تذكّرت إيريس اللحظة المرعبة التي سُرق فيها تذكار والدتها.
كانت في وسط المدينة المزدحم بالحشود، لكن لم يساعدها أحد. رغم صراخها، لم يفعل الناس سوى المشاهدة، و ما زاد الطين بلّة أن ساقيها بدأت تضعفان شيئًا فشيئًا.
في اللحظة التي ظنت فيها أن لقاء والدها قد أصبح مستحيلاً للأبد—
“هل أنتِ بخير؟ هل تأذيتِ في مكان ما؟”
تصدّت المنقذة النبيلة للصّ الذي سرقها. رغم أن جسدها كان صغيرًا ونحيلًا، إلّا أنّها وقفت في وجه لصّ يفوقها حجمًا بعدّة مرّات.
الرجل الذي كان يقف خلف منقذتها، و الذي كانت تظنه مجرد حارس، هو من قام فعليًا بضرب اللص حتى أوشك على الموت.
لكنّه لم يكن ليتدخل لولا المنقذة التي تصدت للّص أولًا. لقد تدخل فقط لأنه اضطر إلى حماية المنقذة.
“لقد نلتُ من المنقذة فضلًا لن أنساه طوال حياتي. تذكار والدتي هو دليلي الوحيد على أنني ابنة والدي الحقيقية.”
“أوه، يبدو أنكِ عانيتِ كثيرًا من نواحٍ عدة.”
لو أن المنقذة طلبت منها أن تشرح قصتها من البداية للنهاية، لما ترددت.
لكنّها بدت و كأنها فهمت وضعها بكلمة واحدة، ولم تسألها شيئًا، بل اكتفت بمواساتها.
“كانت شخصًا مشرقًا وجميلًا وحنونًا. حتى اليد التي التقطت لي الحقيبة كانت بيضاء كالعاج. ربما كانت من النبلاء الرفيعين الذين جاؤوا للاستجمام في الجنوب.”
في الجنوب كانت هناك منتجعات شهيرة، ولهذا رأت إيريس الكثير من النبلاء أثناء إقامتها هناك.
كانت إيريس تؤمن بأنها ستلتقي بتلك المنقذة مجددًا حالما تستقر في بيت الدوق. وعندما يحدث ذلك، أرادت أن تصبح صديقتها المقربة.
‘لذا عليّ أن أتحلّى بالقوة. أستطيع فعلها.’
عقدت إيريس العزم وأومأت برأسها.
* * *
كانت شمس الصباح قد بدأت تشرق.
نامت فيفيان مبكرًا الليلة الماضية بسبب نوبة خفيفة من مرض السل، وها هي الآن تنظر بعيون حائرة إلى الشخصين الجالسين أمام سريرها يتحدثان بود.
“أعتذر، سمو الأمير. قلت كلامًا غير لائق البارحة.”
“لا تأخذ الأمر على محمل الجد. بل على العكس، أود أن أكون على علاقة طيبة معك. سمعت أنكَ العائلة الوحيدة التي تعتمد عليها فيفيان.”
“كان والدنا دائمًا باردًا معنا نحن الأخوين. بعد وفاة والدتنا المبكرة، لم يكن لدينا من نعتمد عليه سوى بعضنا البعض.”
أليكس، الذي كاد يقطع عنق شخص آخر في الليلة الماضية، كان الآن يجلس بكل هدوء على الأريكة يتبادل الحديث مع أصلان.
لكنّ ما كان أكثر إدهاشًا هو موقف أصلان نفسه.
فهو الابن الثاني للإمبراطور، وسيد الشمال، ومع ذلك ينادي أليكس، الدوق الصغير، بلقب “أخي” بكل مودة.
‘هل هناك مشكلة ما أصابت سمعي؟’
أدخلت فيفيان إصبعها في أذنها. لكن لم يتغيّر شيء.
“لذلك قررت الدراسة في الخارج. ظننتُ أنني إن اجتهدتُ و كسبت القوة، فلن يستطيع والدنا تجاهلنا نحن الأخوين بعد الآن.”
لقد ظنّت البارحة أنه مجنون. لكن تبيّن الآن أنه مجنون له قصة خلف ذلك الجنون.
أومأت فيفيان برأسها بصمت، حينها التفت إليها أصلان.
ما إن التقت عيونهما حتى نهض واقترب منها.
“وجهكِ شاحب. كيف تشعرين، فيفيان؟”
“لست في حالة سيئة.”
“بما أنك استيقظتِ، فارتدي معطفكِ و سنعود حالًا. لا أثق بأطباء هذا المكان.”
“نعود؟ لكننا لم نلتقِ بأختي بعد.”
“ستكون هناك فرص دائمًا.”
“أريد فقط رؤيتها ولو للحظة.”
في الحقيقة، أرادت أن ترى اللحظة التي يتعرف فيها هو و البطلة الأصلية على بعضهما كأنها مشيئة القدر! لأنه في تلك اللحظة سيُفتح طريق نجاتها!
ويبدو أن أمنية فيفيان الصادقة قد وصلت، إذ تدخّل أليكس لمساعدتها.
“كما قالت فيفيان، ماذا لو بقيتما ليلة إضافية؟ لقد عادت إلى المنزل بعد فترة طويلة، ويبدو أن والدي و إيريس قد أنهوا التحضيرات للعشاء أيضًا.”
“صحيح. فقط ليلة واحدة، حسنًا؟”
في الحقيقة، كانت فيفيان تعتقد أنها لا تحتاج حتى لليلة واحدة. كانت واثقة أن الأمور ستسير بسلاسة ما إن يتقابل الاثنان.
لكن تلك الثقة انفجرت كليًا في لحظة.
“يا منقذتي؟”
اللقاء المنتظر. إيريس تعرّفت على فيفيان كما لو كان الأمر قدرًا.
“كيف وصلتِ إلى هنا…؟”
“من تكونين؟”
“ألا تتذكرينني؟ التقينا في الجنوب!”
“حافظي على وقاركِ، إيريس. ألم أحذّركِ مسبقًا؟”
تدخّل الدوق الذي رتّب هذا اللقاء بنبرة منزعجة محاولًا لفت الانتباه، لكن دون جدوى.
حتى أثناء تناول الطعام، بقي نظرها مركزًا على فيفيان وحدها.
عندها فقط أدركت فيفيان أن الفتاة التي قابلتها في شوارع الجنوب كانت هي البطلة الأصلية. لم تتعرف عليها حينها لأنها كانت تغطي رأسها بالقلنسوة.
‘لكن ما الذي يحدث هنا؟ أصلان يجلس إلى جانبي و يبدو بكامل وعيه، إذن لماذا تنظر إليّ أنا فقط؟’
آه، من الواضح أن الاثنين لم يتعرفا بعد على بعضهما البعض.
حسنًا، حان وقت التدخل.
“أختي إيريس ، هذا هو الدوق الأكبر بلاكفورد. هو من تصدّى بشجاعة للص وقتها. أنتِ تذكرينه، أليس كذلك؟”
“لقد ناديتِني بهذه الألفة…!”
لكن ما جذب اهتمام إيريس كان شيئًا آخر.
“هل يمكنني مناداتكِ بنفس الطريقة؟ لطالما تمنّيت أن يكون لي أخت صغرى جميلة و محبوبة مثلكِ ، فيفيان.”
“بالطبع، هذا من دواعي سروري…”
“لا تفكري برفض ذلك. إيريس أختكِ الكبرى، فعليكِ أن تقدمي لها الاحترام كما يليق بالأشخاص الكبار.”
تدخل الدوق الذي ظل يظهر انزعاجه طوال الوقت.
“لقد سببتِ ضررًا كبيرًا لسمو الأمير بالـوصية مزورة، و ألحقتِ العار بسمعة عائلتنا، ومع ذلك لم تنطقي بكلمة اعتذار واحدة. وقاحتكِ لا توصف!”
آه، صحيح، لم أفكر أنني سأُوبّخ من قبل الدوق.
أسرعت فيفيان بخفض بصرها. ولم تنس أن ترتسم على وجهها تعابير مظلومة لتُظهر ندمها الصادق.
لكن غضب الدوق لم يهدأ على الإطلاق.
“لأُعالج هذا الموقف، هرعت بنفسي إلى القصر الإمبراطوري و قابلتُ الإمبراطور و الإمبراطورة. هل تتخيلين، بعقلك القاصر، كم كانت الإمبراطورة مذهولة و محرجة؟!”
“….”
“أنتِ لا تستحقين أن تصبحي دوقة. لقد طلبت بنفسي من جلالة الإمبراطور و الإمبراطورة فسخ الخطوبة. وقد وافقا، فلتعلمي ذلك!”
حقًا؟ إذن لم أعد مضطرة للزواج؟ أبي، أنتَ الأفضل!
رفعت فيفيان رأسها بحماس.
ويبدو أن رد فعلها أرضى الدوق، فقد لوا شفتيه ساخرًا.
“لماذا، هل تفاجأتِ؟ هذا ليس كل شيء. لقد وجدت لكِ زواجًا يناسب تهوركِ.”
“زواج؟”
“قبل نهاية هذا الشهر، ستتزوجين من الدوق نيكولاس و تذهبين إلى مناطق الحدود. فهو من خدم الإمبراطوية بجد، و قد أصبح أرملًا في سن الخمسين، وهذا يقلق جلالة الإمبراطور و الإمبراطورة كثيرًا. وهذه فرصة مشرفة لكِ…”
“بأي حق تفعل هذا.”
في اللحظة التي بدأت فيها فيفيان تشعر بالغرابة، دوى صوت أصلان بنبرة باردة.
“بأي حق ترسل فيفيان؟”
“هذا أمر تم إقراره بموافقة جلالته. وقد علمتُ أن مرسومًا إمبراطوريًا قد صدر بالفعل برفض الخطوبة مع سموك.”
“آه، هكذا إذًا الأمر.”
طق، طق—
أصابع أصلان أخذت تضرب الطاولة بإيقاع منتظم.
رغم بساطة الفعل، إلا أن ضغطًا خانقًا أشبه بعد تنازلي لقنبلة سيطر على الأجواء.
“أنا لستُ من أصحاب الصبر الطويل.”
“ك، كحـم.”
“الزوجة التي ماتت مؤخرًا كانت الرابعة، أليس كذلك؟ يقولون انه حادث مؤسف… لكن، كيف كان الأمر فعلًا؟ أظن أن نبيلًا مثلكَ يعرف الحقيقة.”
ما الذي حدث؟ كيف ماتت؟
كانت فيفيان فضولية، لكنها لم تجرؤ على السؤال. نظرات أصلان بدأت تشتعل باللون الأحمر.
هذه إشارة خطر.
كان من الأفضل الآن أن يتراجع و يخضع، لكن الدوق لم يدرك ذلك، بل تمادى أكثر.
“سأقدّم لكَ بدلًا عنها امرأة أفضل، سمو الأمير. ابنتي إيريس التي تقف هنا تختلف عن فيفيان؛ فهي رزينة ومحافظة.”
“هوه…”
أمال أصلان رأسه و هو ينظر إلى إيريس كما لو أنه يقيّمها.
رغم أن ملامحه كانت باردة كالجليد، لم يلحظ أحد ذلك.
وأخيرًا، لم تعد إيريس قادرة على التحمل، فنهضت فجأة.
“أنا… أنا أرفض. هل تنوي أن تجعلني شخصًا وضيعا يسرق خطيب أخته؟”
“اصمتي. كيف تجرؤين على التدخل في مسألة عائلية بهذه الأهمية!”
“هذا أمر غريب. والدي وصف فيفيان بالماكرة والمخيفة، لكن الفتاة التي التقيت بها في الجنوب كانت لطيفة بكل وضوح…”
صفعة! انقلب رأس إيريس بشدة. لقد صفعها الدوق على خدها.
لم تستطع تحمل الصدمة وسقطت على الأرض منهارة. هرعت فيفيان إليها مذهولة.
“أختي، هل أنتِ بخير؟”
“لماذا يحدث هذا…”
“رفض أمر إمبراطوري يُعد خيانة! زواج فيفيان قد تقرر بالفعل، وأنتِ لا شأن لكِ لتتدخلي!”
ضغط الدوق على إيريس بهيبته. فارتعبت إيريس من هذا الجانب غير المألوف في والدها و اختبأت في حضن فيفيان.
حتى احتجاج أليكس لم يُستثنَ، فقد أحدث جلبة، ثم جُرَّ خارج قاعة العشاء.
توجهت نظرات الدوق إلى فيفيان هذه المرة.
“اقسمي في هذا المكان أنكِ ستتزوجين من الدوق الحدودي نيكولاس.”
“…..”
“لماذا لا تتكلمين؟ هل تحتاجين إلى صفعة لتستعيدي رشدكِ؟!”
“نعم، اضربني إذن. إن كنتَ قادرًا على ذلك.”
“كيف تجرؤين على الرد بهذه الطريقة؟!”
كان فاقدًا لصوابه من شدة الغضب. وكأنه نسي وجود الضيوف، رمى كأس نبيذ نحو فيفيان.
لكنها تفادته بسهولة بعين حادة، فازداد وجه الدوق احمرارًا من الغيظ.
“يا لكِ من وقحة… هل تحتاجين للضرب و السجن لتدركي خطأكِ؟!”
وفي اللحظة التي رفع فيها يده نحو فيفيان غارقًا في نوبة غضب، كان أصلان قد نهض بالفعل وأمسك بمعصمه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "17"