الفصل الجانبي 11
“أصلان، افتح عينيك. استيقظ.”
على الرّغمِ من هز فيفيان لكتفيه، لم يستيقظ بسهولة.
“أرجوكِ، آه، لا تذهبي…”
كان من الواضح أنه يرى كابوسًا، حيث أصبح تنفسه أكثرَ حدّة. عندما كانت على وشكِ هـزّهِ بقوّة أكبر، انقلبت رؤيتها في لحظة.
دُفعت بعنف دونَ سابقِ إنذار، وتدحرجت نصف دورة على السرير.
“….!”
في الظّلام، لمعت عينان ذهبيتان ببريقٍ حاد.
كان يحدّق بها كوحشٍ يحدد فريسته، كما لو أنه سيبتلعها بالكامل.
من الصّدمة المفاجئة، لم تستطع الكلام، فقط رمشَت بعيون مذهولة. ثم، فجأةً، أصبحت نظرته القاتلة ضبابية.
تحسّسَ الشخص تحتَ يديه كما لو كان يتأكد من شيء، ثم سحب يديه بسرعة و فرك وجهه.
“هاا، ها…”
“هل أنتَ بخير؟”
“آسف، حقًا. ظننتُ أنني أحلم.”
تنهّدَ بعنف و ضمَّ فيفيان بقوة، كما لو أنه لا يريد أن يفلتُ حتى خصلة شعر واحدة.
“هل فزعتِ؟ هل أنتِ بخير؟ هل أصبتِ في مكان ما؟”
“فزعت قليلاً، لكن لا بأس. هل يمكنُ أن أتأذى من التّدحرج على سرير ناعم؟”
“أنتِ رقيقة جدًا. و فوق ذلك، أنتِ الآن…”
مرر كفه الكبيرة الخشنة ببطءٍ فوق بطنها.
حتى هذه الحركة البسيطة نقلتْ قلقه الشديد، لكن فيفيان لم تجد ذلكَ مريحًا.
لم يكن أصلان قلقًا على الطّفل في بطنها، بل كان قلقًا من أن يؤذيها الطّفل.
‘تصحيح التشوه يعني تصحيح القدر. خلالَ هذه العملية، قد تنفتح ذكريات الروح.’
فهمت الآن ما كانَ يقلق هيسيوس.
أثناءَ نقل اللعنة، انفتحت بوابة الروح، وشاركا بعض ذكريات الماضي. رأى أصلان إليونورا تموت بمفردها في الكهف بسببِ ولادة صعبة.
حتى بعد إبادةِ الشّيطان أستاروت، كان لا يزال يخافـ من ذلك.
لم يستطع فصلَ الماضي عن الحاضر.
‘لأنّـه يحبّني…’
هو، الذي يتلقى إجلال و خوف العالم، سيد القارة وأقوى فرسان الإمبراطورية، صاحب الثروة الهائلة…
كان خائفًا.
بسببها فقط.
أمام حبّـهِ الهائل الذي يدمر نفسه و يعميه، شعرت فيفيان بأن قلبها يتمزق.
“هل أنا أجعلكَ تعيسًا؟”
“ما هذا الكلام؟ فيفيان، ماذا…”
“سببُ معاناتكَ هو أنا، أليس كذلك؟”
أنا سعيدة بسببكَ.
لا أستطيع القول إنني فصلتُ الماضي تمامًا عني، أحيانًا تعود تلكَ الذكريات لتؤلمني، لكن بسبب وجودكَ، استطعت العودة إلى “الآن”.
“ماذا لو أصبح هذا ثقيلًا جدًا ولم تتحمله في النهاية؟”
“فيفيان.”
“في النهاية، لن يكونَ أمامكَ سوى التّخلي عني…”
كان أصلان هو مَنْ يعاني من الكوابيس، وكان عليها أن تعزيه.
تسرّبَ صوت مرتجف بين شفتيها المضغوطتين. كتفاها المعانقتان ترتجفان.
“إذا تخلّى عني أصلان، فماذا…”
“هذا مستحيل!!”
صرخَ أصلان و ضمّهَا بقوّةٍ أكبر.
لم تكن هناك فجوة بين جسديهما، لكنه ظل يمسح جبهتها و خديها بحنان.
“كيف أتخلى عنكِ؟ كيف أفعل ذلك؟”
“آه…”
“طالما أستطيع البقاء بجانبكِ، لا، حتى لو استطعت فقط رؤيتكِ من بعيد، سأزحف من أعماقِ الجحيم مرّات و مرّات”
قبّلَ أصلان قطرات الدموع في عينيها مرارًا.
انتظرَ حتى تهدأ، لكن عندما لم تظهر أي علامة على الهدوء، حملها و خرجَ من السرير.
بينما كانت تمسح أنفها بكمها، فتح أصلان النافذة الكبيرة و خرج إلى الشرفة، لا يزال يحملها بحرص في حضنه.
“أنا بالأحرى…”
توقفَّ أصلان، كما لو كان يفكر، ثم تحدث ببطء وحذر.
“أقلق من أن تتركينني.”
“ماذا تعني؟”
“كما قلت. قد يكون جسدكِ هشًا، لكن قلبكِ قوي وثابت. حتّى بدوني، ستعيشينَ جيدًا.”
“…..”
“لكن أنا لا أستطيع. بدونكِ، لا أستطيع حتى التًنفس.”
غرقت عيناه في الظلام كمن حُكم عليه بالإعدام.
“مجرّدُ التفكير في ذلك يشعرني و كأنَّ قلبي يُمزق.”
“أصلان.”
“لو استطعتُ ربطكِ بجانبي، سأفعل أيّ شيء. حتى عندما سمعت أنكِ حامل، فكّرت بطريقة دنيئة بأن الطّفل قد يمنعكِ من تركي بسهولة.”
كان صوته مليئًا بالاشمئزاز من نفسه.
“كلما فكرتُ أنني أقيدكِ بالقوة، أشعر بألمٍ لا يطاق. أريد أن أفعل كلّ شيء لكِ، أريد أن أجعلكِ لا تندمين على البقاء بجانبي.”
هي لا تحتاج إلى شيء.
دائمًا تقول إنّها بخير.
كما لو أنها لا تحتاج إلى مساعدته، كما لو أنها قد تطيرُ بعيدًا بمفردها في أي لحظة.
“…..”
كان همس أصلان هادئًا جدًا، بالكاد مسموعًا إن لم تُصغِ.
“هل أنتَ قلق؟”
“نعم.”
“كنت قلقًا أيضًا؟”
أصبحت عينا فيفيان اللتين تنظران إليه ضبابيتين.
عاشتْ حياتها تثبت قيمتها. منذ وفاة والدتها و بدء إساءة والدها الدوق، كانَ الأمر كذلك.
من الخارج، بدت أنيقة و هادئة، كالبجعة. لكن من الدّاخل، كانت تكافح بشدة لتبقى على قيد الحياة.
ظنت أنها كانت تفعل ذلك جيدًا.
لكن عندما أصيبتْ بالسل وتخلت عنها عائلتها وخطيبها، رأت الناس يديرونَ ظهورهم دون رحمة…
أدركتْ أنّه لا شيء دائمٌ في العالم، وأن قلوب الناس تتغير كقلب راحة اليد.
قرّرت ألا تتوقّعَ شيئًا، و ألّا ترغبَ في شيء. إذا جاءت الرياح، فلتأتِ، وإذا ذهبت، فلتذهب. ستعيش بثباتٍ دون أن تهتز لأي شيء.
حتى عندما عادت بالزمن و فقدت كل ذكرياتها، كانت مشغولةٌ بالرّحيل بمفردها.
على الرغم من ألم السل و الارتباك من الوضع الجديد، لم تتدلل لأحد.
كانتْ الذّكريات المتأصلة بعمقٍ في قلبها قد جعلتها تقف بمفردها دونَ أن تدرك.
“هل جعلتكَ هكذا تشعر بالقلق؟”
“…..”
“هل هناكَ شيء خاطئ فيّ؟”
“لا، الخطأ كان فيّ. كلما رأيتكِ، شعرت أن شيئًا في رأسي معطل.”
بينما كان ليون يجلسُ على العرش، يتلقّى إجلال وخوف الجميع، كانت إيلا تموت بمفردها في كهفٍ بارد.
بينما كانَ يهرب من القصر، يبني جدرانًا قوية، و يجمع الحلفاء، كانت فيفيان تذبلُ في زاوية من منزل الدوق بسببِ السل.
“كنتِ أكثرَ مَن عانى، لكنك نهضتِ بقوة متغلبة على الماضي.”
“أصلان…”
“عندما رأيتكِ تغفرين حتى للجنوبيين، شعرت بقوتكِ مرة أخرى. و يأستُ ، لأنني لا أستطيع أن أكون كذلك…”
برزت عروق يده التي كانت تضم فيفيان.
مجرّد تذكر لحظة هجومها أشعلَ غضبًا لا يمكن السّيطرة عليه.
أراد تمزيق الذين تجرأوا على توجيه سيوفهم نحو رفيقته إلى أشلاء. كيف، بعد أن التقيا مجددًا…
“أنا لستُ قوية.”
في تلكَ اللحظة، تسللت فيفيان إلى رقبته بهدوء.
همستْ بصوتٍ منخفض، كما لو كانت تكشف سرًا.
“أصبحت قوية بسببكَ.”
الحاضر مع أصلان ثمين.
الوقت الذي تقضيه معه سعيد، لذا لا تريد أن تفقده.
“إذا بدوتُ قوية، فذلك كله بفضلكَ أنتَ ، لأنكَ حافظت على جانبي دون اهتزاز.”
“فيفيان…”
“لذا، هذه المرة، سأساعدكَ.”
أدارت فيفيان رأسها نحو النافذة المفتوحة.
في خزانة مزخرفة، كان سيفا ليوناردو و إليونورا معلقين جنبًا إلى جنب. لقد كانا يحرسان رأسيهما منذ عودتهما إلى العاصمة.
لكن الآن حان وقت التخلي عنهما.
مع الذكريات القديمة…
“أحبك، أصلان.”
شعرت فيفيان بحزنٍ غريب وقبّلت أنفه.
“أحبك.”
“…..”
تقاطعت نظراتهما في الصمت. ربما شعر بنفس الشعور، فقد زادت قوة ذراعيه التي تضمانها.
“سأحاول. لكي لا تشعري بالقلق.”
“أنا بجانبك.”
تسللت فيفيان إلى صدره وتنهدت بحنان.
كما وجدتْ الرّاحة في حضنه، تمنت ألا يعاني أصلان بعد الآن. حتى لو لم يكن ذلكَ ممكنًا الآن، ففي يوم من الأيام…
همست فيفيان وهي تعانقه.
“هل تعلم؟ طفلنا يقول إنه يحب والده.”
“…..”
“طلبَ مني الطفل إخباركَ.”
أدارت فيفيان رأسها قليلاً و قبّلت زاوية فمه قبلات خفيفة. أضاءت عيناه المظلمتان تدريجيًا مع استمرار القبلات.
تغيّرَ الجوّ فجأةً.
أعادَ أصلان ضمها بقوة وتمتم بصوتٍ منخفض و خشن.
“ألم يطلب منكُ إخباري بشيءٍ آخر؟”
“لا.”
“هذا مستحيل.”
تمتمَ بهدوء و استدار عائدًا إلى غرفة النوم.
طوال الطريق إلى السرير، كانت عيناه مثبتتين على فيفيان دون اهتزاز.
‘آه.’
أدركت فيفيان إشارة الخطر متأخرة و رمشَت، لكن كان قد فات الأوان.
لمسَ ظهرها المرتبة الناعمة. كانت مظلة السرير قد أُغلقت بإحكام بالفعل.
“إذا كنتِ ستثيرينني، فافعلي ذلك بحدود. أنتِ تعلمين أنني أفقد صوابي بسببكِ.”
“انتظر، انتظر، أ…”
“أحبك، فيفيان.”
فكّـرَ أصلان.
يومًا ما، كما تريدُ هي، سيحبّ الطفل بالكامل.
* * *
في اليوم التالي، تمددت فيفيان في الفراش، متمتمة بشيء عن “جراحة العمود الفقري سبعمائة ذهبية”، وتم توبيخ أصلان لأوّلِ مرة من قبل الطبيب المسن.
“كيف تجهد جلالة الإمبراطورة الحامل هكذا؟ هل أنتَ بكامل قواك العقلية؟”
“ليس لدي ما أقوله.”
“بالطبع يجب أن يكونَ كذلك! حتى لو كانَ لديك عشرة أفواه، لن تجد ما تقوله!”
كان الطبيب غاضبًا لدرجةِ أنه بدا على وشكِ الانهيار بسببِ ضغط الدم. لاحظت فيفيان، التي كانت تتذمر عن سبعمائة ذهبية، الموقف وحاولت التدخل بهدوء.
“لا تكن قاسيًا جدًا على أصلان. في الحقيقة، أنا أيضًا استمتعت…”
“ماذا قلتِ؟!”
تحوّلتْ نظرة الطبيب الحادة إلى فيفيان الممددة.
ندمت على التدخل، لكن كانَ قد فات الأوان.
“يا إلهي، كيف يمكنُ هذا؟ لا يمكن أن يستمر هكذا. سأعيش مع جلالتيكما في هذه الغرفة للأشهر الثلاثة القادمة.”
“هل سمعتُ خطأ؟”
“مَـنْ سمحَ بذلك؟”
“لا أسمح بالرّفض!”
أذهلَ إعلان الطّبيب المتفجر فيفيان و أصلان، لكنه تغلبَ على توبيخهما القاسي و وجباته المحرجة، وأكملَ الأشهر الثلاثة بانتصار.
كانَ انتصارًا إنسانيًا مؤثرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 138"