بعد مغادرة أصلان و فيفيان، غرقت الحديقة الخارجية في صمت مطبق. نظر يوهانس، الذي بقي وحيدًا، إلى الطاولة المبعثرة بنظرة خاطفة.
في المكان الذي كانت تجلس فيه الأميرة قبل قليل، كان هناك فنجان شاي نصف ممتلئ ، وعليه أثر من أحمر الشفاه الوردي الفاتح.
‘لأنها تحب الكلاب، تعمدت التحضير لهذا، لكن لم تتح لي حتى فرصة لكسب ودها.’
لم يكن الأمر سوى مزحة بسيطة.
[تحب الكلاب ذات الأربع أرجل، ذات الفرو الكثيف واللطيفة.]
لأن هذا ما ورد في تقارير أتباعه، أراد فقط أن يرى كيف ستتفاعل الأميرة.
“كنت أظن أنه إن بدا عليها الإرتياب أو الشك، يمكنني قتلها فحسب، و إن لم يكن ذلك، فسوف أتمكن على الأقل من الإمساك بنقطة ضعف لها.”
تخيل ملامح وجه الأميرة التي تتبادر إلى الذهن تلقائيًا.
عينان كبيرتان كالدُمى، شفاه ناعمة و طرية، خط فك دقيق. بشرة بلون الحليب و حركات رقيقة. أنفاس متقطعة بينما تتألم و تتقيأ دماً.
ثم…….
هل كانت دائمًا بهذه الهالة؟
“لا أشعر بخيبة الأمل. أصلان فقط لم يرغب في إساءة استخدام سلطته كأمير.”
“أعلم أن الشائعات حول أصلان ليست جيدة، لكنني أؤمن به. أصلان شخص يمتلك مثلًا عليا نبيلة و رفيعة. و بالطبع، سمو ولي العهد يعرف ذلك جيدًا.”
ما مقدار اليقين الذي كان يشعّ من عيني الأميرة عندما صرّحت بذلك؟ بل ولم تنس حتى أن ترفع من شأن ولي العهد بينما تدافع عن أصلان.
“هل كانت تُخفي حقيقتها؟”
سحب يوهانس فنجان الشاي الذي شربت منه بيفيان ببطء نحوه.
كان في الأصل ينوي التفرقة بين أصلان و الأميرة.
على أي حال، الرابط بينهما كان أضعف من خيط رفيع. أصلان احتفظ بفيفيان إلى جانبه فقط لأسباب سياسية.
أما الحب الذي كانت تتوق إليه، فكان من الطبيعي ألّا يمنحها إياه.
“هل تعرفين لماذا يهتم أصلان بكِ هكذا؟ بسبب ثروتكِ و مكانة عائلة إليونورا السياسية.”
مرّر يوهانس إبهامه ببطء على أثر أحمر الشفاه الوردي على الفنجان.
“عندما تواجه الحقيقة التي ظلت تتجاهلها حتى النهاية، يا ترى، ما هو الوجه الذي ستبديه الأميرة؟”
مسح يوهانس إصبعه الملطخ بأحمر الشفاه على شفتيه.
ومع انحراف زاوية شفتيه و كـأنه ينتظر شيئًا، كان يبدو وجهه كأنه رجل متعطش.
* * *
عاد أصلان إلى القصر، وظل بجانب فيفيان المُغمى عليها طوال الليل.
ولأنها لم تستيقظ بسهولة، استدعى جميع الأطباء المشهورين في الجنوب. لكن جميع الردود كانت واحدة.
“بسبب تطور المرض بشكل حاد، أصبحت حالتها الجسدية ضعيفة جدًا. بهذا الشكل، لن تصمد أمام أي دواء.”
“في هذه المرحلة، العلاج الوحيد الممكن هو مساعدتها على الراحة. نأسف، لكن لا يمكن توقع أي تحسن في حالتها.”
“عليكم توخي الحذر التام لئلا تبذل مجهودًا. إن فقدت وعيها مرة أخرى كما حدث الآن، فلن يكون بالإمكان ضمان ما سيأتي بعدها.”
كانت شظايا الأثاث المحطم مبعثرة عند قدمي أصلان التي كان ثابتًا كالصخر.
غرفة نوم فيفيان أصبحت فوضى كما لو أن وحشًا اجتاحها. حدث هذا لأن أصلان لم يستطع كبح جماح غضبه المتصاعد.
ورغم ذلك، كانت المنطقة المحيطة بسرير فيفيان خالية تمامًا حتى من ذرة غبار. حتى في لحظة فقدانه السيطرة، لم يجرؤ على لمس محيطها خشية أن يؤذيها.
لا، بل شعر كأنه جرثومة قذرة، فلم يجرؤ على الاقتراب منها.
“فيفيان…….”
ناداها، لكن مهما انتظر، لم يكن هناك أي رد.
شعر وكأن أحدهم يخنقه.
كان يعلم مسبقًا أن يوهانس قد جاء إلى الجنوب. لكن عندما سمع أن فيفيان كانت برفقته، لم يستطع إلا أن يشك.
هل هذا هو السبب في إصرارها على الخروج بمفردها؟ لقد وثق بها و لم يضع أحدًا يرافقها، فهل كان هذا خطأ في التقدير؟
‘هل عليّ أن أجعل عيني فيفيان لا ترى أحدًا غيري طيلة حياتها؟’
لو كان ما في قلبها له، لكان ابتلع حتى سمّ الحقد الحلو المذاق.
“رغم وجود أفضل الأطباء في الإمبراطورية، هل يعقل أن لا يكون هناك من يفوق طبيب القصر؟ يكفي أن يتحدث أصلان، لكنه خطيب مهمل حقًا. ألا تشعرين بخيبة الأمل؟”
عندما وصل إلى قصر أدريان، كان صوت يوهانس يحمل سخرية واضحة.
غضب شديد صعد إلى رأسه. أراد أن يقتلهم جميعًا ويأخذ فيفيان. أراد أن يحرمها من رؤية ضوء الشمس طوال حياتها كعقاب لخيانتها له.
لكن صوتها الذي تلا ذلك، كان واضحًا وحاسمًا.
“أعلم أن الشائعات حول أصلان ليست جيدة، لكنني أؤمن به. أصلان شخص يمتلك مثلًا عليا نبيلة ورفيعة.”
لقد وثقت به.
رغم همسات يوهانس المقنعة، لم تهتز وقالت إنها تثق به.
“كيف يمكن لها أن تفعل ذلك؟ ماذا فعلتُ بكِ أنا يا فيفيان…”
لقد تفوّه بكلمات قاسية لا تُحصى في وجهها حتى الآن.
“منصب الدوقة الكبرى لن يكون لكِ أبدًا . قريبًا ستصلكِ وثيقة فسخ الخطوبة، فانتظري بهدوء.”
قال لها ذلك بحدة في الحفل، بينما كانت تسعل دمًا وتعاني.
عندما عادت إلى القصر و تلقت تشخيصًا بأنها مصابة بالسل، تُرى ماذا كان يدور في ذهن فيفيان حينها ؟
“حتى وإن كان الأمر كذلك، لا يمكنني أبدًا التخلي عنكِ.”
كان أصلان يتجول بالقرب من السرير و كأن هناك خطًا غير مرئي يمنعه من الاقتراب، لكنه في النهاية تقدم.
كانت فيفيان النائمة تبدو جميلة بشكل يخطف الأنفاس.
رغم أن التفكير بهذه الطريقة أمام خطيبته المنهارة مثير للاشمئزاز و مقزز، لكنه لم يستطع فعل شيء حيال ذلك.
فهو حيوان قذر منذ البداية.
“اعتبريه ثمناً لتورطكِ مع شخص مثلي.”
مغطى بكل شرور العالم و حقده، حتى فيفيان لو علمت بحقيقته فستهرب دون شك…
إنه وحش كهذا.
* * *
كان صباحًا باكرًا يغرد فيه طائر أزرق.
استيقظت فيفيان، و فوجئت أولًا بأنها لا تزال على قيد الحياة، ثم فوجئت مرة أخرى بأن أثاث غرفة نومها قد تغيّر بالكامل.
فكرت في الوضع الحالي بعقلانية وحذر بالغ.
‘أليستُ ميتة حقًا هذه المرة؟ ربما تم الاشفاق عليّ لأنني متّ بطريقة مؤسفة؟’
الوفاة بسبب الاختناق بصدر خطيبها ذو العضلات الضخمة.
هذا يشبه تقريبًا طريقة موت سمكة شمس البحر. وبصراحة، لا يمكنها البوح بسبب موتها لو سألها أحد، من شدة الإحراج.
لكن هذا الوهم السعيد (؟)
لم يدم طويلاً. فقد دخلت خادمة من قصر الدوق بحذر إلى الغرفة.
صرخت الخادمة عندما رأت فيفيان مستيقظة.
“سيدتي، سيدتي!”
“أنا لستُ سيدتك.”
“يا إلهي، سيدتي قد أفاقت!”
“قلت لكِ، لستُ سيدتك!”
لكن صدى صراخ الخادمة طغى على فيفيان. بدأ المكان يضجّ بالهمهمات، ثم لم يمر وقت طويل حتى ظهر أصلان.
عيونه التي كانت مشعة كوحش، ذابت بلطف فور دخوله غرفة نوم فيفيان.
“فيفيان، لماذا خرجتِ من السرير وأنتِ مريضة؟”
“لأنني….”
كادت أن تجيب ببساطة، لكنها أغلقت فمها.
فمن تحت القميص المفتوح ، ظهرت عضلات صدر بارزة بوضوح. العضلات نفسها التي كادت تخنقها حتى الموت البارحة.
‘همف، لست خائفة أبدًا.’
تسللت فيفيان بهدوء إلى السرير. جلس أصلان إلى جانبها بوجه مرتاح.
“كيف تشعرين؟”
“لا بأس، أعتقد أنني بخير. ربما لأنني نمت جيدًا ليلة البارحة، أشعر أن صحتي جيدة.”
“فهمت. من الجيد أنكِ بخير.”
قال أصلان بابتسامة لطيفة.
“مع أن الأمر لم يكن مجرد ليلة، بل أسبوع كامل.”
“أسبوع؟”
“عندما لم تستيقظي لفترة طويلة، شعرتُ بالذنب. شعرت أن حالتكِ تدهورت لأنني تركتكِ وحدك، و لم يكن ذلك شعورًا جيدًا.”
عليكَ أن تكون صريحًا! السبب في الحالة التي وصلتُ اليها هو عضلات ذراعك!
تجاهلت فيفيان الصراخ في رأسها و رفّت بعينيها ببراءة. لأنها…
“من الأفضل أن تبقي في القصر حتى تستعيدي عافيتكِ.”
“ها؟ أنا بخير في الواقع….”
“قلت انه من الأفضل أن تبقي.”
كانت عينا أصلان تلمعان بخطورة. و حتى الخدم الواقفون خلفه كانوا يتوسلون إليها بأيديهم مطوية.
أحست بخطر يخترق مقدمة دماغها، يُنذرها بأنها إن رفضت، فلن ترى خيرًا أبدًا.
“بالطبع. أنا مريضة، فإلى أين سأذهب بخلاف البقاء بجانبك؟”
حينها فقط، ارتسم على وجه أصلان تعبير راضٍ. لكن فيفيان بدأت تقلق.
‘ما الأمر؟ ماذا حدث؟ لا يمكن أن يكون هناك سوء فهم لم يُحل في قصر أدريان، أليس كذلك؟ أنا لم أتحدث عنه بالسوء، ألم يسمعني أدافع عنه؟!’
لم تكن فيفيان تفكر كثيرًا في أحداث القصة الأصلية حتى الآن.
فهي مجرد شريرة مؤقتة على وشك الخروج من المسرح. إذا كانت الأحداث ستتسارع، فهي ستحدث للبطلة، فمَن كان يظن أن الأمور ستمتد حتى تصل إلى الشخصيات الثانوية؟
لكن فيفيان اضطرت إلى الاعتراف. لم يكن أمامها خيار سوى الإقرار.
‘حدسي كان فاسدًا تمامًا.’
فقد وصلت رسالتان رسميتان في الوقت نفسه من العاصمة.
إحداهما موجهة إلى أصلان من القصر الإمبراطوري، والأخرى إلى فيفيان من قصر دوق إليونورا.
فتحت فيفيان رسالتها أولاً.
[بما أن أختكِ غير الشقيقة قد عادت، فعليكِ العودة إلى العاصمة فورًا.]
لم تكن ملامح أصلان أفضل حالًا.
[نرفض إتمام زواج أصلان ريجيف أستاروت و فيفيان إليونورا.]
كان ذلك نذير عاصفة.
التعليقات لهذا الفصل "13"