قالوا ان الحديد يجب أن يُطرق و هو ساخن.

في صباح اليوم التالي، ما إن أشرقت الشمس، حتى بدأت فيفيان التحضيرات للخروج بحجة الاستعداد لمراسم البلوغ. و قبل أن يتمكن أصلان من فتح فمه، طلبت منه أن يرافقها ديلان كحارس شخصي.

كان هذا إجراءً احترازيًا تحسبًا لأن يسيء أصلان فهم علاقتها بولي العهد.

و هكذا، بينما كانت فيفيان متجهة إلى السوق برفقة ديلان، وضعت منديلًا على فمها.

“كح كح!”

“سيدتي، هل أنتِ بخير؟ دعيني أدخلكِ قليلاً.”

أوقف ديلان العربة مؤقتًا و هو يمتطي جوادًا بجانبها.

و عندما فتح الباب و رأى الدم الذي وضعته مسبقًا على المنديل، شحب وجهه. كانت انطلاقة موفقة.

تنفست فيفيان بصعوبة كما خططت سابقًا.

“آه، من الصعب أن أتنفس. كح كح!”

أمسكت بذراع ديلان الذي بدا و كأنه على وشك العودة مباشرة إلى القصر.

“لدي طلب عاجل.”

“نعم، سيدتي. يمكنكِ أن تأمريني بما تشائين!”

“كنت أحاول ألا أفكر في الأمر مراعاةً للموقف السياسي لأصلان، لكن… كح كح! أنا مريضة ومتعبة جدًا… كح!”

راقبت فيفيان ملامح ديلان بحذر.

منذ كارثة عرض الزواج، أصبح يصر على خدمتها ، لكنه الآن بدا مستعدًا للقفز في النار من أجلها.

“جلالة الإمبراطورة قالت انها ستُعرّفني على طبيب يستطيع علاج مرض السل. قال ولي العهد إنه سيتدخل شخصيًا من أجلي…”

“ماذا تقصدين بكلامكِ…؟”

“كنت أحاول أن أتحمل، لكن الأمر شديد عليّ… كح كح! آه، آه!”

ربما أدرك نيتها في لقاء ولي العهد، إذ أصبح وجه ديلان أكثر كآبة. و بدأت فيفيان تلهث بشكل أكثر حدة.

فجأة، ركع ديلان على ركبة واحدة داخل العربة.

“في الحقيقة، نحن أيضًا كنا نعرف بوجود هذا الطبيب.”

“ماذا… تعني؟”

“لكن ، بما أن هناك احتمال أن تكون مجرد شائعة، أمر سيدي بأن لا نتواصل مع هذا الشخص حتى نتأكد من صحة الأمر، خوفًا من أن تصابي بخيبة أمل شديدة.”

كون أصلان أيضًا يحاول التواصل مع هذا الطبيب، كان شيئًا لم تكن تعرفه.

و لكن إن تواصل معه قبلها، فسيكون من الصعب كشف أن الطبيب مزيف لاحقًا، وقد يتورط أصلان بدلًا من يوهانس.

لا بد أن ديلان فسّر صمتها بشكل مختلف.

أكمل ديلان كلامه بقلق واضح.

“لم نكن نحاول إخفاء الأمر عمدًا. أرجوكِ لا تسيئي فهم نوايا سيدنا الذي يهتم لأمركِ.”

في هذه المرحلة، كان لا بد أن تنسب ذلك الشخص إلى ولي العهد قبل أن يعرف أصلان الحقيقة.

قررت فيفيان استغلال ما قدمه لها ديلان من خيوط.

“لنذهب إلى القصر أولًا.”

“سـ- سيدتي…”

“أتمنى ألا ترسل أحدًا إلى أصلان. أريد التحدث معه مباشرة عند عودتي.”

شددت فيفيان على عبارة “التحدث مباشرة”. كانت تلك الكلمة المفتاح المناسب لكسب ديلان، الذي تسبب تقريبًا في كارثة فسخ الخطوبة.

“آه! كح كح كح!”

و بينما كانت تكرر السعال العنيف، لم يستطع ديلان إلا أن يومئ بالموافقة أخيرًا.

＊ ＊ ＊

“كنت بانتظاركِ، أميرة. أنا سعيد جدًا لأنكِ قبلتِ دعوتي.”

“أحيي سمو ولي العهد.”

ما إن وصلت إلى قصر ولي العهد حتى استُقبلت بحفاوة غير متوقعة. انحنت فيفيان ليوهانس وهي تتمتم في سرها.

‘دعوة؟ لم أتلقَ أي دعوة، عن أي هراء يتحدث؟’

الشيء الوحيد الذي تتذكره كان ذلك الحديث المجامل عندما التقيا سابقًا في القصر.

و مع ذلك، ابتسمت فيفيان ببراعة.

“كان من المفترض أن أزوركَ في وقت أبكر، لكن حالتي الصحية جعلت التنقل صعبًا، و أخشى أنني أزعجتكَ ، سمو الأمير.”

“كنتُ غاضبًا قليلًا من أصلان، لكن بما أنكِ جئتِ بنفسكِ و أوضحتِ الأمر، فلن أثير أي مشكلة بعد الآن.”

نهضت فيفيان من انحنائها وهي تفكر:

‘غاضب من أصلان؟ هذا الشخص حقًا غريب الأطوار.’

دون أن تدرك ذلك، أنقذت فيفيان أصلان من خطر كبير كان وشيكًا.

طلبت من ديلان أن ينتظر في الخلف، و جلست على الطاولة بإرشاد يوهانس، ثم بدأت الحديث بحذر.

“في الحقيقة، لدي طلب لصاحب السمو.”

“لا داعي للتردد. إذا كان باستطاعتي المساعدة، فسأفعل ما بوسعي.”

“لقد سمعتُ من جلالة الإمبراطورة أن سموكَ تعرف مكان الطبيب القادر على علاج مرض السل… كح كح!”

قامت فيفيان بتغيير طفيف في الصياغة.

أنتَ لا علاقة لك مباشرة بذلك الطبيب، أنتَ فقط تعرف مكان وجوده.

بمعنى آخر، لا تملك أي سلطة فعلية عليه.

“هل تخططين للذهاب إليه بنفسكِ؟”

“نظرًا لخطورة حالتي، كح، نعم، هذا ما أنوي فعله.”

“لا حاجة لأن تتكبدي عناء ذلك.”

وضع يوهانس ذقنه على يده و ابتسم بهدوء.

“أنوي إحضاره إلى العاصمة بنفسي.”

“عفواً؟”

“حديثكِ اليوم زاد من عزيمتي. إذا قمتُ بترشيحه ليصبح الطبيب الملكي، سيكون من الأسهل عليكِ تلقي العلاج على يد هذا الطبيب العظيم.”

“هل ستفعل ذلك بسببي…؟”

أومأ يوهانس بعينيه بصمت كعلامة على الموافقة.

لكن عندما تنهدت فيفيان بعمق، تجمدت نظراته كما لو كان مرتبكًا.

بالطبع، لكونه شخصًا بارعًا في التحكم بتعابيره، فإن التغيير لم يدم سوى للحظة قصيرة.

“سيدتي، هل من مشكلة؟”

“سمعت أن ذلك الشخص يمتلك أيضًا علاجًا لأمراض مستعصية أخرى غير السل.”

حولت فيفيان نظرها إلى خارج نافذة غرفة الاستقبال. كان منظر العاصمة مينيرفا، المزدحمة بالناس ، يتكشف أمامها.

“إن عُيّن كطبيب ملكي ، فلن يتمكن المرضى الآخرون من تلقي العلاج منه ، لذا أشعر و كأنني أستولي على الفرصة من أولئك الذين هم بحاجة ماسة للعلاج ، مما يثقل قلبي.”

شعرت و كأنها بالغت في التظاهر بالطيبة. فسارعت لتضيف

“كما أنني أخشى من انتقادات الناس أيضًا.”

هذه المرة ، لم يقتصر الأمر على ولي العهد، بل حتى مساعده الواقف خلفه أومأ برأسه موافقًا.

إذ أن احتكار الأسرة الملكية لطبيب بارز كهذا سيؤدي في البداية إلى توجيه اللوم نحو فيفيان ، و لكن في نهاية المطاف ستتجه السهام نحو العائلة المالكة، و خاصة نحو يوهانس.

وبالتفكير من الجهة الأخرى…

“إذن، إذا تم جلبه إلى العاصمة و تعيينه كطبيب ملكي، لكن تم تعيين مكان عمله في مستشفى مينيرفا العام ، فهل سيساعد ذلك على تهدئة قلبكِ يا سيدتي؟”

كان مستشفى مينيرفا العام منشأة طبية فاخرة لا يستخدمها إلا النبلاء الكبار أو العامة الأثرياء.

و لأنهم أصحاب نفوذ في المجتمع، فإن مديحهم للعلاج الذي تلقوه من الطبيب البارع سيتجه بطبيعته نحو يوهانس.

على الأقل طالما أنهم لا يعرفون الحقيقة الخفية.

‘جيد، سار الأمر كما هو مخطط.’

أومأت فيفيان برأسها راضية.

“أشكركَ على مراعاة وضعي.”

“حتى لو عمل في المستشفى العام ، فإن علاجكِ سيكون له الأولوية فوق أي شيء آخر. لذا لا تتكبدي عناء الانتظار و اذكري اسمي فقط.”

“كيف لي أن أجرؤ على استخدام اسم سموك…”

“أتمنى لكِ الشفاء العاجل. أنا وأمي الامبراطورة كذلك. لدي ما أرغب في الحديث عنه أكثر، لكن سأؤجل ذلك حتى تتحسن حالتكِ.”

لم تكن تعرف ما الذي يريد قوله، ولكن بما أنها حققت هدفها، لم يكن هناك حاجة للبقاء طويلاً.

تظاهرت فيفيان بأنها ليست في حالة صحية جيدة و وقفت من مكانها بمهارة.

و بذلك، انتهى الحديث مع يوهانس بنجاح.

＊ ＊ ＊

في طريق عودتها إلى قصر الدوق، كانت فيفيان في مزاج جيد للغاية.

‘أن تصبح طبيبًا ملكيًا هو أعظم شرف يمكن أن يناله العامة، و هو أيضًا قوة يمكن توارثها عبر الأجيال.’

عند تعيينه كطبيب ملكي، يُمنح الشخص من عامة الشعب لقب نبيل و يمكن توريث اللقب أيضًا.

و بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الامتيازات الأخرى، لكن الأهم هو أنه يُمنح حصانة من جميع أنواع الجرائم باستثناء قتل أفراد العائلة المالكة.

بالنسبة لمحتال، لا يوجد عرض أكثر إغراءً من هذا.

‘بهذا، مهما حاول أصلان، فإن الطبيب المزيف سيختار جانب ولي العهد دون شك.’

رغم أنها خططت للأمر ليحدث بهذا الشكل منذ البداية، إلا أن شعورها بالراحة تضاعف بعد أن تحقق بالفعل.

توقفت العربة التي كانت تسير بسلاسة. يبدو أنهم وصلوا إلى قصر الدوق.

“سيدتي، لدي ما أود قوله.”

قال ديلان، وهو يرافق فيفيان وهي تنزل من العربة، بصوت حذر.

“لا أعلم إن كان يحق لي قول هذا… لكن العلاقة بين ولي العهد و سيدي ليست علاقة ودية.”

“أعلم. فهما إخوة لكن كل واحد منهما من أمّ مختلفة .”

أجابت فيفيان بجواب شكلي في البداية، لأنها فهمت سبب إثارة ديلان لهذا الموضوع فجأة.

فاليوم، ذهبت بنفسها إلى يوهانس و طلبت مساعدته.

لم يوافق يوهانس فقط، بل سمح لها أيضًا باستخدام اسمه.

‘وليّ العهد كان ودودًا معي بشكل غريب. بالنسبة لديلان، لا بأس لأنه شهد كل ما جرى بيني و بينه، لكن من منظور أصلان الذي لا يعرف شيئًا…’

قد يشك في وجود علاقة ما بينها و بين ولي العهد، سواء كانت سياسية أو شخصية.

“الخلاف بينهما أعمق بكثير مما تتخيلينه، سيدتي. لقد قلتِ إنكِ ترغبين في الحديث مع سيدي بشكل مباشر، لكن اليوم تحديدًا، ماذا لو تدخلتُ كوسيط بدلاً منكِ؟”

مرة أخرى، كان طلبها بأن يكون ديلان مرافقًا لها خيارًا صحيحًا.

تظاهرت فيفيان بأنها لا تعرف شيئًا و هزّت رأسها.

“أقدّر لطفك، لكنني فقط طلبت من ولي العهد أن يُعرّفني على الطبيب، لذا أصلان سيتفهم ذلك تمامًا.”

“لكن، سيدتي…”

عندما لم تُعر فيفيان للأمر اهتمامًا، بدا أن ديلان في موقف محرج و حرّك عينيه بتوتر.

لكي يشرح الصراع بين أصلان و يوهانس، عليه أن يتحدث أولاً عن لعنة العائلة الملكية، لكنه غير قادر على قول الحقيقة، ممّا يجعله يشعر بجفاف شديد في الحلق.

عندها قررت فيفيان أن ترش عليه قطرات من ماء الخلاص.

“كح كح.”

“سيدتي!”

“هاه، يبدو أنني أجهدت نفسي كثيرًا اليوم. لا أملك طاقة للحديث طويلاً.”

استجاب ديلان جاء سريعًا على كلماتها التي همست بها وكأنها عن غير قصد.