كان أصلان اليوم لطيفًا على نحو غريب. فقد أوصد النوافذ بإحكام بدلًا من فيفيان، وأسدل الستائر الثقيلة جميعها.
وهكذا، وبعد أن تم عزل التيارات الهوائية تمامًا، احتضن خطيبته بوجه راضٍ.
ولأن فيفيان كانت راضية عمومًا عن وسيلة النقل المسماة “أصلان”، فقد تمددت بين ذراعيه دون اعتراض.
‘حتى الخطوات القليلة نحو السرير أتنقلها و أنا محمولة، يا لي من محظوظة.’
و فوق هذا، ولسبب تجهله، كان جسد أصلان دافئًا و كأنه ابتلع موقدًا مشتعلاً.
عندما كان يحدق للحظة خارج النافذة، ازدادت حرارته أكثر، حتى أن الهواء من حولها صار دافئًا لدرجة أنها لم تعد تتذكر متى شعرت بالبرد سابقًا.
“رغم أن لون وجهكِ لا يبدو سيئًا، إلا أنني أفضّل أن ترتاحي تمامًا اليوم.”
قال أصلان ذلك و هو يضع فيفيان على السرير، ثم لامس خدها بأصابعه بلطف.
كان خداها المتوردان كفاكهة ناضجة، يبعثان على الرغبة.
“سأفعل.”
“هل تنوين فقط الإجابة بشكل جيد دون تنفيذ؟”
“أنا أيضًا أعلم أن جسدي ثمين.”
فمنذ قدومها للعاصمة بسبب احتفال بلوغها الذي لا يزال يتبقى عليه أكثر من شهر، وهي تتعرض لضغط مستمر من التجار. لذا كانت تتوق ليوم واحد من الراحة.
ثم خطر في بالها فجأة
‘متى يرتاح أصلان؟’
فهو دائمًا ما يستيقظ قبلها و ينام بعدها.
ومع كونه أقوى مبارز سحري في القارة، لا يهمل تدريبه أبدًا، كما أنه يؤدي مهامه كأمير ملكي وكسيد إقطاعي بكفاءة تامة.
أدركت فيفيان أنها لم تره ولو لمرة واحدة وهو يسترخي دون قلق.
“لذا، اعتنِ أنتَ أيضًا بصحتك أثناء العمل.”
كانت كلماتها عفوية، لكن حركة يده التي كانت تلامس خدها بلطف توقفت.
حدّق أصلان بها بعينين مندهشتين.
“هل كنتِ قلقة عليّ للتو؟”
“عندما يقول شخص مريض هذا، يبدو الأمر مضحكًا ، أليس كذلك؟”
“لا، لم أفكر بذلك إطلاقًا. فقط…”
وكأنها المرة الأولى التي يشعر فيها بقلق من أحد، أخذ يعبث بعنقه بشكل مرتبك.
رغم علمه أنه عليه مواصلة الحديث لتبديد سوء فهم فيفيان، إلا أنه لم يجد الرد المناسب، فاكتفى بالتردد.
“لا تفكر كثيرًا. في مثل هذه اللحظات، يكفي أن تقول: شكرًا لقلقك.”
أما هي، فستسمعه من أذن و تخرجه من الأخرى، بطبيعة الحال.
و ربما فقد شعر بالفرق بين الكلام والفعل، إذ تردد قليلًا قبل أن يفتح فمه أخيرًا
“…شكرًا لك، فيفيان.”
“أحسنت.”
ربّتت فيفيان بقوة على ظاهر يده، بينما كانت تبعد نظرها عنه بخجل.
* * *
بينما كان أصلان يسير في الردهة الهادئة، توقف فجأة عن السير.
و عندما أدار رأسه، ظهرت أمامه غرفة نوم الدوقة. الغرفة التي كان فيها قبل لحظات، والمكان الذي تقضي فيه فيفيان معظم وقتها.
‘كان يجب أن أتصرف بشكل أكثر طبيعية.’
نظر إلى ظاهر يده التي لامسه دفء فيفيان.
و تدفقت في ذاكرته صورتها: نظراتها، رموشها التي كالمروحة، وعيناها الزرقاوان العميقتان كسماء الخريف، و هما تلمعان.
لون فاتن و محبب لدرجة أنه لا يستطيع نزع عينيه عنه.
‘ماذا لو اعتقدت أنني كنت غريبًا؟’
لكن قبل قليل، لم يستطع النظر في عينيها.
هو، بصفته أمير الإمبراطورية وحاكم الشمال، لم يستطع حتى قول كلمة أمامها، فاضطر إلى صرف نظره أولاً.
فعندما سمع صوتها القلق عليه، اجتاحه شعور حار مجهول، فاختنق الكلام في حلقه.
‘آه، هل كنت كذلك حقًا.’
“غررر…”
“قذر و مقزز.”
تذكر أصلان اليوم الذي دخل فيه هذا المنزل لأول مرة.
منذ حوالي ستة عشر عامًا. عندما، اكتشف يوهانس مظهره الوحشي لأول مرة، وبعد أن ضُرب بالسياط طويلاً، عاد إلى شكله البشري.
لكن لأن الوحش القذر لا يمكن أن يعيش في قصر مثل البشر، نُفي إلى هذا القصر المهجور حينها.
كانت النوافذ الزجاجية و الرخام مكسورة، والخشب متعفن، و الغبار و العفن وخيوط العنكبوت تملأ المكان.
لكن الإحساس الأقوى حينها، كان رائحة دمه القوية التي تخترق أنفه.
‘مهما مر من وقت، كان قصر الدوق دائمًا يعج برائحة الدم الفظيعة…’
ألقى أصلان نظرة على الرواق الذي يقف فيه حاليًا.
الفرق الوحيد أن فيفيان نائمة الآن في الغرفة المقابلة، لكن مشاهد الماضي بدأت تتبدل بمظاهر جديدة.
رخام أبيض ناعم و زخارف مطلية بالذهب. ثريات فخمة تضيء المكان. أشعة الشمس تتسلل بلطف من نوافذ خالية من الغبار.
و عطرها العذب المتغلغل في أعماق روحه.
‘متى تمكنت من احتلال هذا القصر الضخم بجسدها الصغير؟’
أينما توجهت نظراته، كانت لمساتها باقية في كل مكان.
و بينما هي كثيرة النوم و سريعة التذمر، تخيلها وهي تتجول بنشاط في أرجاء المكان، مما رسم ابتسامة لا إرادية على شفتيه.
“سيدي.”
في تلك اللحظة بالذات، انحنى كبير الخدم الذي اقترب دون أن يُشعر أمامه.
“ما الأمر؟”
“وصلت دعوة من القصر الملكي اليوم أيضًا.”
“…كم هو عنيد.”
ذلك الشعور و كأنه يمشي على الغيوم تلاشى في لحظة.
منذ نهاية مهرجان الصيد، بدأ يوهانس يرسل دعوة يومية إلى فيفيان.
“لقد حان وقت مقابلة جلالة الإمبراطور. إذا دعوتني في يوم آخر، فسأكون سعيدة بالاستجابة.”
“أوه، يبدو أنني أبقيت شخصًا مشغولًا لوقت طويل. حسنًا، سأرسل لكِ دعوة رسمية لاحقًا.”
من الواضح أنه استغل جوابها المهذب في اليوم الذي دخلت فيه القصر مع أصلان تلبيةً لدعوة الإمبراطور.
لم يكن شعور أصلان بأن يوهانس يلاحق فيفيان مجرد وهم.
كان منزعجًا للغاية.
“مزقها.”
“ولكن ، إذا استمررنا في التعامل مع الأمر بهذه الطريقة، فقد تنشأ مشكلة. من الأفضل إبلاغ السيدة و إرسال خطاب رفض رسمي…”
“كل ما عليكَ فعله هو تذكر هذا الشيء فقط.”
قاطع أصلان كلام كبير الخدم كما لو أنه لا يستحق الاستماع إليه.
“إذا حدثت مشكلة، فأنا من سيتحمل المسؤولية كاملة.”
توهجت عيناه الذهبيتان ببريق حاد كالوحش المفترس.
“فيفيان ليست بصحة جيدة أساسًا، فلا تزد عليها ما يثير القلق. هل فهمت؟”
“سأضع ذلك في اعتباري.”
أوامر أصلان كانت بمثابة أوامر قاطعة.
انحنى كبير الخدم بعمق، مظهرًا ولاءه المطلق لسيده الوحيد.
* * *
في الوقت ذاته، كانت فيفيان جالسة على الأريكة شاردة في التفكير بدلًا من أخذ قيلولة.
“الآن فقط أدركت. أصلان لا يهتم بأمانه الشخصي.”
في القصة الأصلية، كان الدافع الذي حركه هو رغبته في الانتقام من العائلة المالكة.
كانت حياته بلا قيمة تعادل نملة في الطريق. شيء يمكن أن يتخلى عنه في أي لحظة عند الضرورة.
ولكن، بسبب العلامة التي ربطت حياته بحياة البطلة، أجّل قراره حتى اللحظة الأخيرة فقط.
‘لكن حتى الحب لم يستطع إنقاذ أصلان. في النهاية، ضحى بنفسه لإحياء الشيطان أستاروت…’
و لأنه لا يعرف بوجود العلامة الآن، فلا فائدة من إخباره.
بالطبع، حتى لو علم بوجودها، فلن يكترث بحياتها الصغيرة الثمينة.
من منظورها، لو مات أصلان، فهي ستموت تلقائيًا، مما يجعل الوضع لا يُطاق لدرجة تصيبها بالجنون.
رغم ذلك، كان عليها أن تفكر. من أجل البقاء، كان لابد أن تفكر.
‘بما أن هيسيوس وصفه بأنه عقبة غير متوقعة، فيجب أن أضع في الحسبان احتمال أن إزالة هذه العلامة الملعونة قد تستغرق أكثر من ثلاث سنوات.’
كان لكونها حددت “ثلاث سنوات” سبب وجيه.
ففي هذا الوقت بالضبط، يموت أصلان في القصة الأصلية.
حين يواجه يوهانس، الذي أصبح إمبراطورًا جديدًا، في المعركة النهائية، و يُهزم هزيمةً مروعة.
‘بعد التفكير في الأمر ، فإن أكثر الطرق ضمانًا لإنقاذ أصلان، هي بجعله إمبراطورًا.’
في البداية بدت فكرة مجنونة، لكن كلما فكرت أكثر، كلما شعرت أنها ليست مستحيلة تمامًا.
فهو يقود جيشًا قويًا، و أرباح منجم الأحجار السحرية تضاهي ميزانية الإمبراطورية، وقوة أصلان كمبارز سحري تجاوزت بالفعل يوهانس.
لذا، ليس من الغريب أن يشن أمير حربًا ضد الإمبراطورية.
‘بالطبع هناك عقبات متوقعة. و أكبرها أن سمعة أصلان بين النبلاء و العامة منخفضة للغاية.’
يمكنها أن تتخيل مقدار المعارضة التي ستثور عليه عندما يصعد إلى العرش.
‘آه، كم هو محبط. الشخص الملعون الحقيقي ليس أصلان، بل ولي العهد!’
كان شعب الإمبراطورية يظن أن أصلان شخص وغد و دنيء لا هم له سوى التربص بمكانة أخيه.
بينما الوحش الحقيقي الذي يحتضن أفعى عمرها ألف سنة في داخله، كان شخصًا آخر.
‘نحتاج إلى نقطة تحول تغير الوضع. و بما أن وقت ظهور الطبيب المزيف قد حان، لمَ لا أستغله؟’
كان هناك طبيب جاء من أراضٍ بعيدة في الشرق.
امتلك مهارات طبية مذهلة، و منذ وصوله إلى القارة، أنقذ العديد من مرضى الحالات المستعصية.
و سرعان ما انتشرت سمعته في أنحاء الإمبراطورية، حتى دخل العاصمة مينيرفا.
لكن الدواء الذي استخدمه كان مزيفًا، لا يقوم سوى بتخفيف الألم مؤقتًا، وكان ذا تأثير إدماني قوي، مما يجعل من يتناوله لفترة طويلة يتحول إلى شخص مدمر.
و إذا كان المرضى من الأشخاص يعانون من أمراض مستعصية، فإن النتائج لا تحتاج إلى توضيح.
‘في ظروف عادية، كنت سأكشف عن حقيقة الطبيب، وأجعل الناس ينسبون الفضل لأصلان، لكن الآن هذا ليس ما أنوي فعله.’
لم تكن تخطط للقضاء عليه.
بل كانت تنوي جعله في صف يوهانس.
السمعة العامة كالأرجوحة، إذا انهار أحد الطرفين، يرتفع الآخر تلقائيًا.
خصوصًا إذا كان الشخص المعني بلا عيوب و وقع في الفضيحة، فستكون الضربة أقسى.
“إن رفع سمعة شخص أصعب بكثير من إسقاطه. تمامًا كما فعل يوهانس مع أصلان.”
وبما أن التحجج بالاستعداد لحفل البلوغ سمح لها بالتنقل بحرية أكثر، فهذا وقت مناسب.
أشرق بريق في عيني فيفيان وهي تفكر في طريقة لزيارة قصر يوهانس رسميًا.
التعليقات لهذا الفصل " 35"