في ليلة هادئة لا يُسمع فيها سوى صراصير الحقول، وقف أصلان من على مكتبه و هو يدلك عنقه المتصلب.
حتى في حركاته البسيطة، كان كل من يراه يشعر بهيبة وحش يتهيأ للصيد.
“يا إلهي، كم هو مثابر.”
“ألا ترى أنه من الأفضل أن تذهب إلى الشمال، يا صاحب السمو؟”
اقترح مساعده الذي كان يرافقه حتى ساعة متأخرة من الليل بحذر.
بدأت المشكلة عندما رفع لورد إقليم ألبارو القريب من بلاكفورد شكوى ضد أصلان.
كان السكان التابعون للإقليم قد فروا جماعيًا لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمّل الأشغال القسرية، و لسوء الحظ كانت وجهتهم بلاكفورد.
ادّعى لورد ألبارو أن هذا حدث نتيجة تلاعب متعمد من قبل أصلان، و أنه انتهاك واضح لممتلكاته الخاصة.
“لا يمكنني ترك العاصمة الآن. و لا وقت لدي لأهتم بتفاهاته.”
كان لأصلان تأثير كبير على بلاكفورد و المناطق المحيطة بها، حتى أُطلق عليه لقب ملك الشمال.
أن يتجرأ لورد بسيط على رفع شكوى ضده، لا بد أن وراءه داعمًا قويًا قادرًا على تحمل العواقب.
ويبدو أن مساعده كان يفكر في نفس الشيء، إذ تابع الحديث.
“يبدو أن سمو ولي العهد قد أعدّ كل شيء مسبقًا.”
“بالطبع. إن ذهبتُ إلى هناك، فسيختلقون ألف عذر ليبقوني في بلاكفورد.”
كان يشعر بأن يوهانس لا يتصرف بعفوية في معاملته لفيفيان.
فالرجل بطبيعته لا يهدأ إلا إذا امتلك كل ما يرغب به، و إذا لم يستطع امتلاك شيء ، فلن يتردد في تحطيمه.
‘كان سيكون من الجيد لو استطعت اصطحاب فيفيان معي إلى الشمال ، لكن بحالتها الآن…’
لم يكن يستطيع تركها وحدها هنا.
خاصةً و أن الشهر القادم هو حفل بلوغ فيفيان. و هو يوم يحدث مرة واحدة في العمر، و هذه المرة، أراد أن يكون بجانبها بكل فخر كخطيبها.
لقد تركها لسنوات طويلة وحدها في ذلك القصر الجحيمي.
“هذا يكفي لليوم.”
“نعم، سموك.”
بعد أن صرف مساعده، جلس أصلان مجددًا على الكرسي. لكنه لم يستطع التركيز على الوثائق مهما حاول.
عطش حارق. رغبة تتصاعد بجنون.
بمجرد أن تذكر وجهها النائم بسلام ، انهارت مقاومته بالكامل.
لم يكن عليه أن يفعل شيئًا.
فقط ، كان يريد أن يراها.
“منذ مهرجان الصيد، لم تظهر اللعنة مرة أخرى. إن كان الأمر كذلك، فربما قريبًا…”
تلك الأوقات المرعبة التي قد تأتي في أي لحظة.
حين يفقد جسده و وعيه معًا، و يُلقى به في قاع جحيم لا قرار له، وحدها هي قد تكون الخلاص الوحيد لتحمل ذلك.
لم يتذكر كيف خرج من المكتب و وصل إلى غرفة نومها.
حين أدرك نفسه، كان واقفًا أمام الستار الذي يفصل بين غرفتي النوم.
من الفجوة الضيقة، انبعث صوت تنفسها الناعم و العذب. أمسك أصلان بالستار و سحبه و دخل.
“……”
عندما اخد نفسًا ، تسرب عبير الورود الفاتن إلى أعماق رئتيه.
لم يكن عبيرًا مختلطًا بأي شوائب ، بل كان يخص سيدة هذه الغرفة فقط.
بمجرد أن استرخت أعصابه ، بدأت عضلاته المتوترة تتراخى كذلك.
تحرك بخطوات صامتة.
على طرف السرير الكبير بما يكفي ليتدحرج عليه عدة بالغين ، كان هناك ظل صغير يرتفع و يهبط ببطء.
“هممم…”
لكن رموشها المنعكسة تحت ضوء القمر كانت مبللة بحزن. رأى ذلك و جلس على حافة السرير دون أن يُصدر صوتًا.
ثم مدّ يده و مسح برفق عينيها.
‘لماذا؟’
تذكر أصلان ما أبلغته به كبيرة الخدم إيما.
قالت إن فيفيان فقدت طاقتها منذ عودتها من قصر الماركيز باسيتيان.
لم تكن تخرج من السرير. كانت تجلس شاردة و هي تردّد عبارات مثل: “كنتُ مجنونة”، أو “لماذا لم أتحمّـل؟” بكلمات غامضة.
‘ربما بسبب الشائعات المنتشرة في العاصمة مؤخرًا.’
أشفق على فيفيان التي كانت تتعرض للإشاعات دائمًا.
هو نفسه تعرض لمواقف مشابهة لكنه لم يكترث. أما فيفيان فكانت مختلفة، كانت ضعيفة و مريضة أصلًا.
‘إن استمرت على هذا الحال، و إن فقدت شهيتها أكثر، ستكون كارثة.’
بالأصل كانت تأكل قليلًا، لكن إن ساءت حالتها، فلن تستطيع حتى إنهاء الكمية الصغيرة التي تتناولها.
أطلق أصلان تنهيدة خافتة، و مدّ يده يمسح جبهتها برقة.
بمجرد أن وصلت إليه شائعات العاصمة ، بدأ فورًا بالتحقيق عن مصدرها.
لكن من نشر الشائعات السيئة عن فيفيان اختفى كأنّه لم يكن موجودًا من الأساس.
لم يكن من الصعب على أصلان أن يخمّن أن يوهانس قد سبقـه و تحرك لإخفاء الآثار.
ولكن…
“……لا يمكنني أن أسمح بخسارتها.”
فيفيان الآن نائمة على سرير دوقة القصر، داخل منزله.
هي خطيبته الوحيدة ، و خطيبها يجب أن يكون هو فقط.
“فالوحش، لا يترك فريسته أبدًا.”
خطيبته الهشّـة و المحبوبة، التي سقطت في براثن وحش ليس بإنسان.
أسند أصلان ذراعه عند رأسها و أخفض جسده ببطء. لامست شفتاه اليابستان جبينها الصغير المستدير بصمت.
‘سأتوقف عند هذا الحد الليلة، لكن يومًا ما…’
* * *
كان اليوم هو الموعد الثاني لزيارة المستشفى.
استيقظت فيفيان أبكر قليلًا من المعتاد. و بعد الانتهاء من حمامها، قامت الخادمات بخدمتها بكل تفانٍ.
كان لا يزال نجم خماسي فضي يلمع على صدرها في المرآة.
‘لكن، لم يلاحظ أحد ذلك حتى الآن.’
ألقت فيفيان نظرة جانبية.
لقد مضى وقت على تقديمها مكملات غذائية للعيون لخادماتها. و كان الوقت قد حان لاختبار فاعليتها.
في تلك اللحظة، كانت إيما تجفف الماء من أمام جسدها.
“إيما، ألم تلاحظي شيئًا مختلفًا فيّ؟”
“مستحيل. ما زالت سيدتي جميلة كالسابق.”
تساءلت فيفيان كيف فسّرت إيما سؤالها.
أجابت إيما بصرامة أنه لم يتغير شيء، بل و أضافت بثقة أن جمال فيفيان لا يستطيع أحد في الإمبراطورية مجاراته ، حتى لو بدت عليها علامات المرض.
‘يدكِ الآن على صدري، ألا ترين شيئًا غريبًا؟’
قررت فيفيان أن تعطي تلميحًا لرئيسة الخدم متوسطة العمر التي بدأت تعاني من ضعف البصر.
“أقصد، شيء فيزيائي… تغيّر في جسدي؟”
“آه.”
عندها فقط، توقفت إيما و كأنها أدركت شيئًا. انتظرت فيفيان الجواب في ترقب.
“الآن تذكرت. السيد قلق جدًا لأنكِ أصبحتِ نحيلة. حتى البارحة، أوصى عدّة مرات بالاهتمام بطعامك.”
‘هذا ليس ما كنتُ أقصده!’
حاولت اختبار خادمة أخرى بطريقة غير مباشرة، لكن ردّها لم يختلف كثيرًا عن رد إيما.
و هكذا، تأكدت فيفيان من أمرٍ واحد.
‘لا أحد غيري يراه فعلاً.’
حدقت فيفيان في النجمة الخماسية في المرآة.
حتى الساحر العظيم هيسيوس لم يشعر بشيء من شظايا الطاقة السحرية إلا عندما وضعتها أمام عينيه مباشرة، لذا ربما هي الوحيدة القادرة على رؤيتها.
كانت تشعر بالقلق من أن يكتشف أصلان أمر الوسم، لكنها الآن شعرت بالارتياح بعض الشيء.
“سيدتي، السيد يقول انه سيتناول الطعام في غرفة النوم اليوم.”
قالت الخادمة التي كانت تجفف شعرها المبلل.
أمالت فيفيان رأسها باستغراب.
“أصلان سيأتي؟ كان يبدو مشغولًا مؤخرًا، ألم يذهب إلى القصر اليوم؟”
“لا، إنه في القصر هنا.”
“غريب…”
في الأيام الأخيرة ، بالكاد كانت تراه ، و قد أعجبها هذا الوضع قليلًا.
تنهدت بأسف ، ثم توقفت فجأة عند فكرة خطرت ببالها.
‘ لا يمكن أن يكون قادمًا ليوبخني على ما حدث في قصر الماركيز؟’
كان هناك شائعة في العاصمة أن فيفيان إليونورا، الشريرة التاريخية، أجبرت السيدات على الركوع في حفلة الشاي.
كان يجب أن تكبح نفسها بأي طريقة ، لكن عندما التقت عيناها بنظراتهن السّاخرة ، عاد لها ذلك الشعور المألوف المزعج.
حتى هي لم تفهم مشاعرها في تلك اللحظة.
تفاجأت سيليا باسيتيان و اتسعت عيناها ، بينما تظاهرت فيفيان بأنها متعبة و غادرت بسرعة.
‘تبًا، يجب أن أكون هادئة تمامًا اليوم! أنا صخرة. لا أملك أذنين و لا فمًا!’
ستُبقي رأسها منخفضًا مهما قال أصلان، و تكتفي بقول نعم نعم.
فيما كانت فيفيان ، مواطنة بسيطة ، تفكر في كيفية النجاة ، انفتح باب الغرفة بصمت. انحنت الخادمة التي كانت عند المدخل فورًا.
“أين فيفيان؟”
“إنها تتجهز بعد الحمام.”
أوقف أصلان الخادمة التي كانت ستهبّ لإخبار فيفيان، و وجّـه بصره نحو المرآة.
كانت فيفيان، التي أنهت للتو حمامها، جميلة لدرجة تجعله يفقد صوابه.
رموشها ترفّ بخفوت ، خدّاها و شفاهها محمرّان، و شعرها البلاتيني المبلل متدلٍ على جانب واحد.
حدق بها مسحورًا، ثم تجهّم وجهه فجأة.
تنهدت فيفيان أمام المرآة، و عيناها غارقتان في الحزن.
استدعى إيما على الفور و سألها.
“هل حدثَ شيء؟”
“نعم، سيدي. في الواقع ، سيدتي تبدو حزينة بعض الشيء.”
و أضافت أن السيدة كثيرًا ما تقف شاردة أمام المرآة بعد الاستحمام، وأنها سألت عدة مرات اليوم إن كان هناك شيء قد تغير فيها.
“نظرًا لأنها فقدت بعض الوزن بسبب السل، أعتقد أنها قلقة بشأن ذلك.”
بينما كان يستمع إلى إجابة إما، لم يرفع أصلان عينيه عن فيفيان.
و في تلك اللحظة، وضعت يدها على خدها و تنهدت تنهيدة صغيرة.
أومأ برأسه مشيرًا أن هذا يكفي، فتراجعت إيما و الخادمات الآخرون بهدوء دون أن يُشعرن بوجودهن.
في تلك الأثناء، لم تلاحظ فيفيان ، التي كانت مستغرقة في التظاهر بأنها حجر ، أن الخدم قد انسحبوا كما تنسحب الأمواج عند الجزر.
‘مهما سألني أصلان ، يجب أن أطلب العفو أولًا. يجب أن أبدو بائسة قدر الإمكان. حتى القاسي القلب سيشعر بالشفقة…’
سأسعل قليلًا و أذرف بعض الدموع.
عند التفكير، ربما يكون من الأفضل أن أهزّ رأسي بصمت بدلًا من التوسل. فقد يتوقف دماغي عن العمل في منتصف الطريق و يصبح الكلام أسوأ.
بينما كانت فيفيان تعيد تأكيد خطتها مرارًا، ألقي بظل كبير على ظهرها.
“بماذا تفكرين …..؟”
التعليقات لهذا الفصل " 41"