“هل أنتَ جاد؟ هل قالت فيفيان انها أحبت ذلك العرض للزواج؟”
“نعم، تقول إن مظهره الجاد و المجتهد كان مؤثراً.”
في وقت متأخر من بعد الظهر، حين بدأت الشمس تميل نحو الغروب، عادت فيفيان و ديلان من خروجهما إلى قصر الدوق الأكبر.
أوصل ديلان فيفيان بأمان إلى غرفة نومها، ثم انطلق مسرعاً ليقابل أصلان. كان الهدف من ذلك نقل نتائج التحقيق الذي أجراه اليوم.
“إذا تدربتَ لبضعة أيام، فبإمكانكَ أن تقوم به بسهولة، يا سيدي.”
كان ديلان جاداً جداً.
فقد عاش سيده حياته كلها من دون أن يشعر بدفء البشر. و لم يكن معتاداً على معاملة الآخرين بصدق.
إما أن يَقتل أو يُقتل.
كانت تلك دائماً الطرق الوحيدة التي يمكنه أن يختار بينها.
وربما لهذا السبب لم يتمكن أصلان من تصديق تقرير ديلان بسهولة. كان يتجول في مكانه، يمسح وجهه بيديه الجافتين، و علامات الحيرة تعلو وجهه.
“لا أصدق ذلك. هل يُعقل أن فيفيان تحب شيئاً كهذا حقاً…؟”
“من الطبيعي أن تشعر بالغرابة في البداية. لكنكَ كنتَ على وشك أن تمنحها قلبك، يا سيدي. فما الذي تخشاه بعد ذلك؟”
لا أحد يعلم متى ستتاح فرصة كهذه مجدداً. وربما كانت هذه المرة الوحيدة في حياته التي يشعر فيها بعاطفة كهذه.
لقد أراد، بعد كل سنوات الوحدة، أن يمنح سيده لحظة من السعادة الحقيقية في الحياة.
“عليكَ أولاً أن تذهبَ و تحدد موعداً للخروج مع السيدة. فهي في مزاج رائع اليوم. سيكون من الجيد أن تحدد موعداً، و تتحدث معها أكثر أيضاً.”
“ما الذي فعلته فيفيان اليوم؟”
“لا شيء مميز. كانت سعيدة جداً بلقاء السيدة إيريس فقط.”
“أه، إذن تلك المرأة مفيدة على نحو غير متوقع.”
ربّت أصلان على كتف ديلان بعد أن أنهى تقريره، و خرج من الغرفة. يبدو أنه قرر اتباع نصيحة ديلان والتحادث مع فيفيان.
أما ديلان، فبقي وحده ينظر إلى ظهر سيده الذي بدأ يختفي، و أومأ برأسه بفخر.
كان لديه شعور جيد.
* * *
بعد عدة أيام، حان اليوم الذي ستخرج فيه فيفيان أخيراً برفقة أصلان.
ركبت العربة بينما كان خدم القصر يودعونها بتكريم مبالغ فيه. كانوا يكرمونها دائماً، لكن اليوم بدوا أكثر احتراماً من المعتاد.
كل شيء بدا مختلفاً عن العادة. فشعرت فيفيان بإحساس سيئ.
‘و الآن بعد التفكير في الأمر، كانت نظرات ديلان لي غريبة أيضاً. بدت عيناه وكأنها على وشك البكاء، كما لو أن مشاعرًا تغمره و هو لا يستطيع السيطرة عليها…’
نظرت فيفيان بخفة إلى أصلان الذي كان يجلس بجانبها في العربة.
مع أن الأمر مجرد نزهة، إلا أنه كان يرتدي زياً رسمياً مرتبًا بإتقان، و حتى سيفه كان مربوطاً إلى خصره.
و كان وجهه متجمداً بشدة، و كأنه قائد عام يستعد لمعركة حاسمة.
‘ما الذي يحدث بحق الجحيم؟ لم أقل كلمة واحدة عن حقيقة أصلان!’
رغم أنها فتشت ذاكرتها بعناية، لم تستطع أن تتذكر أي تصرف منها قد يثير الشك.
صحيح أن ديلان يتحدث كثيراً و يميل إلى تشتيت ذهن الناس، لكنها لم تقع في فخه، و كانت حذرة جداً و أجابت بطريقة غامضة قدر الإمكان.
و بينما كانت فيفيان غارقة في التفكير، امتدت يد مغطاة بقفاز أمامها فجأة.
“لقد وصلنا، فيفيان.”
“…..”
“فيفيان؟”
توقفت العربة من دون أن تنتبه. و كان أصلان قد نزل أولاً، واقفاً لينتظرها كي يرافقها.
نظرت فيفيان سريعاً حولها. كان المكان شارعاً عادياً في وسط المدينة، يعجّ بالناس.
رغم أن أصلان هو ابن الإمبراطور و الدوق أيضاً، فلا يبدو أنه قد يقدم على جريمة قتل في مكان كهذا.
‘ربما.’
لكنها لم تكن واثقة.
نزلت من العربة و هي متيقظة تماماً. أمسك أصلان بيدها وسار بخطى هادئة.
“لقد حجزت كل الأماكن التي سنزورها اليوم. لن يكون هناك من يزعجنا.”
كان وجه أصلان يبدو راضياً وهو يقول ذلك.
نعم، لا بد أنه راضٍ. لا شهود يعني جريمة مثالية! بالطبع سيكون سعيداً!
شعرت فيفيان بقشعريرة تسري في ظهرها من شدة حذره و تخطيطه.
“ها، هذا مذهل. لكن، ألم يكن بالإمكان ألا نحجز كل شيء؟”
“بالتأكيد لا. ستعرفين السبب قريباً.”
لا، لا أريد أن أعرف!
بدأ جرس الإنذار يدق في رأسها. و بينما كانت تراقب المكان بحثاً عن طريق للهرب، توقفت فجأة.
رغم أن المكان يقع داخل زقاق و لم يكن واضحاً تماماً، إلا أنه كان مطابقاً لوصف المكان في الرواية الأصلية.
‘النقابة التي يديرها معلم البطلة.’
في الرواية الأصلية، توقظ إيريس قوتها السحرية. وكان من ساعدها هو زعيم نقابة السحرة، هيسيوس.
ولأن هيسيوس لم يكشف عن هويته، فإن مقابلتها له واعتباره أستاذاً لها كان بمثابة معجزة.
لكن تلك المعجزة، على ما يبدو، حصلت معها هي أيضاً.
‘بالطبع، أنا لا أحتاج إلى معلم، بل إلى شخص يمكنه التأكد من الخماسي المنقوش على صدري.’
إذا كان شخص بمستوى هيسيوس، فلا بد أنه يعرف كل أشكال الدوائر السحرية.
“فيفيان، ما الأمر؟”
صمتها لم يدم سوى لحظة، لكن أصلان، بحساسيته العالية، أدرك أنها تفكر في شيء آخر.
أحكم ذراعه حول خصرها النحيل.
“حتى لو كان الطقس دافئاً، ستصابين بالزكام إن بقيتِ طويلاً في الخارج.”
قادها أصلان إلى متجر مجوهرات. و كان الموظفون يقفون عند المدخل، فانحنوا باحترام فور رؤيتهما.
بدأت فيفيان تفكر بسرعة.
‘إذا ضيعت هذه الفرصة، فما هي احتمالية أن أتمكن من القدوم إلى هذا المكان مجدداً دون أن يلاحظ أحد؟’
ثم اتخذت قرارها.
“كح كح!”
“فيفيان؟!”
تصادف أن كان هناك مطعم مشهور على الجانب المقابل من مبنى النقابة، و هو نفس المطعم الذي ذكره أصلان.
وبما أن أصلان قد استأجر ذلك المكان بالكامل أيضًا، فلن يُثير الشك كثيرًا إذا اقترحت الذهاب إلى المطعم أولًا.
“آه، لقد تحركنا طويلًا فأصبح جسدي باردًا قليلًا. أظن أن كأس نبيذ دافئ في المطعم سيجعلني أشعر بتحسن.”
“لا، أعتقد أنه من الأفضل العودة بهذه الحالة. هناك فرص أخرى فلا تجهدي نفسك.”
“كنت أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر…”
أخرجت فيفيان منديلًا و ضغطت بلطف على أطراف عينيها.
عين أصلان التي نظرت إليها بطرف خفي ارتجفت قليلًا. بدا أن تأثير ذلك لم يكن معدومًا.
“أنتَ لا تعرف كم كنت أتطلع لهذا اليوم منذ دعوتك لي للخروج.”
“فيفيان، لم أقصد هذا…”
“كم من الأيام المتبقية لي لأتجول هكذا؟ حالتي تزداد سوءًا كل يوم… كح!”
بالطبع، حالتها لم تسُؤ على الإطلاق، ولكن بما أن الوضع طارئ فقد اجتهدت في التمثيل.
ولحسن الحظ، لم يكن أصلان بارد القلب لدرجة تجاهل أمنية شخص في أيامه الأخيرة. فتمتم بهدوء لمساعده بأنه سيغير الخطة.
كانت تود سماع المزيد، لكن أصلان شعر بنظراتها فسكت.
“لندخل.”
“شكرًا لك، أصلان.”
لم تكن تعرف ما الذي يجري، لكنها باتت واثقة أن هذه النزهة ليست عادية.
عزمت فيفيان أنه إن استدعى الأمر، ستهرب الليلة فورًا، و عيونها لمعت بتصميم.
* * *
بدأت فيفيان تشعر بالارتباك أكثر فأكثر. لم تكن تفهم الوضع الذي وُضعت فيه.
كانت تأكل طبق قاروص البحر الذي قدمه لها أصلان وهي تحك ذقنها بشرود.
في تلك اللحظة اقترب المدير مبتسمًا ابتسامة عريضة وهو ينظر إليهما.
“شكرًا لاختياركم مطعمنا في هذا اليوم المميز. هل الطعام يروق لكم؟”
“جيد. و أنتِ، فيفيان؟”
“أنا أيضًا…”
في هذا الأمر لم يكن هناك اختلاف.
الطعام كان رائعًا، و الموظفون لطفاء. رغم أنهما الزبونان الوحيدان، كانت هناك فرقة وترية من أربعة تعزف موسيقى رومانسية.
بصراحة، الجو كان مناسبًا لطلب زواج.
‘أشعر بالأسف على ابنة عم ديلان. لو فعل هذا فقط، لكان الأساس موجودًا، لكنه تقدم بطلب زواج مجنون.’
انجرفت أفكارها إلى هناك بشكل طبيعي. كان ذلك الموقف قد طُبع في ذاكرتها بقوة.
“فيفيان؟”
“آه.”
ناداها أصلان بينما كان يضع طبق المحار في طبقها. بدا أن شرودها أثار استغرابه.
“عذرًا. كنت شاردة لبعض الوقت.”
“بماذا كنتِ تفكرين؟”
“لا شيء مهم. فقط تذكرت قصة مؤسفة سمعتها قبل أيام.”
لمعت عينا أصلان الذهبيتين بتساؤل. بدا أنه مستعد للشك إن لم تشرح.
لم تكن مرتاحة في مشاركة مآسي الآخرين بهذه الطريقة، لكن الأولوية كانت للبقاء. فاعتذرت في قلبها لتلك الفتاة التي لا تعرف اسمها.
“سمعت مؤخرًا أن ابنة عم ديلان تلقت عرض زواج من خطيبها.”
“آه.”
“هل تعرف القصة؟”
“لا، لا أعرفها.”
هز أصلان رأسه فجأة نافياً بعدما كان يبدو وكأنه يعرفها.
لكن فيفيان لم تلاحظ ذلك لانشغالها بطبق المحار.
“لكن طريقة طلبه كانت غريبة.”
“كيف ذلك؟”
“ليس من شأني أن أتكلم عن أمور الآخرين، لكن، هممم…”
كشفت الحقيقة التي لم تتمكن من قولها لديلان.
“لو كنتُ أنا من تلقى مثل هذا العرض، لشعرت بالإهانة و فسخت الخطوبة فورًا.”
“ماذا؟”
“ما الذي كان يفكر فيه و هو يفعل هذا أمام الجميع؟ لقد جعل من خطيبته مشهدًا للفرجة.”
سكين أصلان التي كان يمسك بها انطوت إلى نصفين.
“يبدو أن ديلان يحب ابنة عمه كثيرًا. كان حزينًا للغاية فحاولت تهدئته، لذا لا تخبره بشيء من فضلك.”
شوكة يده الأخرى احترقت تمامًا و تحولت إلى رماد. كانت من المعدن، بالمناسبة.
وضع أصلان أدوات الطعام جانبًا وبدأ يمسح يديه بهدوء. لكن نظراته كانت مريبة و مليئة بالشر، حتى أن فيفيان شعرت هذه المرة بشيء غير عادي.
“تذكرت شيئًا. سأعود حالًا، هل يمكنكِ الانتظار؟”
“نعم، بالطبع.”
“آسف. سأحاول الإسراع.”
غادر أصلان المطعم و هو يطحن أسنانه. و قليلون فقط ممن يعرفون القصة تمنوا الرحمة لديلان.
في هذه الأثناء، كانت فيفيان تنظر من النافذة. وقد لفت انتباهها شعار النقابة الموجود في الزقاق المقابل.
“الفرصة يجب أن تُغتنم حين تأتي.”
تصادف أن الفرسان تبعوا أصلان، ولم يبق في الداخل سوى موظفي المطعم و المدير.
في العادة، كان من المفترض أن يترك حارسًا أو اثنين، لكن يبدو أن الجميع كانوا مرتبكين بسبب ما حدث فجأة.
نهضت فيفيان من مكانها بشكل طبيعي.
التعليقات لهذا الفصل "25"