رفعت فيفيان رأسها فجأة عندما شعرت بوجود شخصٍ ما.
كان أصلان يقف خلفها، و وجهه يعكس عدم الرضا. نظرت حولها بسرعة، لكنّ الخادمات اختفين بالفعل.
‘ها قد أتى ما كنتُ أخشاه.’
لم يكن أصلان من النوع الذي يُظهر مشاعره بسهولة، إلّا عندما يريد شريحة لحم. لكنّه الآن كان ينظر إليها بعبوسٍ واضح.
كان الوضع خطيرًا بالفعل.
كما خطّطت مسبقًا، أخفضت رأسها وتجنّبت النظر إليه. لكنّ أصلان تحرّك ليتبع حركتها.
“فيفيان.”
‘اذهب بعيدًا ، ابتعد!’
بالطبع، أخفت أفكارها الداخليّة تمامًا و أظهرت وجهًا كئيبًا، محاولةً إظهار ندمها على الفوضى التي تسبّبت بها في قصر الماركيز.
“ما هذه الأفكار الغريبة التي…”
“كح كح!”
كما يُقال، الشخص الذي يسبق يفوز. إذا طال الحديث، ستكون في موقفٍ سيّء، لذا قرّرت إسكاته تمامًا.
كلّما حاول أصلان فتح فمه، كانت فيفيان تسعل بكلّ جهدها.
هل أذهلته مهاراتها التمثيليّة؟ لحسن الحظ، تخلّى أصلان عن الكلام و وضع يده على كتفها.
“كنتُ مشغولاً للغاية مؤخرًا، فلم أتمكّن من الوفاء بوعودي.”
دلّكت أصابعه الخشنة كتفها الرقيق بحذر.
تساءلت فيفيان عما إذا كان ينبغي عليها التحدّث الآن أم الاستمرار في الصمت.
“….”
في تلك اللحظة، التقت عيناها بعيني أصلان عبر المرآة.
كان تعبيره في المرآة أكثر ليونةً ممّا كان عليه سابقًا. بل إنّه أطلقَ تنهيدةً خفيفة، كما لو كان مطمئنًا عندما لم تُحوّل نظرها بعيدًا.
بالطبع، لم يكن ذلك اطمئنانًا حقيقيًّا. ربّما كان استسلامًا.
لقد بدت بائسةً للغاية و تصرّفت بضعف، ممّا جعل رغبته في توبيخها تتلاشى.
‘ههه، هذه أنا في النهاية! كلّ شيء يسير حسب الخطّة!’
بهذا المستوى، شعرت أنّها يمكن أن تصبح خبيرةً في كيفية البقاء على قيد الحياة.
بينما كان أصلان ينظر إليها عبر المرآة، انحنى ببطء. اقترب حتّى شعرت بأنفاسه الدافئة على قفاها.
“أليس اليوم هو موعد زيارتكِ للمستشفى؟”
“نعم، صحيح.”
“بما أنّه يومٌ خاص، ماذا لو ذهبنا معًا؟ أريد أيضًا مناقشة بعض الأمور مع الطبيب.”
ألغت فيفيان خطّتها لتصبح خبيرة بقاء على الفور.
كان من الواضح أنّ أصلان قلقٌ من أن تتسبّب في مشكلةٍ أخرى. و إلّا، لمَ سيترك أعماله الإداريّة و يصرّ على مرافقتها إلى المستشفى؟
‘آه، يا لِحياتي!’
“بالطبع. إذا جاء أصلان معي سأشعر بالأمان.”
اليوم أيضًا، كان عقلها و فمها يعملان بشكلٍ منفصل بكلّ جهدهما.
* * *
كانت زيارة الطبيب اليوم غريبةً مهما فكّرت في الأمر. نظرت فيفيان بعينين متعجّبتين إلى الطبيب خوان، الذي كان يرتجف كما لو كان مصابًا بالرعاش.
“سيّدتي ، يمكنكِ الآن ارتداء ردائكِ.”
“لماذا ترتجف يديكَ هكذا؟ خوان، هل شربت؟”
“كيف لي أن أفعل ذلك؟”
“إمّا أن ترتجف يديكَ أو صوتكَ، اختر أحدهما. إنّه مربكٌ لمن يشاهدك.”
نصحت فيفيان خوان عن وضعيّته غير الطبيعيّة، ثمّ التفتت إلى الخلف.
كان أصلان يقف خلفها، و قد التقى بنظرها بسرعة. لقد أصرّ على دخول غرفة الفحص لمشاهدة العمليّة.
“يُقال إنّه طبيبٌ بارع، لكن طريقة فحصه غريبةٌ بالفعل.”
“أليس كذلك…؟”
كان خوان هو الذي يرتجف، لكنّها هي من شعرت بالحرج لسببٍ ما.
ابتسمت فيفيان بتصنّع، محاولةً التستّر على اهتزاز خوان بمهارته الطبيّة.
في البداية، ظنّت أنّ أصلان سيسأل خوان عن حالتها بالتفصيل. لكنّه ظلّ واقفًا بهدوء خلفها طوال الفحص.
عندما خلعت رداءها لاستخدام السمّاعة، سمعت صوتًا مزعجًا، لكنّهم قالوا إنّه ناتجٌ عن سقوط رفٍّ لم يتحمّل الوزن…
“إذا بقيتِ هكذا، ستصابين بالبرد، فيفيان.”
عادَت من أفكارها القصيرة إلى الواقع.
شعرت بثقلٍ ناعمٍ لكنّه قويّ على كتفيها. كان الرداء، الذي خلعته للفحص، قد أُعيد ارتداؤه بطريقةٍ ما.
“سيّدتي ، دعينا نساعدكِ.”
“لا، سأقوم بذلك بنفسي.”
كان هناك خدمٌ مخصّصون لمرافقة المرضى المميّزين، لكنّ أصلان أمرهم بالانسحاب.
“استدري لأربط الحزام.”
“شكرًا.”
استدارت فيفيان لتواجه أصلان. التفّت ذراعٌ قويّة و سميكة حول خصرها الرقيق.
كان الأمير الثاني للإمبراطوريّة، حاكم بلاكفورد في الشمال، و أعظم سيّافٍ في القارّة، يخدم خطيبته بنفسه.
لم يتمكّن خوان و طاقم الطبّ و الخدم من إخفاء دهشتهم من هذا المشهد. لكنّ فيفيان، التي استدارت، لم تلحظ ذلك، و هو ما كان مقصودًا من أصلان.
“بما أنّنا خرجنا معًا لمرّةٍ نادرة، لمَ لا نمرّ بمكانٍ ما بدلاً من العودة مباشرةً؟”
التفّت أصابعه الخشنة حول حزام الرداء الحريريّ. ثمّ جذبها إليه كما لو كان عن طريق الخطأ، محيطًا بها بإحكام.
كأنّه يتباهى بأنّه الوحيد الذي يستطيع فعل هذا لها.
بعد أن ربط حزام الرداء، رفع أصلان خصلات شعرها الأماميّة بحنان.
“انتهيتُ. سأخرج أوّلاً، حسنًا؟”
“هل ستناقش حالتي مع الطبيب؟”
“هذا أحد الأسباب، و هناك بعض الأمور الأخرى…”
تحوّلت عيناه الذهبيّتان، اللزجتان كالعسل، نحو الجهة الخلفيّة.
في الحقيقة، من بداية الفحص إلى نهايته، لم يتمكّن خوان من أخذ نفسٍ واحدٍ بحريّة بسبب الضغط المرعب الذي ينبعث من أصلان.
كلّما اقترب من المريضة، برقت عيناه، و عندما رفع الرداء قليلاً لاستخدام السمّاعة، تقطّب وجهه بشراسة…
ظنّ خوان أنّ رقبته ستنقسم إلى نصفين مثل الرفّ الحديديّ الذي طواه الدوق.
لكن عندما استدارت فيفيان، كان يتظاهر بالوداعة ببراعة.
“حسنًا، تحدّث معه. سأغيّر ملابسي ببطء.”
“لن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً.”
لا!
خلف ظهر فيفيان التي كانت تخرج من غرفة الفحص، تردّدت صرخةٌ صامتة تتوسّل إليها ألّا تذهب.
‘لمَ تشعر أذناي بالحكّة؟’
في هذه الأثناء، لم تكن تعلم شيئًا عن ذلك، فغادرت غرفة الفحص، تاركةً الوحش المُطلق من عقاله وحيدًا.
ثم…
“الأميرة إليونورا.”
“آه.”
أليست الكوارث تأتي دائمًا دون سابق إنذار؟
واجهت فيفيان الماركيز باستيان وجهًا لوجه في الرواق.
* * *
بعد أن غادرت فيفيان غرفة الفحص، أمر أصلان الجميع بالخروج باستثناء خوان.
أمام خطيبته، كانت عيناه الذهبيّتان دافئتين كالعسل المذاب، لكن عندما بقيا بمفردهما، تجمّدتا في لحظةٍ كالصقيع في منتصف الشتاء.
كانتا عينين معدنيّتين خاليتين من أيّ عاطفة، تثير القشعريرة بمجرّد النظر إليهما.
“سمعتُ أنّ سمعتكَ منتشرةٌ في العاصمة. يُقال إنّك تملك مهارةً طبيّةً استثنائيّة.”
“هذا إطراءٌ مبالغٌ فيه…”
“سمعتُ أنّكَ عالجتَ العديد من الأمراض المستعصية. كان مدخل المستشفى مكتظًا بالناس الذين يريدون رؤية وجهكَ.”
“أنا متواضعٌ جدًا لأن يُنظر إلى مهاراتي الطبيّة بعين الرضا.”
نظر أصلان إلى خوان، الذي كان يتلعثم كالأبله، بعينين متعجّبتين.
لكنّه سرعان ما أشاح بنظره. أحيانًا، الأشخاص ذوو الحدس القويّ يخافونه هكذا.
كما لو أنّهم يستشعرون هويّته الحقيقيّة تحت قناع الإنسانيّة المقنعة.
‘ربّما كان من الأفضل أن يسبقني يوهانس.’
لو تحرّك أوّلاً ، لكان جلب فيفيان إلى العاصمة صعبًا منذ البداية.
“كيف ترى حالة فيفيان؟”
“ماذا، سيدي؟”
“كلّ الأطبّاء المشهورين هزّوا رؤوسهم. و قالوا إنّه لم يتبقَّ لها سوى أقلّ من عام.”
طق، طق.
تحرّك أصلان و جلس ببطء أمام خوان.
كان التوتر يعمّ الجوّ، كما لو أنّ وترًا مشدودًا قد ينقطع في أيّ لحظة.
“يمكنكَ علاجها، أليس كذلك؟”
“سأبذل قصارى جهدي.”
“هذا ليس الجواب الذي أريد سماعه.”
“أعتذر، لكن في الطبّ لا يوجد شيءٌ مضمون…”
تجمّعت حبات العرق البارد على جبين خوان المتوتّر.
انتظر أصلان جوابًا مرضيًا، لكن عندما لم يظهر أيّ مؤشرٍ لذلك، تابع: “فيفيان تضع آمالاً كبيرة على مهاراتكَ الطبيّة.”
في الجنوب، كانت فيفيان، التي أنهكها السّل، قد تخلّت عن رغبتها في العيش.
“يُقال إنّكَ تحقّق أمنيات الأحياء، فهل لا يمكنكَ تحقيق أمنية شخصٍ سيموت قريبًا؟ لم يتبقَّ لي سوى عامٍ على الأكثر!”
“قلتُ لكِ ألّا تتحدّثي و كأنّكِ استسلمتِ بالفعل.”
“حسنًا، قلتَ إنّكَ ستنقذني، لكن كيف؟ كيف ستنقذني؟ هل أنتَ طبيب؟ آه، لمَ لا نراهن إذًا على ما إذا كنتُ سأموت أو أعيش بعد عام!”
كانت تقول إنّها ستموت على أيّ حال لذا أرادت أن أتركها و شأنها.
لكن قبل أيّام، قالت وهي تبتسم:
“أتمنّى أن تكون الشائعات عن فعاليّته ضدّ السّل صحيحة. إذا كان الأمر كذلك، سأتمكّن من الاحتفال ببلوغ سنّ الرشد بصحة و أناقة، أليس كذلك؟”
كانت جميلةً بشكلٍ مبهر لدرجة أنّه لم يستطع إبعاد عينيه عنها.
لقد بذل جهدًا مضنيًا ليغيّر رأيها، ليجعلها ترغب في العيش. لم يكن بإمكانه أن يفقد تلك الابتسامة التي حصل عليها بصعوبة.
“إنّه شرفٌ لعائلتي أن تضع الأميرة آمالاً عليّ…”
“….”
“سأعالجها مهما كان الثمن.”
في وسط الصمت الثقيل، عادت عينا أصلان، اللتين كانتا كالجليد، إلى الدفء أخيرًا بعد سماع الجواب المنشود.
ربت أصلان على كتف خوان ببطء عدّة مرّات.
“إذا نجحتَ في علاج فيفيان، سأمنحكَ مكافأةً تليق بذلك.”
بالطبع، في الحالة المعاكسة، سيواجه عواقب تفوق خياله، لكنّ أصلان لم يرَ داعيًا لذكر ذلك.
“إذًا، أتطلّع إلى ذلك.”
“غادر بحذر، سموّك.”
بعد تحقيق هدفه، لم يمكث طويلاً و غادر على الفور.
بينما كان خوان يشاهد أصلان يغادر، انزلق من كرسيّه و جلس على الأرض بلا حولٍ ولا قوّة.
“اللعنة، هل كانت شريرة إليونورا بهذه الأهمية؟”
التعليقات لهذا الفصل " 42"