“لا تتكلم.”
كانت نظرات أصلان الحادة تحدّق في كبير الخدم.
لكنّ ميزان السلطة في قصر الدوق كان قد مال بوضوح لصالح فيفيان.
السيد العظيم، الذي يبدو كالجبل الشامخ، لم يستطع التفوّه بكلمة أمام خطيبته ضعيفة البنية.
من البداية، لم يكن هناك شكّ في من هو الفائز في هذه الحرب الصامتة.
“يبدو أن السيد قلقٌ بشأن السيدة. ربما يكون قد استجاب لدعوة الماركيزة على مضض ليعتذر عن وقاحة السيد ديلان.”
“ولِمَ تظنّ هذا؟”
“فور تلقيه تقريرًا عن الفوضى الصغيرة في المستشفى، و عن رسالة الاعتذار التي أرسلتها السيدة إلى قصر الماركيز، أصدر السيد عقوبة بحق السيد ديلان.”
أنهى كبير الخدم كلامه بسلاسة و كأنه كان مستعدًا لهذا من قبل.
من ناحية أخرى، بدت فيفيان في حالة ذهول للحظة من الإجابة التي لم تكن تتوقعها.
كانت تعتقد أن أصلان سيكون مهتمًا بنتائج تشخيصها في المستشفى.
لأنه إذا طال عمرها، فسيكون عليه تغيير موقفه السياسي.
“الآن بعد التفكير في الأمر، لا أرى ديلان.”
“إنه معلّق رأسًا على عقب في ساحة التدريب… أقصد، إنه يتلقّى دروسًا في الآداب.”
أدار كبير الخدم العجوز رأسه متجاهلًا النظرات المخيفة لأصلان وتحدث ببرود.
كان كبير الخدم هذا واحدًا من القلة الذين نالوا اعتراف أصلان ، المعروف بصعوبة إرضائه . لذا، فإن زلة لسانه لم تكن خطأً بل طلبًا ضمنيًا لإنقاذ ديلان.
أومأت فيفيان برأسها خافتًا وأشارت له بالانصراف.
“تسك، لم يعد يعرف سيده.”
“لماذا تعاقب الخدم على أشياء كهذه؟ صحيح أن ديلان أخطأ، لكن بسببه حصلتُ على علاقة جيدة، أليس هذا أمرًا جيدًا بالنهاية؟”
“لكن الخطأ يظل خطئًا. جعلَكِ تنحنين أمام الآخرين، لذا سأستبدله بفارس آخر من أصل نبيل ليحرسكِ.”
“لا تفعل ذلك.”
تمكّنتُ بصعوبة من تحويل ديلان إلى ممسحة أقدام من اجلي، فإلى أين سترسله الآن؟
“هل تعلم كم شعرتُ بالفخر عندما تعرّفت عليه الماركيزة ؟ كانت تحسدني كثيرًا و تقول انكَ توليني عناية فائقة.”
كانت فيفيان تملك موهبة في التلاعب بالكلام.
وحين قدّمت تبريرًا مقنعًا، خفّت صرامة ملامح أصلان قليلًا.
“…فهمت.”
“إذاً، سوف تسامح ديلان، أليس كذلك؟”
حين ابتسمت فيفيان بعذوبة، ذابت نظرات أصلان الذهبية القاسية كالعسل.
“إن كنتِ ترغبين بذلك.”
وبينما كانوا يراقبون هذا المشهد، أعاد الخدم في القصر تذكير أنفسهم بمن هو صاحب السلطة الحقيقية في قصر الدوق.
داخل العربة المتجهة إلى قصر الماركيز، راجعت فيفيان ببطء المعلومات التي أعطاها لها رئيس الخدم.
سيليا باستيان.
العمر 27 عامًا. متزوجة من الماركيز منذ 10 سنوات، و علاقتهما ممتازة.
لكن بسبب ضعفها الجسدي الفطري، لم تُرزق بأطفال حتى الآن، و هي تعاني من عقدة نفسية حيال ذلك، لذا من الأفضل تجنب الحديث عن الأطفال.
“همم، لا يبدو الأمر صعبًا.”
كانت الماركيزة من نوع مختلف تمامًا عن أولئك الذين كانت تتعامل معهم في الماضي. حتى الضيوف المدعوون لم يكن بينهم من تربطهم علاقة بفيفيان.
كان الجوّ مثاليًا لفيفيان، خالٍ من أي ضغط.
‘سأراقب الوضع، ثم أبدّل الدواء و أرحل.’
كانت قد اشترت مسبقًا مكمّلًا غذائيًا للعيون، و غمّسته بلون وردي باهت.
كانت تشعر ببعض الذنب لإعطاء دواء لكبار السن إلى امرأة شابة، لكنها رأت أنه أفضل من دواء الدجّال الملعون.
و بينما كانت غارقة في التفكير، وصلت العربة إلى قصر الماركيز باستيان.
رغم أنها وصلت قبل الموعد، خرجت الماركيزة إلى مدخل القصر لاستقبالها بحفاوة.
“أهلًا بكِ، أميرة. شكرًا لتلبيتكِ دعوتي المفاجئة.”
“أنا من يجب أن يشكركِ على الدعوة. هذه بعض أوراق الشاي من منطقة فالديفا الشرقية، أحضرتها كتعبير بسيط لمرافقة حفلتنا.”
“أوه، يا لها من هدية ثمينة…”
حدّقت الماركيزة بصندوق الهدية بدهشة.
فأوراق الشاي من منطقة فالديفا كانت أغلى من الذهب بالوزن. و لم يكن الحصول عليها متاحًا حتى لمن يملك المال.
رغم أن فيفيان قالت إنها “لمرافقة الشاي”، فإن هذه النوعية من أوراق الشاي لا تُستخدم أبدًا لذلك.
“من حسن الحظ أنكِ أتيتِ مبكرًا. إن استعجلنا قليلًا، يمكننا إعادة تنسيق الحلويات لتتناسب مع الشاي.”
“هل هذا لا يزعجك؟ أخشى أن أكون قد سببت لكِ عناءً.”
“لا تقولي ذلك. كل ما أحتاجه هو نظرة سريعة على المطبخ.”
أجابت السيدة بلطف و هزّت رأسها. ثم نادت كبيرة الخدم و طلبت منها مرافقة فيفيان إلى غرفة الضيوف.
بينما كانت تتبع الخادمة، أخذت فيفيان تراقب بنية القصر.
لحسن الحظ، لم يكن القصر كبيرًا، وكانت غرفة السيدة الرئيسية قريبة من غرفة الاستقبال.
جلست فيفيان على الأريكة، فاقتربت كبيرة الخدم وقالت:
“لقد أمرت السيدة بتوفير أقصى درجات الراحة لكِ. إن احتجتِ لأي شيء، فلا تترددي في طلبه.”
“شكراً لكِ. لا أحتاج شيئًا في الوقت الحالي…”
“سموكِ؟”
“كح، كح!”
غطّت فيفيان فمها بمنديلها و بدأت تبحث في حقيبتها. ارتبكت كبيرة الخدم وهي ترى حركاتها المتوترة.
“هل أنتِ بخير، سمو الأميرة؟”
“لا أجد دواء السعال. كنت أحرص دائمًا على حمله تحسّبًا لهذا النوع من المواقف… كح كح!”
لم يكن أحد في العاصمة يجهل أن فيفيان مصابة بالسل. فقد أحدثت حادثة وصيّتها ضجة كبيرة بين العائلة الملكية و إليونورا.
مجرد رؤيتها تسعل بهذه الحدة كان كافيًا لشرح كل شيء.
“سأذهب الآن إلى غرفة الأدوية و أحضر دواء السعال!”
هربت الخادمة من غرفة الاستقبال و قد شحب وجهها، و حين تُركت فيفيان وحدها، توقفت عن السعال و أنزلت المنديل.
ارتسم على شفتيها خط ابتسامة بارد.
‘هاها، كل شيء يسير حسب الخطة.’
من وصولها المبكر، وتقديمها للشاي، وحتى هروب الخادمة، كان كله مدروسًا بعناية.
بعد أن اعتادت على خدم قصر الدوق الذين لا يسمحون بخرق الإبرة، بدا لها كل شيء في الخارج سهلاً.
أسرعت إلى غرفة نوم الماركيزة. وكما هو الحال مع معظم السيدات النبيلات، كان الدواء في الدرج.
لم تستغرق عملية تبديل الدواء والعودة إلى غرفة الاستقبال أكثر من ثلاث دقائق.
‘أتمنى لكِ صحة جيدة لعينيكِ.’
جلست فيفيان براحة و هي تتمنى أن للماركيزة نظرًا قويًا، وحينها وصل دواء السعال أخيرًا.
لكن من أحضره لم تكن الخادمة… بل الماركيزة نفسها.
“سمعت أن نوبة قد بدأت! هل أنتِ بخير؟”
“كح، كح!”
“اشربي هذا بسرعة. خذي نفسًا عميقًا و اهدئي.”
أذابت الدواء في العصير و ناولته لفيفيان، بينما كانت تمسح ظهرها بلطف. كان جبينها يلمع من العرق، مما يدل على أنها هرعت فورًا.
بدأت فيفيان تسعل بشكل متصنّع و هي تنظر حولها بتوتر.
‘لماذا تفعلين ما يفترض أن تفعله الخادمة؟!’
أثارت العناية الصادقة للماركيزة وخزًا في ضمير فيفيان.
كانت تنوي الانسحاب بحجة نوبة السل، لكن رؤيتها وهي تلهث لاحقًا جعلت ضميرها يزداد وخزًا.
‘اللعنة، أنا ضعيفة أمام الأشخاص الطّيبين!’
راحت الماركيزة تفرك يدي فيفيان الشاحبتين و تعرض مساعدتها، و فيفيان لم تستطع المقاومة.
“شكرًا جزيلاً لكِ، سيدتي.”
“هل تشعرين بتحسن الآن؟ هل يمكنكِ الجلوس مجددًا؟”
“نعم، يبدو أن الدواء فعّال. النوبة تراجعت بسرعة.”
“هذا دواء من إعداد الطبيب الخاص لعائلتنا، و يسعدني أنه ناسبكِ. سأرسل لكِ الوصفة قريبًا إلى قصر الدوق.”
ابتسمت الماركيزة برضى لأنها استطاعت أن تقدم المساعدة.
بدأت حفلة الشاي أخيرًا مع وصول الضيوف الواحد تلو الآخر.
لكن وسط الأحاديث الودية، شعرت فيفيان بأن هناك جوًا غريبًا يسود المكان.
“شاي من فالديفا؟ بفضلكِ، تذوقنا شيئًا نادرًا بالفعل، سمو الأميرة.”
“لون الشاي و هو يُنقَع جميل حقًا. لكن الحلويات المقدمة معه… أليست دون المستوى؟”
“حقًا. كلها تبدو عادية و مملة، وكأنها من طعام الشارع.”
باستثناء فيفيان، التي كانت ستصبح من العائلة الملكية، كانت الماركيزة الأعلى مقامًا بينهم.
و مع ذلك، شعرت فيفيان أن الآخرين يقللون من احترامها عمدًا، فقط ليتقرّبوا منها.
“ما رأيكِ، سيدة سيليا؟”
“لم ألحظ ذلك، ربما ذلك بسبب نقصٍ في ذوقي.”
“أرجو ألا تكوني قد انزعجتِ. نحن فقط نقدم النصائح لمصلحتكِ.”
“بالطبع…”
كانت سيليا، الماركيزة ، لا تصلح أبدًا لحضور هذه الحفلات. فهؤلاء النساء سيلتهمنها حتى العظام.
و فوق ذلك، كنّ جميعًا من عائلات متواضعة. من الواضح أنهنّ يردن استخدام سيليا كدرَجة يصعدن بها للأعلى.
‘تسك، لو علم زوجها بذلك لانزعج كثيرًا.’
من المؤكد أنه لن يرضى برؤية زوجته تُهان بهذا الشكل. لكن يبدو أن سيليا، الطيبة إلى حد السذاجة، تخفي عنه كل ما تتعرض له.
لكن على أي حال، لم يكن هذا من شأن فيفيان. لم تكن تنوي التدخل.
“بالمناسبة، هل سمعتن؟ يبدو أن الطبيب من القارة الشرقية يتمتع بمهارات مذهلة.”
“نعم، سمعتُ أنه يعالج المرضى المحتضرين و يمنحهم طاقة متجددة. سمعتُ أنكِ تلقيتِ علاجه، سمو الأميرة. ما رأيكِ فيه؟”
يا لها من شائعات! زارت المستشفى بالأمس فقط، وها هي الأخبار قد انتشرت.
أومأت فيفيان برضا.
“نعم، العلاج فعّال فعلًا. كل الفضل لولي العهد. هل جربتهِ أنتِ، سيدتي؟”
“ليس بعد . لكن بعد كلامكِ ، أتشوق لتجربته.”
“هل زرتِ المستشفى يا سيدة سيليا؟ هل كنتِ مريضة؟”
“لابد أنه بسبب موضوع الأطفال.”
غطّت النساء أفواههن بمراوحهن و ضحكن بخفة بعد أن استمعن إلى حديث فيفيان و سيليا.
“هل تظنين أن الريّ سينبت زهورًا في أرض يابسة؟ بعد عشر سنوات من الانتظار، لا يبدو حتى أن الأعشاب الضارة تنمو هناك.”
“……”
نعم. لم تكن فيفيان تنوي التدخل.
…حتى تجاوزت البارونة الحدود.
التعليقات لهذا الفصل " 39"