“سيدتي، هل تحتاجين إلى شيء؟”
لم يكن هناك شيء يُمنح بسهولة. ما إن أبدت فيفيان نية للمغادرة حتى لحق بها المدير فورًا.
لكن هذا كان متوقعًا مسبقًا. أجابت فيفيان بوجه هادئ:
“لست أعلم متى سيعود سموه، لذا سأتوجه أولًا إلى متجر المجوهرات. إن سأل عني، فأخبره أن يأتي إلى هناك.”
“لا يمكنني السماح للسيدة النبيلة بالذهاب وحدها. اصطحبي أحد موظفينا من فضلك.”
“أقدر لطفكَ، لكني أكتفي بقبول النية فقط.”
أشادت فيفيان بجودة الطعام وغادرت المكان.
كانت خطواتها بطيئة في البداية، لكنها صارت أسرع و أكثر توترًا كلما ابتعدت عن المطعم.
في بداية الزقاق المؤدي إلى نقابة السحرة، وُضع سحر تشويش بصري. الهدف منه كان منع الغرباء من التعرف على وجوه زبائن النقابة.
دخلت فيفيان الزقاق دون تردد.
“هاه… هاه…”
كان تنفسها قد وصل إلى حده، لكنها لم تكن تعلم متى سيعود أصلان. لم يكن هناك وقت.
“تماسكي. هذه فرصة ذهبية. يجب أن أنجح من أول مرة.”
دخلت فيفيان مبنى النقابة. كان داخله واسعًا و فخمًا، لكن بدا أن عدد الناس فيه قليل.
لا، لم يكن قليلًا حقًا، بل بدا كذلك فقط، لأن سحر التشويش كان مفعّلًا أيضًا في الداخل.
“هذا ليس مكانًا يليق بسيدة نبيلة مثلكِ ، هل ضللتِ طريقكِ؟”
تغيرت ملامح الشخص الذي تحدث إليها، مما أثبت وجود السحر. حتى وهي تنظر إليه وجهًا لوجه، لم تستطع تذكّر ملامحه.
تذكرت فيفيان ما ورد في القصة الأصلية. حين استدعت إيريس أستاذها، كانت تقول:
“يقال إن الشيطان يظهر في الليلة التي يسطع فيها القمر الأحمر، أليس كذلك؟”
“نعم، لذا لا تفتحي عينيكِ أبدًا.”
فجأة، ومضة من الضوء جعلت المنظر أمام عيني فيفيان يتغير قليلًا.
في المكان الذي كان فيه جدار قبل لحظات، ظهر ممر.
“اصعدي.”
“شكرًا لك.”
صعدت فيفيان الدرج الحلزوني الكبير بخطى ثابتة. لم يتبعها أحد.
وما إن وصلت إلى أعلى الدرج، حتى فُتح الباب في نهاية الردهة تلقائيًا. وقفت أمامه و طرقته ثم دخلت.
“كيف وصلتِ إلى هنا و أنتِ لستِ ساحرة؟”
جلس فتى لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره على الأريكة و هو يعقد ساقيه.
لو كانت شخصًا عاديًا، لذهلت من سن زعيم النقابة، لكن فيفيان كانت تعرف الحقيقة. هيسيوس كان يستطيع تغيير مظهره كما يشاء.
على الأقل فيما يتعلق بـ”السحر”، كان الأقوى في هذا العالم. مما يعني أنه خصم لا تحكمه القواعد.
جلست فيفيان بثقة على المقعد المقابل له دون تردد. لم يكن لديها وقت للكلام المطول.
“أودّ منكَ أن تلقي نظرة على دائرة السحر المحفورة على جسدي.”
“من الذي تجرأ على نقش دائرة سحرية على جسد من ستصبح الدوقة الكبرى مستقبلًا؟ هذا كلام لا يُصدق.”
ضحك هيسيوس قليلًا، ثم أكمل
“وفوق ذلك، لا أشعر بأي طاقة تصدر منكِ. لا توجد دائرة سحرية في هذا العالم لا يمكنني كشفها.”
منذ البداية، لم تتوقع أن تكون المهمة سهلة.
خلعت فيفيان عباءتها و فكت ربطة الفستان عند صدرها دون تردد.
وما إن ظهور النجمة الخماسية الفضية الباهتة، حتى تجمد وجه هيسيوس الذي كان لامباليًا طوال الوقت.
“ما هذا السحر المجنون؟”
نهض هيسيوس من على الأريكة، و انتشر ضوء ساطع. وفي لحظة، ظهر شاب في العشرين من عمره. لقد عاد إلى شكله الحقيقي.
اقترب فجأة ونظر بعمق إلى صدر فيفيان حيث وُسمت دائرة السحر.
“خبيث للغاية.”
كانت عند أطراف أصابع هيسيوس طاقة فضية تشبه دائرة السحر.
لكنها اختفت في الحال عندما لمست نجم فيفيان الخماسي، أثارت شرارة و اختفت. عبس هيسيوس بشدة.
“سيدتي، هل صنعتِ لنفسكِ أعداء في حياتك؟”
“أنتَ لا تسأل لأنكَ تجهل الجواب، لذا ادخل في صلب الموضوع. ما وظيفة هذه الدائرة السحرية؟”
أخرجت فيفيان كيسًا مليئًا بالقطع الذهبية ووضعته على الطاولة بهدوء.
لكن عيني هيسيوس بقيتا معلقتين على صدرها.
“حياتك.”
“عذرًا؟”
“أحدهم رهن حياتك. إنه سحر أسود بشع. عندما تُفعّل هذه الدائرة، سينفجر قلبكِ و تموتين.”
رفع هيسيوس عينيه فجأة و نظر مباشرة في عيني فيفيان. و بعد لحظة، عاد فجأة إلى الأريكة كما أتى.
جلس بقوة، وإذا به يعود مجددًا إلى هيئة الطفل ذي الثانية عشرة.
“لا يبدو أنكِ خائفة كثيرًا؟ عادة ما يرتعد الناس مثل الكلاب عند سماع أن حياتهم في خطر.”
“لقد مررتُ بالكثير من مواقف الموت، لذا لم أعد أرتجف من أشياء كهذه.”
“أنتِ أكثر جرأة مما توقعت.”
…لكن الحقيقة كانت مرعبة جدًا.
سحر أسود، و قلبها قد ينفجر؟!
عضّت فيفيان داخل خدها بقوة، محاولة تهدئة نفسها.
خصمها هو أقوى ساحر في القارة. لا بد من وجود طريقة للحل.
“أنا أحب الشجعان، لذا سأخبركِ بخبرين جيدين.”
وكما توقعت، عينا هيسيوس انحنتا برضى.
“أولًا، الدائرة السحرية الموجودة على جسدكِ غير مكتملة. فدوائر السحر الأسود الحقيقية تكون حمراء قاتمة، لكن دائرتكِ ليست كذلك. يمكن حلّها.”
“كيف ذلك؟”
“يمكننا كسر الصيغة من جانبنا أولًا.”
ثم أضاف هيسيوس جملة لا داعي لها: “قبل أن ينفجر قلبك”، مما جعل فيفيان تشعر بانزعاج كبير.
“إذن، قم بفك التعويذة.”
“يؤسفني قول ذلك، لكن الأمر ليس سهلاً كما يبدو.”
كان عليه أن يفك شيفرة التعويذة الخاصة بفيفيان ثم يصنع تعويذة مضادة ليغطي بها، وقد أوضح هيسيوس أن فك الشيفرة وحده سيستغرق وقتاً طويلاً.
“ثانياً، تلك الدائرة السحرية تكبح مرض السل الذي تعاني منه الآنسة. السحر الأسود بطبعه شديد التملك. لا يحب أن يموت قربانه بسبب عامل آخر غيره.”
“…”
“تهانينا، يا آنسة. يمكنكِ الاختيار بين الموت بالسل أو بانفجار قلبك.”
يبدو أن هيسيوس لم يكن موهوباً في السحر فقط. بل كانت له مهارات ممتازة في استفزاز الناس أيضاً.
وبفضل ذلك، ازدادت حالة فيفيان سوءًا.
بينما كانت تفكر بجدية في ما إذا كان يجب أن تضربه أم لا، نظرت فجأة من النافذة. لقد مرّ وقت أطول مما توقعت.
سيكون من المزعج إن وصل أصلان إلى متجر المجوهرات قبلها.
أعادت فيفيان ربط الشريط على صدرها و ارتدت عباءتها فوقه.
“اصنع التعويذة التي تبطل الدائرة السحرية.”
“إذن تفضلين الموت بالسل؟”
“فكّر بما تشاء.”
لم يكن من الضروري أن تخبره بأن أحد أتباع أصلان سيطوّر دواءً للسل.
لكن هيسيوس بدا راضياً عن تفسيره لإجابة فيفيان.
“شجاعة رائعة. لا تسعين للتشبث بالحياة من خلال التوسل لسحر أسود تافه.”
“هذا سيكون أجرك. اكتب الرقم الذي تريده.”
وضعت فيفيان شيكاً على بياض على الطاولة. لكن رد فعل هيسيوس كان بارداً.
“أحب المال، لكني لا أتحرك بدافع المال فقط.”
“يبدو أن هناك شيئاً آخر تريده.”
تنهّدت فيفيان في سرّها. كانت تود الاحتفاظ بهذا العرض لحالة الطوارئ، لكن لم يكن أمامها خيار الآن.
“سأستعير شيئاً.”
شربت كل ما في فنجان الشاي على الطاولة، ثم التقطت الخنجر الزخرفي المعلّق على الحائط. وبدون تردد، شقت به ذراعها.
“…”
إحساس النصل كان مرعباً. رمت فيفيان الخنجر وسكبت الدم المتقطر في فنجان الشاي.
امتلأ الفنجان الصغير في لحظات.
“أقدّم لكَ دم إليونورا.”
“واو، جريئة حقًا.”
“ليس من المعقول أن ساحر عظيم مثلكَ لا يعرف عن دم إليونورا.”
إليونورا، البطلة التي هزمت الشيطان الأكبر أستاروت مع الإمبراطور الأول للإمبراطورية.
لكن على عكس العائلة الملكية التي ورثت اللعنة، لم تدفع إليونورا أي ثمن.
هيسيوس، الساحر العظيم الوحيد الذي أدرك وجود “اللعنة”، شعر بفضول تجاه الأمر.
فقد كان أستاروت شيطاناً لا يُسامح. ولا يمكن تخيل أنه سيترك الإنسان الذي قتله دون انتقام.
حتى أن البطلة الأصلية “إيريس” أصبحت تلميذة هيسيوس بسبب امتداد هذا الفضول.
“العقد قد تم.”
مدّ هيسيوس يده و هو لا يزال جالساً، مغمض العينين برضا. و ما إن فعل، حتى شُفي جرح فيفيان في غمضة عين بفضل سحره.
لكن العلاج بالسحر لم يكن كاملاً.
فالسحر في جوهره قوة تدميرية، و علاج الجروح من خلاله هو تقنية ناقصة مبنية على عكس تلك القوة.
بمعنى أنه يمكن أن يُفتح الجرح مجدداً بسبب أي صدمة صغيرة.
“احرصي على عدم تعريض الجرح لشيء في الوقت الراهن. و بما أن شخصاً بمستوى دوق لن يفشل في كشف بقايا الطاقة السحرية، لا تحاولي إخفاء الإصابة.”
“حسناً.”
“سأتواصل معكِ قريباً. هل لديكِ شروط خاصة للعقد؟”
أومأت فيفيان برأسها.
لكنها اتخذت مسافة كافية من هيسيوس تحسباً لما قد يحدث. و بعد أن أعدت نفسها للهرب في أي لحظة، وجهت له لكمة كلامية قوية
“توقّف عن التحدث بلهجة غير رسمية. الأمر واضح جداً، أيها الصغير!”
ثم هربت بسرعة.
تلاشت خطواتها السريعة على الدرج. أما هيسيوس، فظل يرمش بدهشة، ثم انفجر ضاحكاً.
“هاها! إنها حقاً فتاة مجنونة! كيف لم ألاحظ شخصاً مثلها من قبل؟”
وفي طرفة عين، تحوّل الفتى ذو الثانية عشرة إلى شاب وسيم.
مرّر هيسيوس يده خلال شعره الفضي الطويل وهمس برضا
“لن أشعر بالملل في الفترة القادمة.”
* * *
خرجت فيفيان من نقابة السحرة متجهة بسرعة نحو متجر المجوهرات.
“آه، اللعنة.”
لكنها وصلت متأخرة. كان أصلان واقفاً عند مدخل المتجر بنظرات مليئة بالغضب. بينما كان الفرسان الذين تلقوا أوامره جاثين أمامه بوجوه جادّة.
لا تعرف ما الذي حصل، لكن بدا واضحاً أنها في ورطة كبيرة.
“فيفيان.”
في تلك اللحظة، وقعت عين أصلان على فيفيان المترددة. و ما إن خطا خطوة، حتى انقسم الفرسان المحتشدون أمامه.
بدأ العرق البارد يتصبب من ظهر فيفيان المواطنة العادية.
“أين كنتِ طوال هذا الوقت؟”
“ذلك…”
“قال المدير إنكِ خرجت منذ مدة، لكنكِ لم تكوني هنا عندما وصلتُ، لا يمكنكِ تخيل مدى القلق الذي شعرت به.”
لامست أصابعه الطويلة والصلبة خدها برفق.
“كنت قلقاً جداً، و بدأ رأسي يضطرب من التفكير في احتمال أن يكون قد حدث لكِ شيء وأنتِ مريضة.”
“أعتذر لأنني أخفتك. حصل أمر غير متوقع.”
“أي أمر؟”
أظهرت له فيفيان معصمها بصمت.
كان يبدو ناعماً و خالياً من العيوب، لكن أصلان، كمحارب سحري، كان بإمكانه رؤية الطاقة السحرية المتبقية في داخله.
و لم يكن ذلك مستغرباً، إذ تجمّد وجهه فوراً.
مرّر أصابعه على باطن معصمها برقة. و حدد بدقة المكان الذي جُرحت فيه.
“من فعل هذا؟”
التعليقات لهذا الفصل "26"