11.العودة إلى البِداية
أصيبُ الإمبراطور بالجنون تدريجيًا.
من الخارج، ظلّ يرتدي قناع الحاكم المطلق الخالي من العيوب، لكنه كان يراقب، كغريبٍ، روحه وهي تتآكل و تتحلل.
“تكريمًا لأفعال رفيقتي القديمة في محاربة الشيطان، سأمنح إليونورا لقب بطلة التأسيس الأولى.”
كرّمَ الإمبراطور بطلة العالم و منحَ نسلها ثروة و سلطة هائلة تتوارث عبر الأجيال:
لقبٌ عالٍ، أراضٍ ثمينة في أنحاء القارّة، حقوق احتكارية، وامتيازات لم يحصل عليها حتى أفراد العائلة الإمبراطورية.
كانَ يفضّل ابن إليونورا على ابنه الشّرعي، حتى انتشرت الشائعات عن ذلك.
نعم، كانَ ذلك الطّفل مجرّد “ابن إليونورا” للعالم.
كانَ الإمبراطور يعلم.
“إذا كَشفتُ أنني والد الطفل، سيتذكرها التاريخ كزوجتي الأولى، و ليسَ كبطلة العالم.”
سيصبحُ نسل البطلة المجيد مجرّدَ فرعٍ إمبراطوري.
لذلك، اختارَ الصمت، ابتلعَ أبوّته المشتعلة، و راقبَ نمو الفتى من بعيد.
* * *
اختفى الإمبراطور ليوناردو الأول أثناء جولة في القارّة في جبال الشمال، ولم يعد أبدًا.
كان ذلكَ في العام الثامن عشر من حكمه، عندما أصبح الفتى رجلاً بالغًا.
* * *
كانتْ حياةً مليئة بالندم.
لكن ما تبعها كانَ جحيمًا أشد.
تناسخت روح الرجل عدّة مرات، تجوّل في القارة كمجنون بحثًا عن المرأة التي ولدت من جديد.
لم يجرؤ على توقّع أن تقعَ في حبّـه مجددًا.
كلّ ما أراده هو أن يتعرّفَ عليها من النظرة الأولى، وهذه المرة، أن يحميها بيديه.
“لا أستطيع العثور عليها.”
هل لم هي لم تتناسخ؟ أم أنّهما افترقا؟ أم أن…
“حتى لو تجدّدت الحياة، وتبدلت الأقدار، وتقابلا في ظروف وأماكن مختلفة، سأقع في حبّها من النظرة الأولى.”
هل كانَ هذا العهد المشتعل مجرّدَ كذبةٍ فارغة؟
مع اقتراب الألف عام الموعودة، تناسختْ روح المرأة أخيرًا، وأصبحتْ خطيبته وفقَ تدفق القدر.
كانت نهاية تجواله الطويل تنتظره…
لكن الشيطان لم يسمح بذلك!
أعمى عيني الرجل، ودفعَ مصير المرأة إلى حافّة الهاوية.
* * *
[كانت بشرة الشريرة، البيضاء الناصعة، تلمع بالدم.
كان جسدها محترقًا و ممزقًا بالسياط، لكن فيفيان لم تصرخ، بل استمرت بلعن إيريس حتى النهاية.
أصلان، الذي سئمَ منها، قطعَ رقبتها بالسّيف.]
ماتت المرأة على يد الرجل.
فقط بعد توقّفِ أنفاسها، انقشع الضّباب عن عينيه.
“هيهيهيهي!”
أمامَ الرّجل المجنون، صرخَ الشيطان بفرح:
“أنا مَـنْ فاز! النّصر لي!”
لكن ذكريات المرأة، النائمة في قاع البحيرة الباردة، منعت الشيطان من أخذ روحيهما.
“هاه، كنتُ أعلم أنّ هذا سيحدث.”
أعادت الذكريات القدر المشوّه إلى نصابه.
لم تكن سوى كيان فكريّ مصمم مسبقًا، فلم يكن بإمكانها إعادة الزمن تمامًا، لكنها أرجعته أبعد ما يمكن.
لم يكن هناكَ وقت لتجديد الرّوحين المحطمتين، فغطّت ذكرياتهما.
في العالم الجديد، التقيا مجددًا.
“إذا أطلقتُ سراحكَ، لن تأكلني، أليس كذلك؟”
“غررر!”
“قُـلْ نعم بسرعة!”
“غررر…”
بشكلٍ مختلفِ عن الماضي.
* * *
لمعَ بريق واضح في عيني فيفيان الزرقاوين.
كأنها قرأت ملحمة قديمة، شعرتْ بالحنين والحزن.
لكن لم يكن هناكَ وقت للغرق في المشاعر.
التقطت السّيف الملطخ بالدم. حانَ وقت إنهاء الرهان الطويل.
“العرش و الأميرة كلاهما لي. مت، أصلان!”
“مَـنْ سيموت ليس أصلان، بل أنت.”
استهدفت فيفيان يوهانس، الذي رفعَ سيفه نحو ظهر أصلان، واندفعت نحوه.
غاصت في منتصف جسده المكشوف، وطعنت قلبه.
“آه….!”
“اِستعِدْ ما هو لك.”
“أميرة…”
“أصلان لم يطمع بالعرش أبدًا، كلّ هذا من صنعِ يديكَ.”
تراجعت فيفيان ببطء و هي تواجه يوهانس، الذي تقيأ دمًا.
أكملت جميع الشروط. مع نقلِ اللعنة وكسرها، اندفعت الطاقة السّحرية السّوداء المحطمة نحوها كأنها ستتمزق.
طُرد الشيطان من الجسد البشري، وسعى لأخذ حياتها.
“سأجعل العالم جحيمًا مجددًا!”
أطبقتْ فيفيان على أسنانها وهي ملقاة على الأرض.
“آه، كح!”
مع اختفاء النجمة الخماسية، عادت أعراض مرض السل.
مزّق الهواء البارد رئتيها، ولم تستطع منع الدم من التدفق.
“تعالي معي!”
في اللّحظة التي اندفعَ فيها الشيطان نحوها، قفزَ أصلان، الذي كانَ يلهث من الصّدمة.
“لن تلمسها أبدًا!”
فتحَ هالة سيفه إلى الحد الأقصى، وطعن نواة الطاقة السّحرية للشيطان بدقة.
دوّت صرخة تمزق الأذنين.
صرخ بسبب الطاقة السحرية في الهواء كاستجابة للصّراخ الأولي.
تصدّعت الأرض، وانهارتٍ الجبال، وقلبت العاصفة كل شيء، مع البرق و الرّعد.
لكنها لم تكن خائفة.
“فيفيان!”
“أصلان…”
أحضان الرّجل الذي اندفعَ نحوها، ملقيًا سيفه، كانتْ أكبر وأقوى مِن أيّ شيء.
بعد أنْ افترقا طويلاً، أخيرًا…
لم يستطيعا قول شيء. كانَ شيء ساخن يعتصر حناجرهما، حتّى الكلام كان مؤلمًا.
“آسف.”
“اشتقتُ إليكَ.”
“آسف، أنا… آسف.”
تضاءل صوتُ أصلان وهو يتفقّدها مرّاتٍ عديدة.
في هذه اللّحظة، بعد هزيمة عدوه و استعادة فيفيان، كان يتشبث بها كطوق نجاة، يتحمل مشاعره الهائجة.
“لقد أخطأت.”
“أصلان.”
“أعلم أنّكِ لنْ تسامحيني. لمسي لكِ قد يكون مقززًا . لكن أرجوك، لمرّةٍ واحدة فقط…”
مرّت فِي ذهنهِ أيّام معاملته لها كحصاة، سخريته منها، دفعها إلى الحافّة، و قتلها بيده.
حتّى لحظة قطعهِ لرقبتها كانتْ واضحة.
كانَ على وشكِ الجنون، غير قادرٍ على تحمّل ذلكَ بعقلٍ سليم.
هل يمكنُه العودة؟
إذا رحلتْ الآن، لنْ يستطيعَ قولَ شيء. لن يجرؤَ على إمساكها حتّى.
“أنتَ تتألم.”
داعبتْ فيفيان فكّـهُ بِحنان.
تشبّثَ أصلان بلمستها كَما لو كانت واحة في صحراء. أضافَ قوّة لذراعيه المحيطةِ بها، و هو غير قادرٍ على إخفاءِ أنفاسه المرتجفة.
كانَ مظهره مثيرًا للشّفقة…
دفنت فيفيان رأسها في صدره، ونظرتْ إلى السّماء المظلمة.
“إنها تمطر.”
“…..”
“إنها تمطرُ بشدّة.”
على الرّغمِ من السّماء الصافية، قالت ذلك وأَغمضت عينيها.
بدأت أنفاس أصلان المتوترة تختلطُ بالرطوبة، تنتشر كتموجات هادئة على الماء.
كانَ الفجر يشرق من وراء الجبل.
* * *
مرّ الوقتُ بسرعة، حتى أزهرت أزهار الوستارية في ربيع مشرق.
دخلَ أسلان مينيرفا بصفتهِ بطلًا هزم الشّيطان المتجدد، وسطَ ترحيب عظيم.
مجّدَ النبلاء اسمه، ونثرَ الناس بتلات الزهور تحتَ أقدام الجيش الشماليّ العائد.
لم تكن هناك عقبات أمام أصلان، الذي أصبح خليفة العرش فعليًا.
أعادَ التّحقيق في وفاة الإمبراطور السابق، و أطاحَ بالامبراطورة الأم، التي ثبتت إدانتها بالقتل، إلى رتبة عامّة النّاس و سجنها. و تمَّ تدمير عائلتها.
يوهانس، العقل المدبر، كان ميتًا بالفعل، لكنه جُرّدَ من لقبه الإمبراطوري و عُـلّق رأسه كخائنٍ على بوّابة المدينة.
مع تغيير شمس الإمبراطورية، هبّت عاصفة دموية في السياسة.
هرعَ النبلاء لتأمين مواقعهم، وبعضهم حاول التقرب من أصلان أو فيفيان.
لكن فيفيان كانت منشغلة بحماية ثروتها البالغة 1700 قطعة ذهبية.
* * *
“لا أستطيع العيش هكذا!”
تجوّلتْ فيفيان في غرفة النّوم، و هي تتذمّر.
توقفّت أمام المرآة، تبدو في حالةٍ يرثى لها.
“اللّعنة زالت، فلماذا لا يزال أصلان وحشًا؟”
لم يدخلا القصر الإمبراطوري، و بقيا في منزل بالعاصمة.
السّبب الرسمي كان واهيًا، لكن الحقيقة أن القصر لم يكن مناسبًا لتعافي فيفيان.
لكنها رأت أن أصلان هو العائق الأكبر.
كان شغوفًا بها.
“عندما كانَ في هيئة أسدٍ أسود، كان لطيفًا، لكن هذا الوحش…”
احمرت وجنتاها وهي ترى علامات على رقبتها.
“آه، لا أعرف!”
كادت تموت خجلاً.
ليس و كأنها لا تريده، لكن…
كانت تحب شعور أن تكون محبوبة بحماس، لكنه لا يعرف الاعتدال.
“آه!”
جلست، وخدّاها محمرتان، و هي تصرخ بنبرة غريبة.
سمعت صوت طقطقة في ظهرها، فتأوهت.
لا يمكنها الاستمرار هكذا. حتى مع ثروتها، لا تريد إنفاق حياتها في جراحات العمود الفقري.
“إذا لم أروّضهُ الآن، سأعاني إلى الأبد.”
كما يقال، عادات الثالثة تدوم حتى الثمانين.
قرّرت فيفيان تعليم هذا الوحش الجشع “الانتظار”.
بمجردّ اتّخاذها لقرارها، لم تتردّد.
أعادتْ تفعيل خطة شاطئ الزمرد، معدلة المدة من لبقية حياتها إلى بضعة أشهر.
أعدّتْ رسالةً من أختها، التي تتدرب على السّحر في النقابة، للطوارئ.
أثناءَ الإسراع، أسقطت صندوق الرسائل، لكن الضرر كان بسيطًا.
“الآن بينما أصلان خارج القصر، حانت الفرصة.”
“هيا، فيفيان اليونورا!”
خطتْ بقوّة، لكن قبلَ أن تخرج من القصر، تمّ القبضُ عليها.
“لم تكوني في غرفة النوم، فبحثتُ عنكِ طويلاً. ماذا تفعلين هنا؟”
“هذا…”
كانت فيفيان مختبئة بين الشّجيرات في الحديقة، تنظرُ حولها بحذر.
رفعَ أصلان، الذي ظهرَ فجأة و ذراعاه مشبوكتان، عينيه إليها.
“قلتَ إنكَ مشغول اليوم!”
ضحكت فيفيان بإحراج، لكن ابتسامتها الساحرة أذهلت أصلان، فحملها بين ذراعيه وتوجّه مباشرةً إلى الدّاخل.
على الرّغمِ من أنّ الزفاف كان لا يزال على بعد شهر، كانا بالفعل في خضم شهر العسل.
• ❅────────✧❅✦❅✧────────❅ •
<نهاية القصة الرئيسية>
التعليقات لهذا الفصل " 127"