة.”
“العالم واسع. من الممكن أن يوجد دواء كهذا هنا و هناك.”
“ربما. لكني في الحقيقة أرغب في أن تتوقفي عن تناوله مؤقتًا ، بما أن مرضكِ قد توقف التطور بفضل العلامة السحرية.”
يبدو أنه كان يشكّ في هذا الدواء منذ البداية.
“كم من هذا الدواء تناولتِ؟”
“همم…”
ترددت فيفيان في الرد.
السبب الحقيقي الذي جعلها تسلم الدواء لهيسيوس بسيط. كانت تدرك أن هذا الدواء مريب، و أرادت أن يُسرّب المعلومة إلى النبلاء الذين على اتصال به.
بما أن عددًا لا بأس به من النبلاء قد خضع لعلاج خوان، فإن هذه المعلومة ستكون ذات قيمة كبيرة.
‘هذه معلومة قد تزعزع مكانة يوهانس نفسه. لا أعتقد أن هيسيوس يجهل هذا، فلمَ يسألني أولًا مثل هذا السؤال…’
بينما كانت تحدّق بعينيها في حيرة و تستعد لإجابة عشوائية، تنهد هيسيوس بعمق و كأنه فهم دون أن يحتاج لسماع شيء.
بفضل سوء فهمه، اكتفت فيفيان برفع كتفيها ببرود.
“لا تقلق . فالطبيب الذي وصفه لي هو طبيب البلاط الذي أوصى به ولي العهد ، ماذا قد يحدث؟”
“البشر أحيانًا يرتكبون حماقات لا تُصدق. تمامًا مثلما كانوا يتناولون الزئبق كدواء لمجرد أنه كان جميلاً.”
مرر هيسيوس أصابعه فوق المسحوق الوردي.
“سأتواصل معكِ في أقرب وقت ممكن.”
* * *
بعد مغادرة فيفيان، حدّق هيسيوس في المرآة الكبيرة المقابلة له. في انعكاسها، ظهر شكله مرتديًا بذلة رسمية.
بدا و كأنها لا تناسبه.
بل في الحقيقة، لم تكن تناسبه فعلًا.
“كما توقعت، لم تخدعني عيناي. كم يبدو رجل مثلكَ وسيمًا عندما يرتدي ملابس أنيقة. فلماذا كنتَ تختبئ تحت تلك القلنسوة القاتمة طوال الوقت؟”
“يؤسفني يا سيدتي. لقد أتيت لمقابلة الأميرة، لا لكي أكون شماعة ملابس لكِ.”
“هوهو.”
فتحت السيدة مروحتها و ضحكت كطفل يلهو بلعبة شقية. كانت تعرف هيسيوس كأحد السحرة الكبار في النقابة، لا كساحر عظيم.
بالطبع، حتى لو عرفت الحقيقة، لم يكن ليغيّر ذلك من سلوكها.
“الأشياء الجميلة تمنح شعورًا جيدًا بمجرد النظر إليها. لا أسمح بوجود شيء كئيب و مظلم في صالوني.”
“إذًا تريدين مني أن أكون مجرد منظر؟”
“أوه، صوت العربة! هل وصلت الأميرة؟”
توقفت السيدة فجأة عن تعديل ملابس هيسيوس و غادرت غرفة تبديل الملابس. سُمع صوت حركات منظمة من الطابق الأول استعدادًا لاستقبال ضيفة من كبار الشخصيات.
بقي هيسيوس وحده، يحدق مرة أخرى في المرآة.
“هاه، الجمال؟ ما فائدته.”
المعرفة هي القيمة الأبدية الحقيقية.
لكن للوصول إلى جوهرها، كان لا بد من وجود المال والسلطة. لذلك، كان يدير النقابة و يستمتع ببعض التسلية على الهامش.
تنهد بخفة، و كاد يخلع سترته الضيقة، لكنه توقف.
فجأة، خطرت له مزحة ممتعة.
إغواء فيفيان إليونورا، التي أصبحت مؤخرًا شيئًا يثير اهتمامه رغمًا عنه.
كانت تلك المرأة ، التي لم تشعر بالخوف حتى حين أخبرها أن قلبها مرهون بسحر أسود.
أراد أن يرى كيف ستهتز لأول مرة بعد كل تلك الثقة الزائدة.
“مرّ وقت طويل، أميرة.”
كان هيسيوس يجلس على حافة النافذة التي تهب منها الرياح عندما رحّب بها. كانت خصلات شعره الفضي الطويلة تتطاير بخفة في الرياح.
تلاقت أعينهما، فتوقفت هي، كما لو أنها فوجئت.
ابتسم هيسيوس بعينين واثقتين، وتصرف بأدب و كأنه نبيل، في سلوك لا يشبهه.
“حسنًا. أخبرني بالسعر الذي تريده.”
لكن توقعاته تحطّمت تمامًا.
الأميرة لم تُبدِ أي من ردود الأفعال التي توقعها ، بل دخلت مباشرة في موضوع الطلب.
و بعد أن أنهت غرضها، غادرت دون أي تردد.
عاد هيسيوس إلى الواقع.
كان يسمع صوتها من القاعة و هي تختار فستانًا مع مرافقيها. ثم تبع ذلك ضحك صاخب، مما جعله يشعر بانزعاج شديد.
“هاه، ما الممتع في اختيار بعض قطع القماش التافهة…”
فتر حماسه الذي كان في ذروته.
أخذ الظرف الذي كان على الطاولة ونهض من مكانه.
لمع ضوء قصير، ثم اختفى، ولم يتبقَّ في مكانه سوى أثر السحر الذي كان يتطاير كالشظايا التائهة.
* * *
في نفس اللحظة، وصلت رسالة من فيفيان إلى قصر الماركيز باستيان.
نظرت سيليا باستيان إلى الظرف الذي قُدم لها بعينين غير مصدّقتين.
“الأميرة أرسلت إلي رسالة؟”
“نعم، سيدتي! افتحيها بسرعة!”
“مهلًا، أنا متوترة جدًا. ماذا لو كان فيه كلام سيء؟”
“مستحيل! لا بد أنها دعوة لشاي بعد ما حدث آخر مرة!”
تلألأت أعين الخادمات و هنّ ينظرن بين السيدة والرسالة.
كان الزوجان في قصر الماركيز باستيان سيّدين صالحين بالنسبة لهن.
الماركيز كان صارمًا و يقدّر المبادئ، لكنه كان يعامل الخدم بعدل. أما زوجته، فعلى العكس، كانت لطيفة و متسامحة و تعرف كيف تتجاوز عن أخطاء الآخرين.
كان الخدم يشعرون بالشفقة على سيدتهم التي كان يتم استغلالها باستمرار من قبل الآخرين.
“رغم الشائعات التي تتحدث بالسوء عن الأميرة، فأنا ممتنة لها. لا تتصورين كم شعرت بالراحة عندما أرغمت تلك النساء الوقحات على الركوع.”
أومأت سيليا برأسها خجولة و كأنها توافق، لكنها سرعان ما بدت حزينة.
“لكن ما زلت أشعر بالذنب لأني لم أتمكن من شكرها. حتى في المستشفى، لم ألتقِ بها…”
“لكن زوجكِ أوصل لها دواء السعال، و قال إنها قبلته بامتنان.”
“كان سيكون أفضل لو سلمته لها بنفسي.”
“سيدتي، التفكير وحده لا يُثمر.”
التقطت كبيرة الخادمات إحساسها الداخلي و اقترحت عليها بلطف أن تفتح الرسالة.
في الحقيقة ، لم تكن شخصية سيليا هي السبب الوحيد لترددها.
لقد أصبحت مهتمة بفيفيان.
لذا ، حين تلقت رسالة من القصر الكبير، كان من الطبيعي أن تشعر بأن رأسها يدور.
“صحيح، التفكير وحده لن يعطي إجابات.”
أومأت برأسها بتصميم و بدأت تفتح الظرف بحذر.
أما الخادمات، اللواتي كنّ واثقات من محتواها، فقد بدأن يتوترن و يحدقن بها بقلق عندما لم تتفوه بكلمة طوال قراءة الرسالة.
“ما الذي كُتب فيها؟”
“….”
“سيدتي، أرجوكِ لا تحزني…”
و قبل أن تُكمل الخادمات كلماتهن ظنًا أن الرسالة سيئة، أمسكت سيليا فمها بيديها كما لو أنها فازت بلقاء مع نجمة مشهورة.
التعليقات لهذا الفصل " 45"