“يجب أن نعجل بحفل الخطوبة.”
تمتم أصلان فجأة وهو جالس إلى مكتبه يتابع عمله. فسأله مساعده ديلان الذي كان يقف بجانبه:
“عفوا؟”
كان ديلان خادماً مخلصاً لأصلان منذ أن تم نفي إلى بلاكفورد، المنطقة القاسية في الشمال، وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
وإذا حسبنا مدة معرفته بأصلان، فالعلاقة بينهما أقدم من ذلك، و كان واثقاً بأنه لا يجهل شيئاً عن سيده، حتى عن جانبه الآخر.
“كنت أنوي الانتظار حتى تتحسن حالة فيفيان الصحية، لكنني لم أعد أستطيع التحمل. إنني على وشك الجنون من القلق.”
كسر أصلان قلمه و رماه بعيداً. فتناثرت بقع الحبر على الوثائق التي كان يطالعها.
“إذا كان هذا ما تريده، فلا أعترض، ولكن… ألم تكن تكره الآنسة، لا بل السيدة ؟ لقد كنت تهينها علناً.”
“أنا نادم على ذلك.”
“الإشاعات تنتشر في العاصمة. يقال ان سبب حماية سموكَ لها هو الإرث الذي ستحصل عليه بعد وفاتها.”
تجهم وجه أصلان أكثر. فهذا الموضوع كان يزعجه، والآن تم التصريح به مباشرة.
كان يعلم أن فيفيان لا تثق به. وكان ذلك طبيعياً.
لطالما كان بارداً معها. بل وصرّح أمام الجميع بأنها لا تصلح لأن تكون دوقة كبرى حتى لو مات.
والآن، حين يتذكر ذلك، يبدو كأنه كان مجنوناً. مجرد بقاء فيفيان إلى جانبه حتى الآن، أشبه بالمعجزة.
“نعم، إنها معجزة. ربما تكون هذه آخر فرصة منحتني إياها.”
كان ينوي أن يأخذ وقته ليعتني بقلب فيفيان بلطف. وقد بدأت الأمور تسير على ما يرام، فهي بدأت تتقبله شيئاً فشيئاً.
عندما عانقته أولاً داخل العربة، ارتجف جسده كله من شدة التأثر.
كم من الصبر بذل ليصل إلى هذه المرحلة.
ولا يمكن السماح لأي شيء أن يفسد ذلك.
“أنتَ حريص على ألا يصل شيء إلى مسامع فيفيان، أليس كذلك؟”
“بالطبع. لقد أمرت الخدم بعدم التحدث، ونحن نحذر دائماً عند إدخال أي شخص من الخارج.”
“الحذر لا يكفي. يجب أن نكون أكثر صرامة.”
أمسك أصلان بملف آخر موضوع بجانب مكتبه. كان تقريراً أسبوعياً يقدمه أطباء العائلة عن حالة فيفيان الصحية.
“كما توقعت، من الأفضل الإسراع في إقامة الخطوبة.”
لم يكن وجه أصلان و هو يقرأ التقرير مبشراً.
رغم أن الأعراض خفت، إلا أن الشكوك ما زالت قائمة بشأن تعافيها من السل. وأضاف التقرير أنه لا يمكن ضمان كم من الوقت ستبقى صامدة.
وفي تلك اللحظة التي انطفأ فيها بريق عيني أصلان، تدخل ديلان بحذر.
لم يكن لديه سوى تفسير واحد لرغبة سيده المفاجئة في تعجيل الخطوبة.
“سيدي، هل تفكر في الختم؟”
“…”
“ينبغي أن تكون حذرًت. من أجل سعادتك، ومن أجل السيدة أيضاً.”
“لكن لا أرى وسيلة أخرى لإنقاذ فيفيان.”
الختم كان نوعاً من العقد يربط بين الكائن الملعون و رفيقه.
بإجراء طقس معين يتبادلان فيه الدم و يمارسان العلاقة الجسدية، يظهر على قلبيهما نجمة خماسية مقلوبة، رمز الشيطان، و يكتمل الختم.
“إذا اكتمل الختم، فستصبح حياة فيفيان مرتبطة بحياتي. لن تموت ما دمتُ حياً.”
“لكن إن لقيتَ حتفكَ، فستموت السيدة أيضاً. دون أن يكون هناك وقت للتصرف.”
كان لأصلان كثير من الأعداء.
الإمبراطورة و ولي العهد اللذين وضعوا عليه اللعنة، والنبلاء الذين قاموا بنفيه إلى الشمال وهو طفل، والإمبراطور الذي يتوجس من مؤيديه.
ولذلك لم يستطع أصلان التحدث عن الختم بسهولة.
لأنه إذا مات فجأة، فإن فيفيان ستموت معه.
“لكني لا أستطيع أن أقف مكتوف اليدين وأخسر فيفيان.”
“وهذه ليست المشكلة الوحيدة، أليس كذلك؟”
لم يكن ديلان يحمل أي ضغينة ضد فيفيان.
بل على العكس، كان يأمل أن تبقى بجانب سيده أطول فترة ممكنة، انها كانت تهدئ من طبيعته العنيفة والمتهورة.
لكن رغم ذلك، كان أصلان أهم من أي أحد بالنسبة له.
“إذا خانتكَ السيدة، فلن تعود بشرياً مجدداً.”
“لا يهمني.”
“ألستَ تكره الوقت الذي تقضيه محبوساً في أعماق وعيكَ حين تنشط اللعنة؟ ألا تذكر كيف عانيت حين رأيت صراخك…؟!”
“قلت إن ذلك لا يهمني!”
احترقت الوثائق في يد أصلان و تحولت إلى رماد بفعل قواه السحرية.
وكان ذلك دليلاً على غضبه الحقيقي. فخفض ديلان نظره واستسلم بصمت.
“وإذا تم الختم، فسيظهر أثره على جسد السيدة أيضاً، كيف ستفسر ذلك لها؟ هل يمكنكَ أن تخبرها كل شيء؟”
أن يخبرها أنه ليس إنساناً كاملاً. وأنه ضحية للَّعنة التي توارثها العرش الإمبراطوري.
لم يكمل ديلان كلامه، لكن أصلان فهم مقصده.
فإذا تم الختم، سيظهر رمز شيطاني داكن اللون على صدر فيفيان. علامة لا يمكن لأحد إنكارها.
“أجل، كنت أحمق.”
مسح وجهه الجاف بيديه بصمت. وخفت الهالة السوداء التي كانت تحيط به.
“لا أستطيع إخبار فيفيان بأي شيء…”
كل الكراهية العلنية التي واجهها كلما اكتُشف سره.
نظرات الناس التي كانت تراه كوحش. والاشمئزاز من مجرد وجوده.
منذ عودته من بلاكفورد لم يعد مضطراً لتحمل ذلك، لكن إن فعلتها فيفيان…
إن نظرت إليه بتلك الطريقة…
“مع ذلك، سأمضي بحفل الخطوبة. حتى لو لم يكن من أجل الختم، أريد توثيق علاقتنا أكثر.”
“إذاً سأبلغ كبير الخدم لبدء الترتيبات. ويجب أيضاً إرسال رسول رسمي إلى إليونورا.”
لاحظ ديلان أن سيده قد تراجع عن قراره، فجمع الوثائق المحترقة وانحنى مودعاً.
وقبل أن يغادر الغرفة، تذكر فجأة وسأل
“سيدي، هل تقدمتَ إلى السيدة رسمياً؟”
“هذا أمرٌ بديهي. أنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟”
هز أصلان لسانه وكأنه يسمع مزحة سخيفة.
لقد بذل كل ما في وسعه حتى الآن ليغري فيفيان.
حسم الأمر بحزم مع الإمبراطور الذي طالب بإلغاء الخطوبة، وسحق خصومه الذين كانوا يطمعون في فيفيان حتى سقطوا من مناصبهم.
كما أنه سعى لكسب ودّ شقيقها أليكس بكل ما أوتي من جهد، وقدم لفيفيان مرارًا وثائق الزواج مع هدايا خطوبة صادقة من قلبه.
“سموك.”
لكن تعبير ديلان بعد سماع رده كان معقدًا على نحو غريب. عبس كما لو أن الأمر يسبب له صداعًا.
“ليس هذا ما أعنيه.”
أخيرًا، قال ديلان ما كان كل خدم القصر يرغبون في قوله.
* * *
يبدأ يوم فيفيان، التي تحب النوم في الصباح، متأخرًا قليلاً عن الآخرين.
في أبكر الأحوال عند العاشرة صباحًا، وفي أبعد تقدير عند الحادية عشرة.
تستيقظ متأخرة وتأخذ حمامًا لتدفئة جسدها أولًا. لا تبقى طويلًا، حوالي ثلاثين دقيقة تقريبًا.
ثم تخرج لتجفف شعرها، وعندها يدخل أصلان ليقوم بتمشيط شعرها وتدليك رأسها.
مر على هذا الروتين حوالي أسبوع، وقد دام أكثر مما كانت تتوقع في البداية أن يكون مجرد حماس لثلاثة أيام.
وكان ذلك حين كانت فيفيان مسترخية في حوض الاستحمام المزين بورق الورد.
“سيدتي، وجهكِ محمر قليلاً. هل تشعرين بالدوار؟”
“الآن وقد ذكرتِ ذلك، أعتقد أنني كذلك. ربما عليّ الخروج الآن.”
“نعم، إذًا سأخبر السيد أنكِ ستخرجين الآن.”
كان الخدم يعتنون بفيفيان أكثر من سيدهم نفسه.
فلم يسبق لهم أن رأوا أصلان يعامل أحدًا بلطف كهذا. ولهذا السبب أصبح جو القصر، الذي كان كالمشي على حد السكين، أكثر دفئًا وراحة.
وكان هذا أكبر تغيير حدث منذ دخول فيفيان إلى القصر.
ركضت إحدى الخادمات لتخبر السيد بأن سيدته ستخرج.
“تعالي من هذا الاتجاه، سيدتي. احذري حتى لا تنزلقي.”
“حسنًا.”
“هل تودين الوقوف أمام المرآة؟”
سلمت فيفيان جسدها للمناشف الكبيرة التي حملتها الخادمات.
لم يكن ينبغي لها أن تعتاد على هذه الحياة المريحة. تمتمت بهذا لنفسها ونظرت إلى المرآة.
ثم أمالت رأسها قليلاً.
“ما هذا؟”
كان هناك شيء يلمع فوق صدرها الأيسر، حيث يوجد القلب.
ظنت أنه ربما ماء لم يُمسح جيدًا، لكن الخادمات كنّ قد جففن جسدها بعناية حتى آخر قطرة.
مررت فيفيان بإصبعها عليه.
“……؟”
بدلًا من أن يزول، زاد توهجه ثم خفت مرة أخرى، وإن لم يختفِ كليًا بل عاد إلى بريقه الأولي.
“إيما، هل ترين هذا الشيء؟”
“ما الذي تعنينه يا سيدتي؟”
سألت فيفيان كبيرة الخادم، إيما، التي تجاوزت منتصف العمر. لكنها اكتفت بملامسة عدستها دون أن تعطي إجابة واضحة.
‘أعتقد أن بصرها بدأ يضعف.’
قررت فيفيان أن تهدي إيما مكملات غذائية للعين وسألت باقي الخادمات. لكنهنّ جميعًا هززن رؤوسهن بالنفي.
‘هل أصاب ضعف البصر الجميع دفعة واحدة؟’
فكرت فيفيان أنه ربما ينبغي لها أن تطلب كمية أكبر من المكملات، ثم صرفت الخادمات.
وبقيت وحدها تتأمل في المرآة، غارقة في التفكير.
“يبدو كنجمة خماسية مقلوبة.”
كان له لون فضي شفاف بالكاد يُرى. لكن إن ركزت النظر جيدًا، فبإمكانها تمييز شكله الخافت بوضوح.
التعليقات لهذا الفصل "23"